(5) س : هل الفلسفة هي أمور عقلية؟
ج : إن الفلسفة اليونانية وغيرها من الفلسفات المتقدمة على الإسلام هي عبارة عن أفكار وآراء ليست عقلية ، ولا يصح نعت كل ما يخطر في الذهن من رؤى وأفكار بالعقل ؟! ومن أشد الأوهام الفلسفية توهم دعوى القرآن الكريم إلى التعقل والتدبر ، وبيان منزلة العقل في حديث أهل البيت عليهم السلام المقصود بذلك الفلسفة مع أنه لا دلالة وحجة تنصرف إلى ذلك ؛ فلا الفلسفة هي أمور عقلية ولا العقل مباحث ومطالب فلسفية ، ولكي يتعقل الأمر بشكل أكثر وضوحاً يكفي ملاحظة أن كل فكرة فلسفية يوجد عليها نقض فلسفي ، ولا تكاد تجد فكرة فلسفية إلا وكان في قبالها الردود والنقوض من قِبل الفلاسفة أنفسهم ؛ فهل العقل إلى جانب أصل الفكرة أم معها ومع كل النقوض ؟! ومنه يظهر أن المسائل الفلسفية التي وقع فيها الخلاف لا وجود للعقل فيها مع أي طرف من الأطراف ؛ فمن المطالب والأبحاث الفلسفية ما يكون منشأه الوهم وأساسه الجهل ؛ لذا كان يقول الخواجة الطوسي أن الفلسفة لا تخلو من اشتباه عظيم ولذلك كانت مسائلها معارك الآراء المتخالفة : (اعلم أن هذين النوعين من الحكمة النظرية أعني الطبيعي والإلهي لا يخلوان عن انغلاق شديد واشتباه عظيم إذ الوهم يعارض العقل في مأخذهما والباطل يشاكل الحق في مباحثهما ولذلك كانت مسائلهما معارك الآراء المتخالفة ومصادم الأهواء المتقابلة حتى لا يرجى أن يتطابق عليها أهل زمان ولا يكاد يتصالح عليها نوع الإنسان)([1]).
وبصورة عامة يمكن تقسيم الأبحاث الفلسفية إلى قسمين :
القسم الأول : هو المدركات العقلية الموجودة بأصل خلقة البشر ، وجميعهم على مختلف تخصصاتهم وطبقاتهم يعرفونها ويجرون على وفقها وإن اختلفوا في العبارات والمصطلحات ـــ مثل إدراك عامة الناس امتناع أن يكون الشيء إنساناً وغير إنسان والذي يُعبر عنه بالفلسفة بامتناع اجتماع النقيضين ـــ إلا أن أصل المعنى هو نفسه ولم يتغير نظير توقف وجود المعلول على علته ، واستحالة وجوده من غير علة ، واستحالة اجتماع النقيضين ، والكل أعظم من جزئه . ومطالب هذا القسم هي التي يستفاد منها في إثبات وجود الخالق ودحض أقاويل منكريه ، كما أنها (مطالب هذا القسم) هي الميزان لجميع البحوث في كافة العلوم وما عليه العقلاء في سيرتهم وشؤونهم في حياتهم وأعمالهم وليست مختصةً أو حكراً على الفلسفة.
القسم الثاني : هو الآراء والأفكار النظرية كغيرها من الآراء والأفكار النظرية المطروحة في غير الفلسفة مثل أصالة الوجود والماهية ، وقاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، والسنخية بين الخالق والمخلوق ، ونعت علم الله عز وجل بالحضوري ، والشيء ما لم يجب لم يوجد ، وقدم العالم، والقول بوجود المجردات ، والوجود نفس الماهية أو زائد عليها ، والعقول العشرة ، والهيولى ، وامتناع إعادة المعدوم ، إلى غير ذلك ممن لا تعدو سوى كونها آراء وأفكار لا صلة للعقل بها . ويمكن نعتها بالوهميات لأنها لم تثبت ببرهان كما يقول الخاجوئي (ت:1173هـ) : (مخالفة ما ذكرناه لقوانين الحكمة الفلسفية غير مضرة لأنها نظريات لم تثبت ببرهان فالقول بها وهمي شعري)([2]).
