الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (34) إقراره بالتفسير الصوفي

الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (34)

إقراره بالتفسير الصوفي

من خصائص الفلاسفة والصوفية التي أقرها الشيخ الأحسائي هو إقراره بتأويلاتهم للقرآن الكريم وأخذها على نحو الحق المسلَّم الصدق في معارف الدين إذ يقول : (التأويل عند أرباب الحقيقة وأهل الباطن فهو عندهم عبارة عن التطبيق بين الكتابين ، والتوفيق بين النسختين أي بين الكتاب القرآني والكتاب الآفاقي والأنفسي ، والغاية من ذلك أن رئيس المعارف وأصول الحقائق باتفاق الأنبياء والأولياء ثلاثة : معرفة العالم ، ومعرفة الإنسان ، ومعرفة الحق ، والكل راجع إلى معرفة الله ؛ لأن معرفة العالم ومعرفة الإنسان سُلَّم وطريق إلى معرفته التي هي المقصود بالذات . وهذه الثلاثة موقوفة على التطبيق المذكور ومعرفته بدون معرفة الكتابين ممتنع فمعرفة الكتابين واجب ؛ لأن معرفة الله واجبة وما لا يحصل الواجب إلا به فهو واجب، فمعرفتهما يكون واجباً، ومعرفتهما على ما ينبغي بغير التطبيق غير ممكن، فيكون التطبيق واجباً)([1]).

والمهم مما ذكره بصورة مختصرة هو إقراره بما لديهم من التأويل للقرآن الكريم ، وجعله موافقاً للمعرفة الآفاقية والأنفسية([2]) ، وفي كل منهما ادعاء لا دليل عليه . بل إن الدليل يبطلاهما معاً ؛ وذلك لأن التأويل المأثور عن أهل البيت عليهم السلام لا إشكال في حجيته وأحقيته ، وإنما الكلام في تأويلات الفلاسفة والمتصوفة التي لا تعدو عن كونها مجرد أوهام وخواطر لا دليل على حجيتها وصحتها ، ولا يصح جعلها من التأويل للقرآن الكريم.

إن التفسير العرفاني والذي يسمى أيضاً بالتفسير الرمزي والإشاري هو امتداد للتفسير الصوفي ولم يكن بالشيء المغاير له ، وهو يعتمد على الإتيان بمعاني جديدة ويعدها من التأويل والشرح لآيات القرآن الكريم .

ومما يؤاخذ عليه أنه خلاف الظاهر ، والمعاني التي يأتي بها ويلصقها بالآيات غير معلوم أنها مرادة للآيات المباركة ولو على مستوى الباطن.

ولا يكفي القول بأنه تفسير باطني ، أو أنه من الأسرار ؛ لأن الأسرار وبطون القرآن الكريم عند أهل البيت عليهم السلام ، وليس كل رأي أو معنى يخطر في الذهن يكفي في عده من البطون .

إن حمل النصوص الدينية على الرمزية مفاده عبارة عن إيحاءات وتصورات يُحاول إلصاقها بالنصوص وإلقائها عليها ، مع أنها لا تمت إليها بصلة ــ ومن هنا نجد التفاسير الرمزية لا تتفق في الآية الواحدة وفي نفس الحديث أيضاً ــ فلا تكون المعاني الرمزية إلا لصاحبها ولا شأن للدين بها . وإن كان يصفها المخترع لها بالتأويل ، أو المعنى الباطني لإضفاء جانب الشرعية والقبول عليها ، وما أسهل نعت الأوهام والخواطر أو تداعي المعاني بالتأويل والمعنى الباطني أو الإلهامات والإشراقات ونحو ذلك. وقد يتمادى بجهله أكثر ويصف من لا يرتضي أوهامه وخيالاته بالبلادة ، وعدم سعة الأفق وغير ذلك بعدما اعتبرها تفسيراً للنصوص وجزءاً من الدين !   

وأقل ما يُقال في التفسير الرمزي أنه من التفسير بالرأي ، وأخطر ما فيه أنه يأتي بمعاني جديدة من شأنها أن تمحق النصوص الدينية وتقضي عليها بمعاني أخرى غير مرادة .

ومن هنا لا يُستبعد أن يكون هذا النحو من التفسير من صنع أيادي تضمر عداءها للإسلام ، أرادت محق عقائده من خلال تحريف القرآن بدعوى التفسير والتأويل ، وإن لم يكن من مكائد المتربصين بالإسلام فهو من تداعيات الجهل الذي يؤدي إلى نفس الغرض والغاية.

