اللامتناهي
إن اللامتناهي استعمل في الفلسفات المتقدمة على الإسلام وأريد به عدة معانٍ فلا يُتصور له استعمال واحد في الله عز وجل :
1 – اللامتناهي نقيض المتناهي . وهو ما لا حد ، ولا نهاية له . والفرق بينه وبين اللامحدود ، أن اللامحدود هو الذي لا يمكن أن يرسم له حدود بالفعل ، وان كانت له حدود ممكنة ، على حين أن اللامتناهي هو الذي لا حدود له على الإطلاق .
2 – واللامتناهي يكون بحسب الكم أو بحسب الكيف ، فإذا كان بحسب الكم دل على عظم أكبر من كل عظم ممكن ، كالعدد اللامتناهي ، وإذا كان بحسب الكيف دل على الصفات التي يتصف بها الموجود الكامل كالصفات الإلهية فهي لا متناهية .
3 – واللامتناهي أما موجود بالفعل كالكمية التي هي بالفعل أكبر من كل كمية معلومة من طبيعتها ، وأما موجود بالقوة كالكمية التي يمكنها أن تصير أكبر من كل كمية معلومة.واللامتناهي الموجود بالفعل هو اللامتناهي المطلق وهو مرادف للكامل ، أما اللامتناهي الموجود بالقوة فهو اللامتناهي النسبي ، وهو مرادف للامحدود . قال ابن سينا:(ما لا نهاية له هو كم أي أجزاؤه أخذت وجدت منه شيئا خارجا عنه غير مكرر) (رسالة الحدود 92) . وقال أيضا : (إن العدد لا يتناهى ، والحركات لا تتناهى ، بل لها ضرب من الوجود ، وهو الوجود بالقوة ، لا القوة التي تخرج إلى الفعل ، بل القوة بمعنى أن الأعداد تتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة ليس وراءها مزاد) (النجاة،ص203 – 204) ، ويطلق على اللامتناهي المطلق اسم اللامتناهي الايجابي وعلى اللامتناهي النسبي اسم اللامتناهي السلبي ، لأن الأول موجود بالفعل ، وهو خارج نطاق الكم ، على حين أن الثاني كم لا يمكنك أن ترسم له حدودا ، فهو إذن موجود بالقوة ، وبين هذين الضربين من اللامتناهي فرق في الكيف ، لا في الكم .
4 – والموجود اللامتناهي هو اللّه ، وهو ، عند ( ديكارت ) ، مرادف للموجود الكامل ، قال مالبرانش : (إن اللّه أو اللامتناهي لا يرى بالفكرة التي تمثله).
وإذا كان الإنسان وهو الموجود الناقص لا يستطيع أن يخلق بنفسه فكرة الموجود الكامل ، ولا أن يستمدها من العدم ، كان لا بد من أن يكون هناك موجود لا متناه كامل يطبع هذه الفكرة على نفس كل إنسان ، وهذا الموجود اللامتناهي الكامل هو اللّه (نقلا عن ديكارت ) .
5 – اللامتناهي في العظم ما هو أكبر من كل مقدار معلوم ، وأكثر استعماله في المقادير المتغيرة ، أو في الأعداد التي لا حد ولا نهاية لزياداتها
6 – واللامتناهي في الصغر ما هو أصغر من كل مقدار معلوم ، ويطلق على كل مقدار متغير ، حده ونهايته الصفر .
7 – واللاتناهي صفة اللامتناهي في الكم ، أو في الكيف .
8 – وحساب اللامتناهيات الصغرى هو الحساب الذي اخترعه (ليبنيز) و (نيوتون) في وقت واحد (عام 1670 تقريبا) ، وهو يتضمن جميع العمليات الرياضية المتعلقة بإيجاد علاقات بين المقادير المتناهية بوساطة كميات لا متناهية في الصغر ، وله قسمان حساب التفاضل ، وحساب التمام أو التكامل([1]).