والشيخ محمد جواد البلاغي نعت فلسفة اليونان بالمزاعم والأوهام عند حديثه عن العقول العشرة : (المزاعم المستحيلة في مسألة العقول العشرة المبنية على التقليد الأعمى للفلسفة اليونانية ومزاعم أوهامها)([3]).
وقد كان في ثلة من أقوال العلماء التي وصفت الفلسفة بالأوهام والجهالات والزخرف ونحو ذلك([4]) . والغرض المتوخى من إيراد كلمات العلماء أحياناً هو من أجل الاستشهاد والتأييد ، وأدعو أصحاب الاتجاه الفلسفي إلى النظر والتأمل فيها إلى جنب أقوال الفلاسفة الأخرى المشِيدة بالفلسفة.
وأيضا يندرج في هذا القسم البحوث الثانوية النظرية المتفرعة من البديهيات مثل بعض المطالب الثانوية في الوجود وغيره من البديهيات.
وهذا القسم هو الذي يكون محلاً للنقد والجدل ، وبشكل عام ينقسم إلى قسمين : الأول هو الذي يتعارض مع الدين([5]) ، والآخر ما لا يتعارض مع الدين إلا أنه لا يخلو من النقض والمؤاخذات عليه.
ونعت الفلسفة بالعقل وعد مطالبها عقلية مجرد دعوى سَحَرَ بها أصحاب الاتجاه الفلسفي عامة الناس ممن لا خيرة له ودراية بهذه الأمور لمنحاهم الفلسفي ـــ كما غرر عرفاء الصوفية بسطاء الناس بالمكاشفات والخوارق وجذبوهم إلى مسلكهم من خلالها ـــ إذ لا يمكن نعت كل رأي وفكرة بالعقل وعدها من الأمور العقلية حيث لم تكن من المدركات العقلية التي تسالم العقلاء على صحتها والقطع بها مثل عدم اجتماع النقيضين ، والكل أعظم من جزئه ، وعدم تحقق المعلول من غير علته.
وكما حاول أصحاب الاتجاه الفلسفي جعل المطالب الفلسفية عقلية حاولوا أيضا جعل النزاع بين الدين والفلسفة نزاعاً بين الدين العقل مع أنه لا موضوع للنزاع بينهما . ونزاع الدين مع الفلسفة لا يعني نزاعاً بين الدين والعقل.
وملخص ما تقدم بعبارة مختصرة هو أن جعل المطالب الفلسفية عقلية مجرد دعوى لا دليل عليها . بل إن المطالب الفلسفية تثبت خلاف ذلك ، نظير دعوى توقف إثبات الخالق ومجادلة الملحدين على الفلسفة ، وشرح النصوص الدينية من خلال الفلسفة ، وجعل الآيات القرآنية التي تأمر بالتعقل والتدبر آياتٍ مختصة بالفلسفة ، ونظير دعوى التعمق في الدين وفهم أسراره من مختصات أصحاب الاتجاه الفلسفي وما أكثر الدعاوى لديهم المجردة عن البرهان ويشهد على بطلانها أبحاثها للعيان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) شرح الإشارات والتنبيهات،ج2،ص1.
[2] ) جامع الشتات،ص٥٩.
[3] ) رسالة في البداء،ص24.
[4] ) أشرت إلى بعضها في كتاب (الأوهام الفلسفية)
[5] ) مثل : قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، والسنخية بين الخالق والمخلوق ، والشيء ما لم يجب لم يوجد ، ونعت علم الله عز وجل بالحضوري ، وعد الإرادة من الصفات الذاتية ، ونحو ذلك.