(36) س : هل قسَّم العرفاء النبوة إلى تشريعية وإنبائية ؟

 

(36) س : هل قسَّم العرفاء النبوة إلى تشريعية وإنبائية ؟

ج : إن عرفاء الصوفية قسَّموا النبوة إلى قسمين : نبوة تشريع ونبوة إنباء ، يقول ابن عربي في الفصوص : (الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع ورسالته) ، والقيصري عند شرحه للفصوص يقول : (إن النبوة والرسالة تنقسم إلى قسمين : قسم يتعلق بالتشريع وقسم يتعلق بالإنباء عن الحقائق الإلهية وأسرار الغيوب وإرشاد العباد إلى الله من حيث الباطن وإظهار أسرار عالم الملك والملكوت ، وكشف سر الربوبية المستترة بمظاهر الأكوان لقيام القيامة الكبرى وظهور ما ستره الحق وأخفى)([1]).

ويقول ابن عربي في الفتوحات : (أما حالة أنبياء الأولياء في هذه الأمة فهو كل شخص أقامه الحق في تجل من تجلياته وأقام له مظهر محمد ص ومظهر جبريل فأسمعه ذلك المظهر الروحاني خطاب الأحكام المشروعة لمظهر محمد ص حتى إذا فرغ من خطابه وفزع عن قلب هذا الولي عقل صاحب هذا المشهد جميع ما تضمنه ذلك الخطاب من الأحكام المشروعة الظاهرة في هذه الأمة المحمدية فيأخذها هذا الولي كما أخذها المظهر المحمدي للحضور الذي حصل له في هذه الحضرة مما أمر به ذلك المظهر المحمدي من التبليغ لهذه الأمة فيرد إلى نفسه وقد وعى ما خاطب الروح به مظهر محمد ص وعلم صحته علم يقين بل عين يقين فأخذ حكم هذا النبي وعمل به على بينة من ربه فرب حديث ضعيف قد ترك العمل به لضعف طريقه من أجل وضاع كان في رواته يكون صحيحا في نفس الأمر ويكون هذا الواضع مما صدق في هذا الحديث ولم يضعه وإنما رده المحدث لعدم الثقة بقوله في نقله وذلك إذا انفرد به ذلك الواضع أو كان مدار الحديث عليه وأما إذا شاركه فيه ثقة سمعه معه قبل ذلك الحديث من طريق ذلك الثقة وهذا ولي قد سمعه من الروح يلقيه على حقيقة محمد ص كما سمع الصحابة في حديث جبريل ع مع محمد ص في الإسلام والإيمان والإحسان في تصديقه إياه وإذا سمعه من الروح الملقي فهو فيه مثل الصاحب الذي سمعه من فم رسول الله ص علما لا يشك فيه بخلاف التابع فإنه يقبله على طريق غلبة الظن لارتفاع التهمة المؤثرة في الصدق ورب حديث يكون صحيحا من طريق رواته يحصل لهذا المكاشف الذي قد عاين هذا المظهر فسأل النبي ص عن هذا الحديث الصحيح فأنكره وقال له لم أقله ولا حكمت به فيعلم ضعفه فيترك العمل به عن بينة من ربه وإن كان قد عمل به أهل النقل لصحة طريقه وهو في نفس الأمر ليس كذلك وقد ذكر مثل هذا مسلم في صدر كتابه الصحيح وقد يعرف هذا المكاشف من وضع ذلك الحديث الصحيح طريقه في زعمهم إما أن يسمى له أو تقام له صورة الشخص فهؤلاء هم أنبياء الأولياء ولا يتفردون قط بشريعة ولا يكون لهم خطاب بها إلا بتعريف إن هذا هو شرع محمد ص أو يشاهد المنزل عليه بذلك الحكم في حضرة التمثل الخارج عن ذاته والداخل المعبر عنه بالمبشرات في حق النائم غير إن الولي يشترك مع النبي في إدراك ما تدركه العامة في النوم في حال اليقظة سواء وقد أثبت هذا المقام للأولياء أهل طريقنا وإتيان هذا وهو الفعل بالهمة والعلم من غير معلم من المخلوقين غير الله وهو علم الخضر فإن آتاه الله العلم بهذه الشريعة التي تعبده بها على لسان رسول الله ص بارتفاع الوسائط أعني الفقهاء وعلماء الرسوم كان من العلم اللدني ولم يكن من أنبياء هذه الأمة فلا يكون من يكون من الأولياء وارث نبي إلا على هذه الحالة الخاصة من مشاهدة الملك عند الإلقاء على حقيقة الرسول فافهم فهؤلاء هم أنبياء الأولياء)([2]).

