س : هل تفويض التشريع (الولاية التشريعية) ثابتة للأئمة عليهم السلام ؟
ج : إن من المعاني الباطلة للتفويض هو القول بأن الله عز وجل أوكل أمر التشريع([1]) إلى رسول الله صلى الله عليه وآله . ولكن هل يمكن القول بأن الله عز وجل بعد أن أكمل رسوله صلى الله عليه وآله أوكل إليه أمر تشريع بعض الأحكام ثم أمضاها الله عز وجل ، أو أن الله عز وجل أقرها لأنها موافقة لإرادته ؟ وقع كلام وخلاف بين العلماء تبعاً لاستظهار النصوص ومدى اعتبارها فذهب بعضهم إلى القول بتشريع رسول الله صلى الله عليه وآله بهذه الصورة وذهب بعضهم إلى خلافه . وأيضاً وقع الكلام في تشريع الأئمة عليهم السلام لبعض الأحكام ــ على هذا النحو لا على نحو الصورة الأولى([2]) ــ ولا يخفى أن بعض العلماء لم يُصرح بثبوت الولاية التشريعية للنبي صلى الله عليه وآله دون الأئمة عليهم السلام ، وإنما بما يظهر من كلامه ويدل عليه إمضاؤه ورفضه ، كما لو أنه أقر بالأخبار التي تثبت الولاية التشريعية للنبي صلى الله عليه وآله ، وناقش في الأخبار التي تدل على ثبوت الولاية التشريعية للأئمة عليهم السلام ولم يمضها . أو من خلال إقراره بالولاية التشريعية في خصوص بعض الأحكام التي شرعها رسول الله صلى الله عليه وآله دون سواها.
والعلامة المجلسي ممن ذهب إلى إمكان التفويض في التشريع على نحو الصورة الثانية حيث يقول : (التفويض في أمر الدين ، وهذا أيضاً يحتمل وجهين : أحدهما أن يكون الله تعالى فوض إلى النبي والأئمة عليهم السلام عموماً أن يحلوا ما شاؤوا ويحرموا ما شاؤوا من غير وحي وإلهام ، أو يغيروا ما أوحى إليهم بآرائهم وهذا باطل لا يقول به عاقل ، فإن النبي صلى الله عليه وآله كان ينتظر الوحي أياماً كثيرة لجواب سائل ولا يجيبه من عنده ، وقد قال تعالى : [وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى][إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى]([3]). وثانيهما : أنه تعالى لما أكمل نبيه صلى الله عليه وآله بحيث لم يكن يختار من الأمور شيئاً إلا ما يوافق الحق والصواب ولا يحل بباله ما يخالف مشيته تعالى في كل باب فوض إليه تعيين بعض الأمور كالزيادة في الصلاة وتعيين النوافل في الصلاة والصوم وطعمة الجد([4]) وغير ذلك مما مضى وسيأتي إظهاراً لشرفه وكرامته عنده ، ولم يكن أصل التعيين إلا بالوحي ، ولم يكن الاختيار إلا بإلهام ، ثم كان يؤكد ما اختاره صلى الله عليه وآله بالوحي ، ولا فساد في ذلك عقلاً وقد دلت النصوص المستفيضة عليه مما تقدم في هذا الباب وفي أبواب فضائل نبينا صلى الله عليه وآله من المجلد السادس)([5]).
والتفويض بهذا المعنى الأخير أستدل بعضهم عليه من خلال جملة من النصوص التي يدل بعضها على وقوعه ، وبعضاً منها على أمثلته وتطبيقاته أكتفي بذكر بعضها اختصاراً:
عن الإمام الباقر عليه السلام : إن الله خلق محمداً صلى الله عليه وآله عبداً فأدبه حتى إذا بلغ أربعين سنة أوحى إليه وفوض إليه الأشياء فقال : [مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ]([6])([7]).