وعد أرسطو الشر من اللانهائي والخير من المتناهي : (الشر هو من اللانهائي كما مثله بحق الفيثاغورثيون ، ولكن الخير هو من المتناهي ما دام أنه لا يمكن حسن السلوك إلا بطريقة واحدة . فانظر كيف أن الشر سهل إلى هذا الحد ، وكيف أن الخير على الضد صعب إلى هذا الحد)([2]).
وفلاسفة الهند وبعض المتقدمين من الفلاسفة ذهبوا إلى أن الأجسام غير متناهية : يقول مقداد السيوري (ت:826هـ) : (الأجسام هل هي متناهية بمعنى أنها تنتهي إلى حد لا يكون وراه جسم ، أو غير متناهية ؟ بمعنى أن يكون كل جسم وراه جسم وهكذا إلى غير النهاية . فذهب حكماء الهند وبعض الأوائل إلى الثاني ، وذهب المحققون من بالحكماء وغيرهم إلى الأول)([3]).
وأطلق ابن رشد اللامتناهي على الله عز وجل كما جاء في المعجم الفلسفي : اصطلاحان مدرسيان انتشرا في الفلسفة الأوربية بعد ترجمة كتب (ابن رشد) إلى اللغة اللاتينية ، فالطبيعة الطابعة عند ( اسبينوزا ) مثلا هي الجوهر اللامتناهي ، وهو اللّه من جهة ما هو أساس كل شيء ، ومبدأ كل فعل ، والطبيعة المطبوعة هي مجموع أحوال الجوهر وأعراضه ، اي مجموع الكائنات والنواميس ، وهي أمور غير متناهية([4]).
إطلاق اللامتناهي على الخالق عز وجل
إن إطلاق اللامتناهي على الخالق عز وجل يستلزم القول بأن المخلوقات جزء منه أو القول بأن المخلوقات لا وجود حقيقي لها ، وإنما هي وهم وخيال ومع عدم الالتزام بكلا القولين لا يمكن فرض وجود اللامتناهي إذ ينتهي بوجود غيره . بل لا يمكن تصور وجودين غير متناهيين ، لأن وجود الأول ينتهي بوجود الثاني كما أن وجود الثاني ينتهي بوجود الأول وحينها لا يمكن تصور اللامتناهي في أي منهما. يقول بعض شراح التجريد : أن عدم الملكة عبارة عن عدم خاص وسلب شيء عما من شأنه أن يتصف بالملكة . مثلا : الأمرد ليس عبارة عن عدم اللحية عن كل شيء بل عدم اللحية عما من شأنه أن يكون ملتحيا ، وكذا الأعمى والمجنون والأطرش ليست عدم البصر والعقل والسماع عن كل شيء بل عدمها عن الإنسان الذي من شأنه الاتصاف بالبصر والعقل والسمع ، وعلى هذا فلا يصدق الأمرد والأعمى والمجنون والأطرش على الجدار وان صدق عليه انه عديم للحية والبصر والعقل والسمع . ومثل هذا اللامتناهى ــ الذي هو عدم للتناهي ــ فإنه لا يصدق على شيء إلا أن يكون من شأنه التناهي ، فالمجرد ــ كالعقل بزعمهم ــ لا يصدق عليه أنه اللامتناهى لأنه ليس قابلا للتناهي . نعم التناهي واللاتناهي وصفان للكم حقيقة وللجسم ذي الكم عرضا ومجازا([5]).
وملخص ذلك : أن اللامتناهي مختص بمن شأنه الاتصاف بالتناهي وهو من أوصاف الكم([6])فلا يصدق على الباري عز وجل ولا يمكن نعته به .
إن نفي الحد عن لله عز وجل لا يدل على نعته باللامحدود واللامتناهي وإذا تكلمنا بمنطق نفي الحد يسوغ النعت بعدم الحد يكون نفس النعت بعدم الحد هو من الحد وهو معنى من معنى حده والإشارة إليه ، عن أمير المؤمنين عليه السلام : (من جهله فقد أشار إليه ومن أشار إليه فقد حده . ومن حده فقد عده)([7]). لأنّه عندما ينتهي حد الأول يبدأ حد الثاني أي عده.