 وقد كان من أوائل الذين صنفوا في التفسير الرمزي الباطني هو :

1 ـ سهل بن عبد الله التستري (ت:283هـ) .

2 ـ محمد بن الحسين السلمي (ت:412هـ) .

3 ـ عبد الكريم بن هوازن القشيري (ت:465هـ) . تفسيره هذا امتداد للتفسير الصوفي الباطني ، معتمداً في أكثر الأحيان على تأويلات قد ينبو عنها ظاهر لفظ الآية الكريمة. لكنه مع ذلك حاول أن يوفق بين علوم الحقيقة ــ حسب مصطلحهم ــ وعلوم الشريعة ، قاصداً أن لا تعارض بينهما([3]).

 4 ـ عبد الله بن محمد الأنصاري (ت:481هـ) .

5 ـ أحمد بن محمد المبيدي (ت:480هـ) . وهذا التفسير يتضمن اختصار التفسير المتقدم للأنصاري مع زيادة فيه ، وإن كان الأنصاري معاصراً للمبيدي وتوفي قبله بسنة.

6 ـ أحمد بن عمر بن محمد المعروف بنجم الدين داية والكبرى (ت:618هـ).

7 ـ أبو بكر محمد بن علي المعروف بابن عربي (ت:638هـ) . قد أتى المؤلف فيه بالتفسير الرمزي الإشاري على طريقة الصوفية العرفانية ، وغالبه يقوم على أساس وحدة الوجود ، ذلك المذهب الذي كان له أثره السيء في تفسير كلام الله ، والذي دعا بالقائلين أنه من صنع ابن عربي ؛ حيث مذهبه في وحدة الوجود مشهور .

ولم يكن الباطنية والصوفية أول من اتخذ الأسلوب الرمزي وإنما سبقهم اليهود إليه ، يقول محمد حسين الذهبي (ت:1398هـ) : إن البابية والبهائية وأسلافهم من الباطنية ، لم يكونوا أول من ابتدأ التأويل لنصوص الشريعة على هذه الصورة التي تأتى على بنيان الدين من قواعده ، وإنما هو صنيع قلدوا فيه طائفة من فلاسفة اليهود الذين سبقوهم ، فهذا هو (فيلون) الفيلسوف اليهودي المولود ما بين عشرين وثلاثين سنة قبل الميلاد ، نجده ألف كتاباً في تأويل التوراة ، ذاهباً إلى أن كثيراً مما فيها رموز إلى أشياء غير ظاهرة ، ويقول الكاتبون في تاريخ الفلسفة : إن هذا التأويل الرمزي كان موجوداً ومعروفاً عند أدباء اليهود بالإسكندرية قبل زمن (فيلون) ويذكرون أمثلة من تأويلهم : أنهم فسروا آدم بالعقل ، والجنة برياسة النفس ، وإبراهيم بالفضيلة الناتجة من العلم ، وإسحاق عندهم هو الفضيلة الغريزية ، ويعقوب الفضيلة الحاصلة من التمرين . إلى أمثال هذا من التأويل الذي لا يحوم عليه إلا الجاحدون المراءون ، ولا يقبله منهم إلا قوم هم عن مواقع الحكمة ودلائل الحق غافلون([4]).

كما أن الرمزية والتأويل كانت عند أفلاطون وفلاسفة العرب ، يقول جميل صليبا : تأويل العقائد ، أو المذاهب القديمة تأويلاً رمزياً ، على النحو الذي فعله أفلاطون وبعض فلاسفة العرب في إلباس الحقائق الفلسفية ثوبا رمزيا([5]).

والشيخ محمد هادي معرفة يرى التفسير الصوفي مبتني على مباحث اليونان القديمة : (التفسير الصوفي النظري تفسير أولئك المتصوفة الذين بنو تصوفهم على مباحث نظرية فلسفية ، ورثوها من يونان القديمة ، ومن الصعب جداً أن يجد هؤلاء في القرآن ما يتفق وتعاليمهم ، وهي بعيدة عن روح القرآن وتعاليم الإسلام ، اللهم إلا إذا حملوا نظرياتهم على القرآن وأقحموا عليه إقحاما)([6]).

ولربما يتوهم أن التفسير الإشاري منبثقا من حديث مروي عن الإمام الصادق عليه السلام : (كتاب الله على أربعة أشياء ، على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء عليهم السلام)([7]).