وقد جاء عرفاء الشيعة المتأثرون فيمن سبقهم من الصوفية على هذا النمط من التقسيم وقسَّموا النبوة إلى قسمين أيضاً ، فخذ على سبيل المثال الشيخ حسن زاده آملي يقول : (النبوة التشريعية قد ختمت بالرسول الخاتم محمد ص فحلاله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة وأما النبوة الإنبائية المسماة بالنبوة العامة والنبوة التعريفية والنبوة المقامية أيضا فهي مستمرة إلى الأبد ينتفع من تلك المأدبة الأبدية كل نفس مستعدة لأن تسمع الوحي الإنبائي فافهم)([3]).

وقد حاول زاده آملي إقامة الشواهد الحديثية على النبوة الإنبائية من خلال جملة من الأحاديث كلها لا تسعف المدعى ، سوى التنظير والتصحيح لما جاء به الشيخ الأكبر ــ كما يقولون ــ وكأنه لا يجيء إلا بالحق ، ولم يبق لهم سوى التنظير له من الدين والشرع !

وأيضاً الشيخ جوادي آملي أقر بالنبوة الإنبائية أثناء حديثه عن حصول الخطأ في العلم الشهودي : (علة نفوذ الخطأ في الكشف والشهود قد يكون على أثر خلط المثال المتصل بالمثال المنفصل ، أي يعتبر السالك غير الواصل ما يراه في عالم المثال المتصل جزءٌ من عالم المثال المنفصل ، وبما أنه لا وجود لأي فطور أو تفاوت وخلاف في المثال المنفصل كونه الصنع البديع بالخالق المنزه من كل عيب ونقص ، فإن السالك يظن أنه رأي الحق غير المشوب ، كما في الرؤى غير الصادقة حيث تتمثل الهواجس النفسانية ويظن الرائي أن جزءاً من أجزاء النبوة الإنبائية لا التشريعية قد صارت من نصيبه ، في حين أن أفكاره الخاصة وأوصافه المخصوصة قد تمثلت له)([4]).

ويقول جوادي في تفسير تسنيم : (إن النبوة لغةً وكذلك اصطلاحاً عند أهل العرفان تختلف عن النبوة عند أصحاب علم الكلام والفلسفة ، والتي تدور حولها أبحاث التفسير؛ لأن النبوة لغةً تعني مطلق الإنباء وإبلاغ النبأ، وكل من يقوم بإبلاغ خبر مهم وخطير فهو (نبي) فيما يتعلق بذلك النبأ والنبوة التعريفية والإنبائية التي يذكرها أصحاب علم العرفان فهي إضافة إلى النبوة المعروفة عبارة عن الإنباء عن الأخبار الملكوتية المهمة سواء كانت تتعلق بالشريعة أم لا، ويعبَّرون عن هذا النحو الخاص من النبوة (بالنبوة الإنبائية)، و(النبوة الكلامية والفلسفية) هي نفس النبوة التي تذكر في الأبحاث التفسيرية، وصاحبها يقال له النبي المعهود والمعروف الذي يأتي معه بمجموعة من العقائد، والأخلاق، والفقه والحقوق التي تحتوي على ما ينبغي فعله وما لا ينبغي ، وفيها بيان للحدود الخاصة والحقوق المخصوصة والخصائص الاعتبارية)([5]).

إن الصوفية وعرفاء الشيعة المتأثرين بهم أضفوا على أنفسهم مقام النبوة من خلال المجيء بمفهوم النبوة الإنبائية ، وأضفوا مقام الإمامة من خلال مفهوم الولي والإنسان الكامل ، الذي ذكره ابن عربي في فصوصه وفتوحاته ، وعبد الكريم الجيلي كتب فيه كتاباً تحت عنوان : (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل) وغيرهم من الصوفية الذين لم تخل كتبهم من هذا المفهوم .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) شرح فصوص الحكم،ص438.

[2] ) الفتوحات المكية،ج1،ص150.

[3] ) ممد الهمم در شرح فصوص الحكم،ص663.

[4] ) نظرية المعرفة في القرآن،ص333.

[5] ) تفسير تسنيم،ج3،ص387.