وعنه عليه السلام :(ولا صمده من أشار إليه)([8]).
إن الإشارة إليه بالحد (لا محدود) والإشارة إليه المطلقة بعدم الحد (اللاتناهي) كليهما على حد سواء ممتنعة في حقه تعالى بعدم الإمكان والجواز.
وبعبارة أخرى : كما أن حده والإشارة إليه تعالى بحد من الحدود غير ممكن الإشارة المطلقة ممتعة أيضا إذ من الإشارة نعته بالمتناهي واللامتناهي ، روي عن الإمام الجواد عليه السلام : (ما سوى الواحد متجزئ والله واحد ، لا متجزئ ، ولا متوهم بالقلة والكثرة ، وكل متجزئ ومتوهم بالقلة والكثرة فهو مخلوق دال على خالق له)([9]).
عن ابن محبوب ، عمن ذكره ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رجل عنده : الله أكبر ، فقال : الله أكبر من أي شيء ؟ فقال : من كل شيء فقال أبو عبد الله عليه السلام : حددته فقال الرجل : كيف أقول ؟ قال : قل : الله أكبر من أن يوصف([10]).
اللاتناهي نظير الإشارة بالأين والكيف
إن عدم إمكان وصف الباري باللاتناهي نظير عدم إمكان الإشارة إليه بالأين والكيف كما روي في ثلة من الأخبار :
عن أمير المؤمنين عليه السلام : (لا يوصف بأين ولا بم ـــ أي لا يوصف بما هو بل يوصف بأفعاله ـــ ولا مكان ، الذي بطن من خفيات الأمور وظهر في العقول بما يرى في خلقه من علامات التدبير)([11]).
وعنه عليه السلام (إن الله جل وعز أين الأين فلا أين له ، وجل عن أن يحويه مكان)([12]).
وعنه عليه السلام (فقد جهل الله من استوصفه ، وقد تعداه من اشتمله وقد أخطأه من اكتنهه ، ومن قال : كيف فقد شبهه ، ومن قال : لم فقد علله ، ومن قال : متى فقد وقته ، ومن قال : فيم فقد ضمنه ، ومن قال : إلى م فقد نهاه ، ومن قال . حتى م فقد غياه ومن غياه فقد غاياه ، ومن غاياه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد وصفه ، ومن وصفه فقد ألحد فيه)([13]).
وعنه عليه السلام (إن الله عظيم رفيع لا يقدر العباد على صفته ولا يبلغون كنه عظمته ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ولا يوصف بكيف ولا أين وحيث ، وكيف أصفه بالكيف ؟! وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا فعرفت الكيف بما كيف لنا من الكيف أم كيف أصفه بأين ؟! وهو الذي أين الأين حتى صار أينا فعرفت الأين بما أين لنا من الأين ، أم كيف أصفه بحيث ؟! وهو الذي حيث الحيث حتى صار حيثا فعرفت الحيث بما حيث لنا من الحيث)([14]).
وعن الإمام الكاظم عليه السلام : (من وصف الله فقد حده ومن حده فقد عده ، ومن عده فقد أبطل أزله ومن قال : كيف ؟ فقد استوصفه ومن قال : فيم ؟ فقد ضمنه ومن قال على م ؟ فقد جهله ومن قال : أين ؟ فقد أخلا منه ، ومن قال ما هو ؟ فقد نعته ومن قال : إلى م ؟ فقد غاياه ، عالم إذ لا معلوم وخالق إذ لا مخلوق ورب إذ لا مربوب وكذلك يوصف ربنا وفوق ما يصفه الواصفون)([15]).