والحال أن الفلاسفة والصوفية الذين اعتمدوا على التأويل والإشارة لم ينبثق التفسير الإشاري لديهم من النص ـــ مع غض النظر عن سنده ومعناه الذي خلت منه مصادر الحديث وتناقلته كتب الصوفية ـــ  وإنما لما لديهم من معتقدات اضطرتهم لتأويل النص تصحيحا لما هم عليه وعلى نحو الدقة للتستر على ما لديهم بالنص الديني لأن معتقداتهم لم تنبثق من النص ولم يكونوا بحاجة إلى النص من أجل الاعتقاد بها.

وهذا الخبر مروي عن الإمام الصادق عليه السلام في مصباح الشريعة ، ونقله عبد الرحمن السلمي (ت:412هـ) عن الإمام الصادق عليه السلام في حقائق التفسير : (حُكي عن جعفر بن محمد أنه قال : كتاب الله على أربعة أشياء : العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء عليهم السلام)([8]).

ومن بعد مصباح الشريعة وحقائق السلمي رواه الحلواني ــ من علماء القرن الخامس الهجري ــ في نزهة الناظر وتنبيه الخاطر عن الإمام الصادق عليه السلام : (قال عليه السلام : كتاب الله عز وجل أربعة أشياء : على العبارة ، والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة ، للعوام ، واللطائف للأولياء ، والحقائق للأنبياء)([9]).

وقد نقله العلامة المجلسي من (الدرة الباهرة) وهو على ما ظنه العلامة من مصنفات الشهيد الأول (ت:786هـ) حيث يقول عند عده بعض كتب الشهيد  : (وكتاب الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة له قدس سره أيضاً كما أظن . والأخير عندي منقولاً عن خطه رحمه الله ، وسائر رسائله ،وأجوبة مسائله )([10])

وذكر العلامة المجلسي أن كتاب (الدرة الباهرة) لم يشتهر كما اشتهرت سائر مصنفات الشهيد : (مؤلفات الشهيد مشهورة كمؤلفها العلامة إلا كتاب الاستدراك فإني لم أظفر بأصل الكتاب ووجدت أخبارا مأخوذة منه بخط الشيخ الفاضل محمد بن علي الجبعي ، وذكر أنه نقلها من خط الشهيد رفع الله درجته ، والدرة الباهرة فإنه لم يشتهر اشتهار سائر كتبه ، وهو مقصور على إيراد كلمات وجيزة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وآله وكل من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين)([11]).

ولكن الميرزا عبد الله الأفندي نقل كلام أستاذه العلامة المجلسي حول (الدرة الباهرة) ثم رجح عدم كونه من مصنفات الشهيد : (قال المولى الفاضل الأستاذ في أوائل بحار الأنوار : إن كتاب الاستدراك وكتاب الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة كلاهما للشهيد السعيد شمس الدين محمد كما أظنه ، والأخير عندي منقول من خطه قدس اللّه روحه . انتهى . وأقول : بالبال أن هذين الكتابين من مؤلفات غيره)([12]).

وسواء كان الكتاب للشهيد الأول أم لغيره فإن حوالي ثلاثة أرباع أحاديث الكتاب هي في كتاب : (نزهة الناظر وتنبيه الخاطر) للحلواني ــ من أعلام القرن الخامس الهجري ــ كما يقول محقق الكتاب : (توصلنا خلال استخراجنا لأحاديث الدرة الباهرة أنها باقة زهور منتقاة ومصطفاة من رياض آثار أهل البيت عليهم السلام ، اقتطف غالبها من كتاب (نزهة الناظر) تأليف الحسين بن محمد بن حسن بن نصر الحلواني ، واجتني الباقي من كتب أخرى كالكافي ونثر الدر وتحف العقول ؛ حيث عثرنا على ثلاثة أرباع أحاديث الكتاب تقريبا في كتاب نزهة الناظر)([13]).

والحلواني ذكر في (نزهة الناظر وتنبيه الخاطر) الأخبار المروية عن أهل البيت عليهم السلام ولكنه حذف الأسانيد للاختصار كما نوه على ذلك في مطلع كتابه : (فقد سطرت لك – أمتعني الله بك – من أقوال الأئمة من أهل البيت عليهم السلام الموجزة ، وألفاظهم المعجزة ، وحكمهم الباهرة ، ومواعظهم الزاهرة ، لمعاً تنزه ناظرك بها ، وتنبه خاطرك بها . وحذفت الأسانيد حتى لا يخرج الكتاب عن الغرض المقصود في الاختصار)([14]).

