الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي(41)
من غلو الأحسائي في الصوفية والقول بعصمتهم
إن من إعظام ابن أبي جمهور الأحسائي لعرفاء الصوفية ، وغلوه فيهم ، والقول بعصمتهم ، هو قوله في المجلي بأن كلماتهم لا يمكن الاختلاف فيها عند عنوان : (لا يمكن الاختلاف في كلمات أهل الله) وهذا نصُّ قوله : (لا يتوهم أحد أن بين إشاراتهم اختلاف ولا بين عباراتهم خلاف جل جنابهم عن أمثال ذلك ؛ لأنهم من أهل الله الذين سبق فيهم حُكم الحديث القدسي : (لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه وبصره ولسانه ويده فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش وبي يمشي)([1]). فيكون كلامه كلامه وقوله قوله وفعله فعله كما قال الله تعالى: [وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمى] . والعارفون أهل الله كلهم في هذا المقام وهو مقام الوحدة الصرفة التي بها يكون فعلهم فعل المحبوب وقولهم قوله ، فلا يمكن في عباراتهم اختلاف في الحقيقة ، ولا في إشاراتهم خلاف عند أهل الطريقة ؛ لأنهم تابعون للأنبياء والأولياء على قدم الصدق والمحبة، فكما لا يمكن الاختلاف بين الأنبياء والأولياء في شيء من الأشياء مما يتعلق بالأصول الكلية الدينية والقواعد الإجماعية الشرعية فكذلك لا خلاف بينهم أيضاً، وإن اختلفت عباراتهم وتفرقت إشاراتهم. ومن الإشارات المذكورة عند التحقيق إشارة واحدة تقوم مقام الكل ؛ لأن المراد من الكل شيء واحد وهو إثبات وجود واحد ونفي وجودات آخر. فهذا بأي وجه حصل وبأي نوع اتفق فهو التوحيد المطلوب المسمى بالتوحيد الوجودي)([2]).
وما ذكره الأحسائي هو مقتبس من الصوفية الذين سبقوه مثل الغزالي وابن عربي ، أو قل أنه سار على طريقتهم في تعظيم هذه الجماعة وتبجيلها ، وفي أن كلماتهم لا يمكن الاختلاف فيها حيث يقول أبو حامد الغزالي : (إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السابقون لطريق اللّه تعالى خاصة ، وأن سيرتهم أحسن السير ، وطريقهم أصوب الطرق ، وأخلاقهم أزكى الأخلاق ؛ بل لو جمع عقل العقلاء ، وحكمة الحكماء ، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه ، لم يجدوا إليه سبيلاً ؛ فإن جميع حركاتهم وسكناتهم ، في ظاهرهم وباطنهم ، مقتبسة من نور مشكاة النبوة ، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به)([3]).
ويقول ابن عربي في أن كلمات أهل الكشف من الصوفية لا اختلاف فيها : (أهل الكشف المتقون من أتباع الرسل ما اختلفوا في الله أي في علمهم به ولا نقل عن أحد منهم ما يخالف به الآخر فيه من حيث كشفه وإخباره لا من حيث فكره فإن ذلك يدخل مع أهل الأفكار فهذا مما يدلك على إن علومهم كانت أنوارا لم تتمكن لشبهة أن تتعرض إليهم جملة واحدة فقد علمت إن النور إنما اختص بأهل النور وهم الأنبياء والرسل ومن سلك على ما شرعوه ولم يتعد حدود ما قرروه واتقوا الله ولزموا الأدب مع الله فهم على نور من ربهم نور على نور ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا يعني في نعت الحق وما يجب له)([4]).
وأي شيء تريد بعد ذلك يدلك على تأثر الأحسائي بالصوفية وإكباره وإعظامه لهذه الجماعة ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) روى الشيخ الكليني في أصول الكافي : (عن أبي جعفر عليه السلام قال : لما أسري بالنبي صلى الله عليه وآله قال : يا رب ما حال المؤمن عندك ؟ قال : يا محمد من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وأنا أسرع شيء إلى نصرة أوليائي وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن وفاة المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الغنى ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك ، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلا الفقر ولو صرفته إلى غير ذلك لهلك وما يتقرب إلي عبد من عبادي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وإنه ليتقرب إلي بالنافلة حتى أحبه فإذا أحببته كنت إذا سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ، إن دعاني أجبته وإن سألني أعطيته).أصول الكافي،ج1،ص352.
[2] ) مجلي مرآة المنجي،ج2،ص486.
[3] ) مجموعة رسائل الغزالي (كتاب المنقذ من الضلال) ،ص554.
[4] ) الفتوحات المكية،ج3،ص82.