مؤاخذات وإجابات
إن القول بعدم إمكان نعت الله تبارك وتعالى باللامتناهي توجد عليه بعض الإشكالات المترسبة من الأثر الفلسفي فلا بأس من الإشارة إليها والإجابة عنها إتماماً للفائدة وإيضاحاً للمطلوب ، ولكل واحد من الإشكالات والإجابة عنه صلة بغيره فلا تتكون صورة واضحة إلا بمجموعها منضمة إلى بعضها الآخر :
الإشكال الأول :
قد يقال ليست المعضلة في الاصطلاح فبعض الفلسفات أطلقته على معانٍ والفلاسفة الإسلاميون أرادوا به الله عز وجل .
والجواب: ليست المعضلة في الاصطلاح فيما لو ذهبنا إلى أن الصفات غير توقيفية ، أما لو قلنا بتوقيفية الأسماء يكون مجرد الاصطلاح حينها محل إشكال.ولو تجاوزنا توقيفية الأسماء وتكلمنا في إمكان إطلاق الاصطلاح على الباري عز وجل لكان عدم إمكان وصحة ذلك ؛ إذ تصور وجود اللامتناهي إلى جنب وجودات في الوجود غير ممكن إلا إذا التزمنا بأنها (الوجودات) عبارة عن أوهام وخيالات كما قال بذلك بعض الصوفية ، وهو مما لا نلتزم به قطعاً.وهذا الجواب لا يخلو من الخدش فيه كما سيظهر من الإشكال الثاني ونفيه.
الإشكال الثاني :
وقد يُقال : إذا كان المقصود باللاتناهي هو المفهوم المادي فهذا ممتنع ، وأما إذا كان المقصود باللاتناهي المعنى المجرد غير المادي لا يلزم القول بعدم التناهي إلا على فرض وهم الموجودات فيصح وجوده ولا يتناقض مع الموجودات.
والجواب: إن الله عز وجل لا يتصف بالمتناهي واللامتناهي حتى يقال يشكل فرض التناهي إذا كان مادياً ويصح إذا كان غير مادي حيث نفي الحد عنه تعالى كما روي في عدة نصوص لا يعني نعته باللامحدود لأن نفي الصفة لا يسوغ النعت بنقيضها ؛ فإذا كانت أسماؤه لا تنفد هل يا ترى يصح لنا وصفه باللانافد وإذا كانت لا تتغير ولا تتبدل فهل يصح وصفه باللامتغير واللامتبدل؟!
الإشكال الثالث : وقد يقال نصفه باللامتناهي لأن صفاته غير متناهية.
والجواب: هو أننا لا ندرك حقيقة صفاته وليس المتعقل لنا منها سوى سلب نقائضها كما روي في عدة أخبار من ضمنها ما روي عن الإمام الرضا عليه السلام (وإنما سمي الله عالما لأنه لا يجهل شيئا.. ولكنه أخبر أنه لا يخفى عليه شيء من الأصوات.. وأما الخبير فالذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته)([16]).
فإذا كانت صفاته غير مدركة لنا كيف لنا وصفها بالتناهي أو عدم التناهي ، وإذا لم يكن لنا نعتها (الصفات) بالتناهي كيف لنا نعت الله به.
وبعضهم أراد تصحيح المصطلح بقوله ليس بإمكان البشر تصور اللامتناهي ، وكأنه من الحقائق المسلمة لديه وليس لنا رفضه إلا القول بعجزنا عن إدراك تصوره ، يقول الشيخ جعفر السبحاني : إن من المفاهيم المعقدة هو تصور مفهوم (اللامتناهي) بحقيقته وواقعيته([17]).
الإشكال الرابع :
وقد يُقال : العقل يقضي بأن وصف الله باللامتناهي أما نثبته ونقول هو لا متناه أو ننفيه ونقول هو متناه لأن النقيضين لا يرتفعان.