وبعد ذلك تبيَّن أن مصدر الخبر هو مصباح الشريعة ـــ الذي جمع فيه ما بين الأحاديث وكلمات الصوفية ـــ وحقائق السلمي الذي هو من الصوفية ثم نقله الحلواني وصاحب الدرة الباهرة ، ومن بعد ذلك نقله ابن أبي جمهور في العوالي والمجلي([15]) وحينئذٍ يظهر لك مصدر وقيمة هذا الخبر في نقله والاعتماد عليه ؛ إذ لا يمكن نسبة ما تفرد فيه هذا الكتاب للأئمة عليهم السلام لِما جُمع فيه من الأخبار وكلمات الصوفية.

كلمات العلماء في التفسير العرفاني

مع وضوح أن التفسير العرفاني يندرج ضمن التفسير بالرأي ، ولكن مع ذلك لا يمنع من ذكر بعض كلمات الأعلام إتماما للحجة وإبلاغا للمقصود ،  يقول الشيخ محمد جواد البلاغي : (الذين تهاجموا بآرائهم على تفسير القرآن بما يسمونه تفسير الباطن ركونا بآرائهم إلى مزاعم المكاشفة والوصول ونزعات التفلسف أو التجدد أو حب الانفراد والشهرة بالقول الجديد وإن كان فيها ما فيها فقد آثروا متاهة الرأي على النهج السوي عن أصول العلم وفارقوه من أول خطوة)([16]).

 ويقول الشيخ محمد هادي معرفة : (لا نرى تفاوتا في تفاسير الصوفية ، سوى الشدة والضعف في تأويلاتهم التي يتكلفونها حسب أذواقهم وسلائقهم ، بلا استناد ولا أساس ، وكلها معدود من التفسير بالرأي المقيت إذ لـم نـر مـن اسـتند منهم على مقدمة علمية ولا برهان واضح ، سوى سوانح وخواطر عارضة ، يحسبونها اشراقات جاءتهم من مكان علي ، وليس سوى ادعاءات فارغة غير مستندة إلى ركن وثيق)([17]).

ويقول أيضاً بصدد ذم التفسير العرفاني وذم رأي ابن عربي فيه  : (قد بالغ ابن عربي في دعواه الاشراقات الربانية المنهلّة على قلبه ، ويدعي أن كل ما يجري عـلـى لـسـان أهـل الحقيقة ـ ويعني بهم الصوفية بالذات ـ من المعاني الإشارية في القرآن هو في الحقيقة تفسير وشرح لمراد اللّه ، وأن أهل اللّه ـ ويعني بهم الصوفية ـ أحق الناس بشرح كتابه ، لأنـهم يتلقون علومهم عن اللّه مباشرة ، فهم يقولون في القرآن على بصيرة ، أما أهل الظاهر فيقولون بـالظن والتخمين ، وفضلا عن ذلك إنه يرى أن تفاسير أهل الحقيقة لا يعتريها شك ، وأنها صدق وحـق عـلى غرار القرآن الكريم ، فإذا كان القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأنـه من عند اللّه، فكذلك أقوال أهل الحقيقة في التفسير ، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، لأنها منزلة من عند اللّه . يقرر ابن عربي كل هذه المبادئ ويصرح بها في فتوحاته)([18]).

وقد تقدم قول الشيخ معرفة في هذا الصدد  : (التفسير الصوفي النظري تفسير أولئك المتصوفة الذين بنو تصوفهم على مباحث نظرية فلسفية ، ورثوها من يونان القديمة ، ومن الصعب جدا أن يجد هؤلاء في القرآن ما يتفق وتعاليمهم ، وهي بعيدة عن روح القرآن وتعاليم الإسلام ، اللهم إلا إذا حملوا نظرياتهم على القرآن وأقحموا عليه إقحاما)([19]).