وعن فضيل بن يسار قال : سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول لبعض أصحاب قيس الماصر : إن الله عز وجل أدب نبيه فأحسن أدبه فلما أكمل له الأدب قال : [إِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ]([8]) ،ثم فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال عز وجل : [مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([9]) وإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان مسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس ، لا يزل ولا يخطئ في شيء مما يسوس به الخلق ، فتأدب بآداب الله ثم إن الله عز وجل فرض الصلاة ركعتين، ركعتين عشر ركعات فأضاف رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الركعتين ركعتين وإلى المغرب ركعة فصارت عديل الفريضة لا يجوز تركهن إلا في سفر ، وأفرد الركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر فأجاز الله عز وجل له ذلك فصارت الفريضة سبع عشرة ركعة ، ثم سن رسول الله صلى الله عليه وآله النوافل أربعاً وثلاثين ركعة مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك والفريضة والنافلة إحدى وخمسون ركعة منها ركعتان بعد العتمة جالساً تعد بركعة مكان الوتر وفرض الله في السنة صوم شهر رمضان وسن رسول الله صلى الله عليه وآله صوم شعبان وثلاث أيام في كل شهر مثلي الفريضة فأجاز الله عز وجل له ذلك وحرم الله عز وجل الخمر بعينها وحرم رسول الله صلى الله عليه وآله المسكر من كل شراب فأجاز الله له ذلك كله وعاف رسول الله صلى الله عليه وآله أشياء وكرهها ولم ينه عنها نهي حرام إنما نهى عنها نهي إعافة وكراهة ، ثم رخص فيها فصار الأخذ برخصه واجباً على العباد كوجوب ما يأخذون بنهيه وعزائمه ولم يرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وآله فيما نهاهم عنه نهي حرام ولا فيما أمر به أمر فرض لازم فكثير المسكر من الأشربة نهاهم عنه نهي حرام لم يرخص فيه لأحد ولم يرخص رسول الله صلى الله عليه وآله لأحد تقصير الركعتين اللتين ضمهما إلى ما فرض الله عز وجل ، بل ألزمهم ذلك إلزاماً واجباً ، لم يرخص لأحد في شيء من ذلك إلا للمسافر وليس لأحد أن يرخص شيئاً ما لم يرخصه رسول الله صلى الله عليه وآله، فوافق أمر رسول الله صلى الله عليه وآله أمر الله عز وجل ونهيه نهي الله عز وجل ووجب على العباد التسليم له كالتسليم لله تبارك وتعالى([10]).
ومما اُستدل به على تفويض بعض الأحكام للأئمة عليهم السلام ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام : (إن الله عز وجل فوض إلى سليمان بن داود فقال : [هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]([11]) وفوض إلى نبيه ، صلى الله عليه وآله فقال : [مَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([12]) فما فوض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقد فوضه إلينا)([13]).
وعنه عليه السلام : (لا والله ما فوض الله إلى أحد من خلقه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى الأئمة ، قال عز وجل : [إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ] وهي جارية في الأوصياء عليهم السلام)([14]).
وقد عقد الشيخ الكليني في الجزء الأول من أصول الكافي باباً عنونه : (التفويض إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وإلى الأئمة) ذكر فيه عدة أخبار دلل من خلالها على التفويض للرسول والأئمة عليهم السلام في تشريع بعض الأحكام يمكن مراجعتها هناك.