والجواب :
بداية يتطلب إثبات أن الفرض من الموارد التناقض ثم التأسيس والتفريع عليه إذ ثبوت شيء لشيء فرع ثبوت المثبت له ، وكما يقولون : ثبت العرش ثم انقش ، وذلك لأن الله لا يمكن وصفه بالمتناهي واللامتناهي حتى يُقال العقل يُحتم وصفه بأحدهما ، يا ترى هل يصح وصف الحائط بالبصر والعمى ؟! وهل يصح نعته بالعلم والجهل والبلادة والجنون ونحوها من الأوصاف أم أن هذه الأوصاف مختصة بمن شأنه الاتصاف بها. وبعبارة أخرى تصح هذه الأوصاف فيمن شأنه أن يتصف بالملكة وعدمها لا مطلقا . ومثل ذلك اللامتناهى ــ الذي هو عدم للمتناهي ــ فإنه لا يصدق على شيء إلا أن يكون من شأنه التناهي.وتقدم ما جاء في المعجم الفلسفي (اللاتناهي صفة اللامتناهي في الكم أو في الكيف)([18]). والله يجل عن الكم والكيف فلا يوصف باللامتناهي.
ولربما يخطر في الذهن تساؤل قريب مما تقدم : في الواقع هل الله تعالى متناهٍ أو لا متناهٍ ؟
والجواب : نحن لا نعرف كنه الذات لكي ننعتها بالتناهي أو اللامتناهي ، وهذا من التفكر في الذات المنهي عنه في النصوص الدينية . نعم ننفي أن يكون التناهي صفة من صفاته وبعبارة أخرى : ننفي صفة التناه أن تكون من صفاته ، أما نعت الله عز وجل بالمتناهي أو اللامتناهي غير ممكن.
الإشكال الخامس :
وقد يُقال : روي عن الإمام الرضا عليه السلام في نفي ما لا يليق بالباري عز وجل : (هو ليس بجسم ولا صورة ، لم يتجزأ ، ولم يتناه ، ولم يتزايد ، ولم يتناقص)([19])فلِمَ لا يصح نعت الله باللامتناهي لأنه ورد فيه : (ولم يتناه)؟
والجواب :يوجد فرق بين نفي الصفة وبين نعته بعدمها إذ الأحاديث نفت (الجزء) عن الله ولكنها لم تصفه باللاجزء ونفت (الجهل) ولم تصفه باللاجهل ونفت (الأين) عن الله عز وجل ولكن لم تصفه باللاأين ونفت عنه (الغاية) ولم تصفه باللاغاية ونفت عنه (الكيف) ولم تنعته باللاكيف..
وبعبارة أخرى : هذا الحديث ونحوه بصدد نفي صفة لا إثبات اسم لله عز وجل ، ولا يمكن نعت الله عز وجل بنقيض الصفة المنفية فنفي التناه لا يسوغ نعته باللامتناهي ونعته باللامتناهي لا يجيزه نفي التناه،ولك أن تقول نعته بنفي صفة من صفات السلب والإجلال ـــ التي يجل الله تعالى عن الاتصاف بها ــ لا يجيز نعته بضدها ؛ لأن كنه الذات لا تدركه أفهامنا ولا تناله أوهامنا ولذا لا يمكن إطلاق الاسم من خلال الضد للصفة المنفية . وفي توقيفية الأسماء قد يكون عدم الإمكان والجواز ليس لنفس ذات المعنى فحسب وإنما لما يترتب عليه من لوازم فاسدة مثلا أنه يعطى صورة عن ذات الحق غير محبذة ومرادة ، أو لكون عدم الجواز يندرج تحت التفكر في ذات الله عز وجل حيث الوصف يقتضي التصور المسبق للموصوف ، أو أنه يقود إلى ذلك ، أو أن عدم الجواز حتى لا يُتجرأ ويفتح هذا الباب لوصف الله بما لم يصف به نفسه إلى غير ذلك.
وهذا الإشكال إلى حد ما نظير ما أُورد في اعتراض الإشكال الثالث وما جاء في الرد عليه ، وبعد ذلك انظر في جواب الإشكال السادس لترى ما له من صلة فيه.