 

والشيخ جعفر السبحاني يرى التفسير الإشاري مقبولاً إذا كان له صلة بالظاهر حيث يقول : (إن  حاصل القول في التفسير الإشاري أن ما يفهمه المفسر من المعاني الدقيقة إن كان لها صلة بالظاهر فهو مقبول سواء سمي تفسيراً على حسب الظاهر أو تفسيراً إشاريا وعلى كل تقدير فالمفسر على حجة من ربه في حمل الآية على ما أدرك ، وأما إذا كان مقطوع الصلة عن الظاهر، المتبادر إلى الأذهان، فلا يصح له حمل القرآن عليه إلا إذا حصل له القطع بأنه المراد وعندئذ يكون القطع حجة له لا لغيره وإن كان مخالفا للواقع…. وخلاصة الكلام : أن ما يهتدي إليه المفسر بعد التفكر والتأمل في نفس الآية ومفرداتها وسياقها منه سواء كان معنى أخلاقيا أو اجتماعياً أو سياسياً نافعاً بحال المجتمع ، إذا كان له صلة بالظاهر غير منقطع عنه فهو تفسير مقبول وفي غير هذه الصورة يكون مردودا)([20]).

ولكن جعل قيد الصلة بالظاهر  محاولة من الشيخ السبحاني في إضفاء القبول على التفسير الإشاري بنحو من الإنحاء ، أو لنقل على سبيل الفرض لأن التفسير إذا كان له صلة بالظاهر لا يعد من التفسير الإشاري.

ويقول الشيخ مكارم الشيرازي : (لا شك أننا لسنا مخولين أن نضفي الرمزية على كل مفهوم من المفاهيم الدينية الواردة في القرآن أو مصادر الحديث ، ذلك أن هذا الأمر من قبيل التفسير بالرأي الذي نهى الإسلام عنه ، والذي يرفضه أيضاً العقل والمنطق ، مع ذلك ليس من الصواب الجمود على المفهوم الابتدائي للألفاظ مع وجود بعض القرائن العقلية أو النقلية الواردة بهذا الخصوص والذي يوجب الابتعاد عن المفهوم الأصلي للكلام)([21]).

ولا يظن أن التفسير الرمزي نظير ما ورد عن الأئمة عليهم السلام من التأويل ، لأن قولهم بحد ذاته حجة ولا يُطلب من ورائه الدليل ، بخلاف غيرهم لا يحق لهم أن يقولوا في النصوص الدينية بسوانح الأوهام وجوانح الأفكار .

والصوفية لم يكتفوا بالتفسير الرمزي للنصوص الدينية ، وإنما تجاوزوا إلى بعد من ذلك حيث فسروا العبادات بالرموز والتفسيرات الباطنية التي لا تورث علماً ولا عملاً ، وليس وفق المنهج الذي سار عليه أئمة أهل البيت عليهم السلام . وقد كان كتاب الإحياء للغزالي هو الرائد في هذا المجال لمن أتى بعده ، فقد تكلم عن رمزية العبادات في الجزء الثاني من الإحياء ، تحت عنوان (أسرار الطهارة) و (أسرار الصلاة) على وجه الخصوص عنوان : (بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة) وفي الجزء الثاني والثالث عن (أسرار الزكاة) وفي الجزء الثالث عن (أسرار الصوم وشروطه الباطنة) وأيضا في الجزء الثالث عن (أسرار الحج).

وحيدر الآملي سار على نهج الغزالي وفسر ماء الوضوء وتراب التيمم بالعلم ، والجنابة بحب الدنيا ، والغسل الحقيقي الطهارة منها ، ونحو ذلك مما ذكره في الجزء الرابع من تفسيره الموسوم ب (المحيط الأعظم) .

فإذا رأيتم في السنين الأخيرة من يفسر العبادات بهذه الأمور التي لا تضفي شيئاً لقارئها فاعلموا أنها على نحو الاتجاه الصوفي .

نماذج التفسير العرفاني

هذه نماذج من التفسير العرفاني لنجم الدين داية([22]) والمشهور بنجم الدين الكبرى أيضا (ت:618هـ) لكي تعرف كيف أنه من إيحاءات الخاطر ولا شأن له بالتفسير :

 [فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ]([23])

فقد فسر : [مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ] بـ : الدنيا وماء زينتها وما زين للخلق فيها.

وفسر : [فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي] يعني : من أوليائي ومحبي وطلابي.

وفسر : [إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ] يعني : من قنع من متاع الدنيا على ما لا بد له من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار([24]).

وفي سورة التوبة عند قوله تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ]([25]).

فسر : [قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ] بـ : جاهدوا كفار النفس وصفاتها بمخالفة هواها وتبديل صفاتها وحملها على طاعة الله والمجاهدة في سبيله فإنها تحجبك عن الله.

وفسر : [وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً] بقوله : هي عزيمة صادقة في فنائها بترك شهواتها ولذاتها ومستحسناتها ومنازعاتها في هواها وحملها على المتابعة في طلب الحق. [وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ] بجذبة الوصول لتبقوا به عما سواه([26]).