ولربما يُتوهم التنافي بين تفويض تشريع بعض الأحكام للرسول والأئمة عليهم السلام مع قوله تعالى : [لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ]([15]). ولكن عند معرفة تفسير الآية المباركة يتضح أن لا تنافي فقد روي عن جابر الجعفي قال : قرأت عند أبي جعفر عليه السلام قول الله : [لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ]([16]) قال : بلى والله إن له من الأمر شيئاً وشيئاً وشيئاً ، وليس حيث ذهبت ولكني أخبرك أن الله تبارك وتعالى لما أمر نبيه عليه السلام أن يظهر ولاية علي فكر في عداوة قومه له ومعرفته بهم ، وذلك الذي فضله الله به عليهم في جميع خصاله ، كان أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وآله وبمن أرسله ، وكان أنصر الناس لله ولرسوله ، وأقتلهم لعدوهما وأشدهم بغضاً لمن خالفهما ، وفضل علمه الذي لم يساوه أحد ، ومناقبه التي لا تحصى شرفاً ، فلما فكر النبي صلى الله عليه وآله في عداوة قومه له في هذه الخصال ، وحسدهم له عليها ضاق عن ذلك صدره فأخبر الله أنه ليس له من هذا الأمر شيء إنما الأمر فيه إلى الله أن يصير علياً عليه السلام وصيه وولى الأمر بعده ، فهذا عنى الله ، وكيف لا يكون له من الأمر شيء وقد فوض الله إليه أن جعل ما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، قوله : [وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا]([17])([18]).
والذين قالوا بتشريع بعض الأحكام للرسول والأئمة عليهم السلام لم يقولوا أن لهم التحليل والتحريم كيفما شاءوا وإنما المراد به أن الله عز وجل أقرها لأنها موافقة لإرادته كما أقر الله عز وجل بعض السنن التي سنها عبد المطلب فقد روي الشيخ الصدوق : عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في وصيته له : يا علي إن عبد المطلب سن في الجاهلية خمس سنن أجراها الله له في الإسلام ، حرم نساء الآباء على الأبناء فأنزل الله عز وجل : [وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ]([19]) ووجد كنزاً فأخرج منه الخمس وتصدق به ، فأنزل الله عز وجل : [وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ]([20]) ـ الآية ـ ولما حفر زمزم سماها سقاية الحاج ، فأنزل الله : [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ] ـ الآية ـ وسن في القتل مائة من الإبل فأجرى الله عز وجل ذلك في الإسلام ، ولم يكن للطواف عدد عند قريش فسن فيهم عبد المطلب سبعة أشواط ، فأجرى الله ذلك في الإسلام . يا علي إن عبد المطلب كان لا يستقسم بالأزلام ، ولا يعبد الأصنام ، ولا يأكل ما ذبح على النصب، ويقول : أنا على دين أبي إبراهيم عليه السلام([21]).
هذا فيما يخص الولاية التشريعية أما الكلام في الولاية التكوينية فهو مما فصلت فيه الكلام في كتاب (النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الولاية التشريعية لا تعني أن رسول الله صلى الله عليه وآله له الحق في تغيير الأحكام الشرعية فيُحرم الحلل أو يُحلل الحرام ، وإنما المراد أن الله تعالى فوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله تشريع بعض الأحكام في مساحة معينة بما أطلعه الله تعالى على حقيقتها ، هذا ما يقصده القائلون بثبوت الولاية التشريعية للنبي وآله (صلوات الله عليهم) ، كما أن المنفيين للولاية التشريعية لا يقصدون نفي حق الامتثال والطاعة لِما أمر به النبي وأهل البيت (صلوات الله عليهم) وإنما يقصدون التشريع في مساحة معينة كما تمت الإشارة إليه.
[2] ) الصورة الأولى : (أُوكل أمر التشريع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله).
[3] ) سورة النجم:3ـ4.
[4] ) في حال كون الأب والأم وارثين يستحب إطعام الجد سدس المال.
[5] ) بحار الأنوار،ج25،ص348.
[6] ) سورة الحشر:7.
[7] ) بصائر الدرجات،ص398.
[8] ) سورة القلم : 4.
[9] ) سورة الحشر : 7 .
[10] ) أصول الكافي،ج1،ص266.
[11] ) سورة ص : 39 .
[12] ) سورة الحشر : 7 .
[13] ) أصول الكافي،ج1،ص266.
[14] ) أصول الكافي،ج1،ص267.
[15] ) سورة آل عمران:128.
[16] ) سورة آل عمران:128.
[17] ) سورة الحشر : 7.
[18] ) تفسير العياشي،ج1،ص197.
[19] ) سورة النساء : 22.
[20] ) سورة الأنفال : 41.
[21] ) الخصال،ص312.