الإشكال السادس :
وقد يُقال ورد في الراويات الله تعالى : (لم يتناه) وقول : (اللامتناهي) هو لنفي صفة التناهي فلا يفرق عن قولنا : (لم يتناه) وليس اسماً لله تعالى.
والجواب : يوجد فرق بين نفي الصفة وبين نعته تعالى وتسميته لنفي الصفة وللتوضيح من خلال المثال : إذا أردنا نفي صفة القيام عن زيد نقول غير قائم أو لم يقم ونحو ذلك من أدوات النفي ، ولا يصح قولنا عن زيد : (باللاقائم) و (اللاقيام) حيث لم يستقم المعنى في هذين لأنهما تجاوزا نعت الصفة وكانا اسماً للذات.
ولربما يتبادر : أن التعبير بـ (اللامتناهي) غير صحيح لأن التركيب خطأ بسبب دخول لا التعريف (أل) على الحرف (لا) وهذا الاستخدام لا يجوز لأن (أل) التعريف مختصة بالدخول على الاسم([20])فقط وعندئذٍ يصح : (لا متناهي) بدلاً عن : (اللامتناهي) كما يصح في نعت زيد : (لا قائم) بدلاً عن : (اللاقائم).
وفي مقام الإجابة عن ذلك : (لا متناهي) و (لا قائم) غير صحيح أيضا ، أما في خصوص (لا قائم) يكاد يكون إجماع أهل اللغة على عدم جوازه ، يقول السيوطي : (وممتنع نحو زيد لا قائم ، ورجل لا قائم ، لأنه كذب ، إذ معناه لا قائم في الوجود)([21]).
ويقول البغدادي في خزانة الأدب : (لا يجوز : كان زيد لا قائم ولا قاعد ، على تقدير : لا هو قائم ، ولا هو قاعد لأنه ليس موضع تبعيض ولا قطع)([22]).
أي لأن الكلام ليس موضعاً للتبعيض ولا القطع أي قطع الكلام عما قبله
ويصح : (زيد لا قائم) على نحو التكرار ، يقول أبو السعادات الجزري (ت:606هـ) : (إن (لا) إذا وقعت بمعنى (غير) فلا بد من تكريرها ، تقول : زيد لا قائم ولا نائم ، فحذفوا المبتدأ ها هنا ليناسب في اللفظ (لا) التي بمعنى (ليس))([23]).
ويقول أيضا أبو العباس الحلبي (ت:756هـ) : وتكرّرت (لا) لأنها متى وقعت قبل خبر أو نعت أو حال وجب تكريرها ، تقول : زيد لا قائم ولا قاعد ، ومررت به لا ضاحكا ولا باكيا ، ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة ، خلافا للمبرد وابن كيسان)([24]).
وبعد ذلك : (زيد لا قائم) لا تصح إلا بتكرارها وفي قولنا : (لا متناهي) الذي هو محل الكلام لا تصح مجردة من غير تكرار ، ولا يمكن تكرارها ؛ ففي كلتا الحالتين لا تصح ؛ أما كونها من غير تكرار لأنها نعت للذات بواسطة نفي الصفة وأما التكرار فممتنع فيها (لا متناهي) ؛ إذن (لامتناهٍ) هي نعت للذات وليست نفياً للصفة.
ويجدر هنا ذكر كلام السيد الخوئي رحمه الله : (أن أخذ عدم العرض في الموضوع لا يقتضي بطبعه إلا أخذه على ما هو عليه ، من كونه عدماً محمولياً ، على ما هو الحال في القضايا السالبة ، مثل قولنا : (زيد ليس بقائم) ، فإن النسبة السلبية فيها لا تحكي إلا عن عدم الربط بين القيام وزيد في الخارج . وأما أخذه فيه ــ أي أخذ عدم العرض في الموضوع ــ ناعتياً كما في موارد الموجبة معدولة المحمول ، كما في قولنا : (زيد لا قائم) ، فيحتاج إلى عناية زائدة ، بأخذ خصوصية في الذات ملازمة لعدم المحمول ، فإن كان هناك ما يدل عليها فهو ، وإلا فالأصل يقتضي عدمه)([25]).