ويقول في سورة يوسف عند قوله تعالى : [وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ] يشير بالنسوة إلى صفات البشرية النفسانية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد.

 [امْرَأَةُ الْعَزِيزِ] وهي الدنيا [تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ] تطالب عبدها وهو القلب كان عبد الدنيا في البداية لحاجته إليها للتربية فلما كمل القلب وصفا وصقل عن دنس البشرية استأهل المنظر الإلهي فتجلى له الرب تبارك وتعالى فتنور القلب بنور جماله وجلاله احتاج إليه كل شيء وسجد له حتى الدنيا [قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا] أي أحبته الدنيا غاية الحب لما ترى عليه آثار جمال الحق ولما لم يكن للنسوة صفات البشرية اطلاع على جمال يوسف القلب كن يلمن الدنيا على محبته فقلن : [إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ]

[فَلَمَّا سَمِعَتْ] أي زليخا الدنيا (بِمَكْرِهِنَّ) في ملامتها [أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ] أي الصفات [وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً] أي : تهيأت طعمة مناسبة لكل صفة منها [وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا] وهي سكين الذكر [وَقَالَتِ] زليخاء الدنيا ليوسف القلب [اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ] وهو إشارة إلى غلبة أحوال القلب على الصفات البشرية. [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ] أي : وقفن على جماله وكماله [أَكْبَرْنَهُ] أي : أكبرن جماله أن يكون جمال البشر [وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ] بسكين الذكر عن تعلق ما سوى الله تعالى [وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا] أي : جماله بشر [إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ]([27]).

ويقول في سورة النمل عند قوله تعالى : [وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ] أي : صفة الشيطانية [وَالْإِنْسِ] أي : صفة النفسانية [وَالطَّيْرِ] أي : صفة الملكية [فَهُمْ يُوزَعُونَ] عن طبيعتهم بالشريعة ليسخروا لسليمان القلب وينقادوا له [حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ] وهو هدى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها [قَالَتْ نَمْلَةٌ] وهي النفس اللوامة. [يَا أَيُّهَا النَّمْلُ] أي : الصفات النفسانية [ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ] محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس [لَا يَحْطِمَنَّكُمْ] لا تهلكنكم [سُلَيْمَانُ] القلب [وَجُنُودُهُ] المسخرة له [وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ] لأنهم الحق وأنتم الباطل([28]).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) مجلي مرآة المنجي،ج2،ص259.

[2] ) [وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ][وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ] سورة الذاريات : 21ـ22.

[3] ) انظر التمهيد في علوم القرآن،ج10،ص452.

[4] ) التفسير والمفسرون،ص278.

[5] ) المعجم الفلسفي،ج1،ص621.

[6] ) التمهيد في علوم القرآن،ج10،ص443.

[7] ) مصباح الشريعة،الباب المائة (حقيقة العبودية)،ص177.

[8] ) حقائق التفسير،ج1،ص22.

[9] ) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر،ص110.

[10] ) بحار الأنوار،ج1،ص10.

[11] ) بحار الأنوار،ج1،ص30.

[12] ) رياض العلماء،ج5،ص188.

[13] ) مقدمة تحقيق (الدرة الباهرة)،ص8.

[14] ) نزهة الناظر وتنبيه الخاطر،ص9.

[15] ) عوالي الآلي،ج4،ص105.مجلي مرآة المنجي،ج2،ص657.

[16] ) آلاء الرحمن في تفسير القرآن،ج1،ص47.

[17] ) التمهيد في علوم القرآن،ج10،ص444.

[18] ) التمهيد في علوم القرآن،ج10،ص474.

[19] ) التمهيد في علوم القرآن،ج10،ص443.

[20] ) الإيمان والكفر،ص207.

[21] ) الحكومة العالمية للإمام المهدي،ص١٤٩.

[22] ) داية توفي قبل أن يتم تفسيره الموسوم بـ : (التأويلات النجمية) فقد وصل فيه إلى سورة الذاريات . وبعد ذلك أكمله علاء الدولة السمناني (ت:736هـ).

[23] ) سورة البقرة:249.

[24] ) التأويلات النجمية،ج1،ص321.

[25] ) سورة التوبة :123.

[26] ) التأويلات النجمية،ج3،ص212.

[27] ) التأويلات النجمية،ج3،ص319.

[28] ) التأويلات النجمية،ج4،ص328.

Comments (0)
Add Comment