والمراد من كلامه هو ما جاء في : (زيد لا قائم) أخذ عدم العرض في الموضوع ناعتيا أي نعتا للموضوع.
والقضايا المعدولة مثل : (زيد لا قائم) ونحوها من سائر القضايا مما حُكم فيه بثبوت أمر عدمي لموضوع يُعتبر فيه السلب من حيث سلب الملكة ، أي في موضع يمكن فيه تحقق الملكة ؛ فلا يصدق : ( الجدار لا بصير ) لأن الجدار لم تكن له القابلية على الاتصاف بملكة البصر وعدمها .
الإشكال السابع :
وقد يقال أن اللامتناهي يصح إطلاقه على الخالق عز وجل بنص دلالة الكثير من النصوص الدينية التي تنفي الحد عنه وهذا يلزم صحة نعته باللامتناهي (اللامحدود) وإطلاقه عليه فمن ضمن تلك النصوص :
عن أمير المؤمنين عليه السلام : (ليس له حد ينتهي إلى حده)([26]).
وعنه عليه السلام : (أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفا ولا في رويات خواطرها فتكون محدودا مصرفا)([27]).
وعنه عليه السلام (لا يدرك بوهم . ولا يقدر بفهم…ولا يحد بأين)([28]).
وعنه عليه السلام (تبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن وتعالى الذي ليس له وقت معدود ولا أجل ممدود ولا نعت محدود)([29]).
وعنه عليه السلام (الذي لا يدركه بعد الهمم ولا يناله غوص الفطن الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود . ولا وقت معدود ولا أجل ممدود)([30]).
وعنه عليه السلام (لا تقدره الأوهام بالحدود والحركات ، ولا بالجوارح والأدوات . لا يقال له متى ، ولا يضرب له أمد بحتى . الظاهر لا يقال مما ، والباطن لا يقال فيما… فالحد لخلقه مضروب ، وإلى غيره منسوب)([31]).
وعنه عليه السلام : (لا يشمل بحد ، ولا يحسب بعد ، وإنما تحد الأدوات أنفسها ، وتشير الآلة إلى نظائرها)([32]).
عن الإمام السجاد عليه السلام : (إن الله لا يوصف بمحدودية ، عظم ربنا عن الصفة فكيف يوصف بمحدودية من لا يحد ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)([33]).
عن الإمام الصادق عليه السلام : (هو الخالق للأشياء لا لحاجة ، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه)([34]).
وعنه عليه السلام (الذي عجز الواصفون عن كنه صفته ، ولا يطيقون حمل معرفة إلهيته ، ولا يحدون حدوده ، لأنه بالكيفية لا يتناهى إليه)([35]).
عن الإمام الكاظم عليه السلام (فمن ظن بالله الظنون هلك ، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حد تحدونه بنقص أو زيادة ، أو تحريك أو تحرك ، أو زوال أو استنزال ، أو نهوض أو قعود ، فإن الله جل وعز عن صفة الواصفين ، ونعت الناعتين وتوهم المتوهمين)([36]).
وعنه عليه السلام (إن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من أن يحد بيد أو رجل أو حركة أو سكون ، أو يوصف بطول أو قصر ، أو تبلغه الأوهام ، أو تحيط به صفة العقول)([37]).
وعن الإمام الرضا عليه السلام : (كل محدود متناه إلى حد ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ، ولا متزايد ولا متناقص ، ولا متجزء ، ولا متوهم)([38]).
وعن الإمام الهادي عليه السلام : (سبحان من لا يحد ولا يوصف ، ليس كمثله شيء وهو السميع العليم)([39]).
وبعد هذه الأحاديث الكثيرة التي تنفي الحد لِمَ لا يصح وصف الباري بـ : (اللامتناهي)؟
والجواب : هذه الأحاديث بصدد نفي الحد (التناهي) لا إثبات (اللاتناهي) ، وتوجد عدة أحاديث تدل على الأمر بوصف الله بما وصف به نفس ، وهذه الأحاديث بما لها من أمر شرعي من الاقتصار على وصف الله بما وصف بنفسه إلا أنها مضافا إلى ذلك ترشد إلى عدم نعت الله بغير ما وصف به نفس ولازمه كل وصف لم يرد على لسان الشرع هو غير صحيح ويلزم منه ما لا يليق بالباري عز وجل.
وصف الله عز وجل باللامتناهي من الأثر السيء للفلسفة في العقائد
إن الأحاديث كثيرة جدا بعدم وصف الله إلا بما وصف به نفسه ولكن مع ذلك يوجد من يتجاهل الأحاديث ويبتدع صفات من تلقاء نفسه وهذه من الجراءة على الله عز وجل والمخالفة الصريح للحديث ، وما ذاك إلا بسبب الأثر السيئ للفلسفة في علم الكلام . واللامتناهي نظير ما وصوفوا به الباري تعالى بمثل : (واجب الوجود) (علة العلل) (أصل الأصول) (غيب الغيوب) (الضرورة الأزلية) (الطبيعة الواجبية) وغير ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] المعجم الفلسفي،ج2،ص.271
[2] علم الأخلاق إلى نيقوماخوس،ج،1ص247.
[3] إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين،ص60.
[4] المعجم الفلسفي،ج2،ص16.
[5] القول السديد في شرح التجريد،ص113.
[6] يقول الخواجة الطوسي:(النهاية واللا نهاية من الأعراض الذاتية – التي تلحق الكم لذاته – ويلحق كل ما له أو لشيء يتعلق به كمية) شرح الإشارات والتنبيهات،ج3،ص175
ومما ذُكر في شروح البادية : (عندما نقول هذا متناه وهذا غير متناه ، حجم الأرض متناه بينما حجم الكون فيه امتداد واتساع دائم ، فالنهاية ليس في الأرض نفسها بل في حجمها أي في الجسم التعليمي ، فالمتناهي واللامتناهي الكم لا الجسم الطبيعي نفسه).مبادئ الفلسفة الإسلامية،ج2،ص59
[7] نهج البلاغة،ج1،ص15.
[8) نهج البلاغة،ج2،ص119.
[9] توحيد الصدوق،ص193.
[10] أصول الكافي،ج1،ص117.
[11] أصول الكافي،ج1،ص141.
[12] إرشاد المفيد،ج1،ص201.
[13] توحيد الصدوق،ص37.
[14] أصول الكافي،ج1،ص103.
[15] أصول الكافي،ج1،ص140.
[16] أصول الكافي،ج1،ص121.
[17] مفاهيم القرآن،ج6،ص346.
[18] المعجم الفلسفي،ج2،ص273.
[19] توحيد الصدوق،ص61.
[20] (اللاشعور) ، (اللاديني) ، (اللاعقل) هذه المفردات ونحوها لم ترد في اللغة وإنما هي شاعت في الأزمنة المتأخرة .
[21] الاقتراح في علم أصول النحو،ص47.
[22] خزانة الأدب،ج6،ص132.
[23] البديع في علم العربية،ج1،ص65.
[24] الدر المصون،ج1،ص254.
[25] مجمع الرسائل،ج49،ص61.
[26] أصول الكافي،ج1،ص142.
[27] نهج البلاغة،ج1،ص165.
[28]نهج البلاغة،ج2،ص105.
[29] أصول الكافي،ج،ص135.
[30] نهج البلاغة،ج1،ص14.
[31] نهج البلاغة،ج2،ص65.
[32] نهج البلاغة،ج2،ص120.
[33] أصول الكافي،ج1،ص100.
[34] أصول الكافي،ج1،ص145.
[35] أصول الكافي،ج1،ص137.
[36] أصول الكافي،ج1،ص125.
[37] توحيد الصدوق،ص،ص75.
[38] توحيد الصدوق،ص252.
[39] أصول الكافي،ج2،ص102.