اتفق الشيخ محمد مهدي النراقي صاحب كتاب جامع السعادات مع شيخ الإشراق السهروردي (ت:587هـ) بأن علم الله تعالى حضوري إشراقي وبعد ذلك نقل الشيخ النراقي مكاشفة حصلت لشيخ الإشراق ظهر له فيها أرسطو يشرح له العلم الحضوري الإشراقي على النحو الذي اختاره شيخ الإشراق فيما بعد ، نعم نقلها الشيخ النراقي تيمنا وللبركة كما هو يقول ، وإن صحة هذه المكاشفة لربما تراءى له فيها شيطان من الشياطين على أنه أرسطو كما تراءى إبليس لأبي الخطاب ففي خبر عن الإمام الصادق عليه السلام قال : (تراءى واللّه إبليس لأبي الخطاب على سور المدينة أو المسجد فكأني أنظر إليه وهو يقول له أيها نظفر الآن أيها نظفر الآن). اختيار معرفة الرجال،ص175.
وعن حفص بن عمرو النخعي قال كنت جالسا عند أبي عبد الله فقال له رجل : جعلت فداك أن أبا منصور حدثني أنه رفع إلى ربه وتمسح على رأسه وقال له بالفارسية (يا پسر) ــ (يا پسر) : (يا بني) أو (يا صغيري) ــ فقال له أبو عبد الله عليه السلام : حدثني : أبي عن جدي أن رسول الله قال : إن إبليس اتخذ عرشا فيما بين السماء والأرض، واتخذ زبانية كعدد الملائكة فإذا دعا رجلا فأجابه ووطئ عقبه وتخطت إليه الأقدام ، تراءى له إبليس ورفع إليه ، وان أبا منصور كان رسول إبليس ، لعن الله أبا منصور ، لعن الله أبا منصور ثلاثا. اختيار معرفة الرجال،ص176.
وقد علق السيد عبد الأعلى السبزواري على هذا الخبر قائلا : هذه الرواية تبطل جملة مما يدعونه أهل الكشف والشهود خصوصا مثل مكاشفات محيي الدين كما في جملة من كتبه سيما ما سماه بالفتوحات المكية. التعليق على بحار الأنوار،ج2،ص110.
وإليك مكاشفة شيخ الإشراق نصا كما نقلها الشيخ النراقي قائلا :
إن هذه الطريقة في العلم ــ أي أن علم الله حضوري على طريقة شيخ الإشراق ــ قد ظهرت للشيخ الإلهي من بيان المعلم الأول له في بعض الخلسات – كما أشار إليه في التلويحات : إني رأيت المعلم الأول في بعض خلساتي فشكوت إليه من صعوبة مسئلة العلم فقال لي:ارجع إلى نفسك ينجلى لك !
فقلت : وكيف ذلك ؟
قال : إنك تدرك نفسك فإدراكك لنفسك إنما هو بذاتك لا بغير ذاتك حتى تكون إذن قوة أخرى أو ذات أخرى بها تدرك ذاتك – إذ لو كان كذلك يلزم التسلسل – فإذن تدرك ذاتك باعتبار اثر في ذاتك وهذا الأثر إن لم يطابق ذاتك فلا يكون صورتها وحينئذ ما أدركتها.
قلت : ولعل الأثر صورة ذاتي !
فقال : هذه الصورة هل هي مطلقة أو مخصصة بصفات أخرى؟
فاخترت الثاني ؛ فقال : كل صورة في النفس هي كلية وإن تركّبت من كليات كثيرة فهي لا يمنع الشركة لنفسها وأنت تدرك ذاتك وهي مانعة للشركة بذاتها فليس هذا الإدراك بالصور.
قلت : لعل المدرك في مفهوم أنا.
فقال : مفهوم أنا من حيث هو مفهوم أنا لا يمنع وقوع الشركة فيه وقد علمت أن الجزئي من حيث هو جزئي يمنع وقوع الشركة فيه فهو لا يكون كليا مع أن هذا و (أنا) و (نحن) و (هو) لها معان كلية من حيث مفهوماتها المجردة من دون إشارة جزئية ؛ فقلت : فكيف إذن ؟
فقال : فلما لم يكن علمك بذاتك غير ذاتك – بل كان عين ذاتك – فأنت تعلم أنت المدرك لذاتك لا غير ولا تأثير غير مطابق فذاتك هي العقل والعاقل والمعقول.
فقلت : زدني !
فقال : ألست تدرك بذلك الذي تتصرّف فيه إدراكا مستمرا لا تغيب عنه؟
فقلت : بلى !
فقال : هذا الإدراك لا يجوز أن يكون بحصول صورة شخصية في ذاتك – لما تقدم من استحالته –
فقلت : لعل يكون هذا الإدراك بأحد صفات كلية.
فقال : ذاتك غير بدنك الخاص وأنت بذاتك تعرف بدنا خاصا جزئيا وما أحدث من الشعور والصفات لا يمنع لنفسها وقوع الشركة فيها فليس إدراكك لها إدراكا لبدنك الذي لا يتصور أن يكون مفهومه ثابتا لغيره .
ثم قال أما قرأت من كتبنا أن النفس يتفكر باستخدام المتفكرة وهي تفصل وتركب الجزئيات وترتب الحدود الوسطى والمتخيلة لا سبيل لها إلى إدراك الكليات لأنها جزئية فإن لم يكن للنفس اطلاع على الجزئيات فكيف تركب مقدماتها؟! وكيف ينتزع الجزئيات من الكليات؟! وفي أي شيء يستعمل المفكرة ؟! وكيف يأخذ الخيال؟!
ما ذا يفيد تفصيل المتخيلة؟! وكيف يستعد بالفكر للعلم بالنتيجة؟!
ثم المتخيلة جزئية فكيف يدرك نفسها والصورة المأخوذة عنها في النفس كلية وأنت عالم بتخيلك ووهمك الشخصين الموجودين ودريت أن الوهم ينكرهما .
قلت : فارشدني جزاك اللّه عن زمرة العلم خيرا !
قال : وإذا رأيت أنها تدرك لا بأثر مطابق ولا بصورة فاعلم!:أن التعقل حضور الشيء للذات المجردة عن المادة – وإن شئت قلت عدم غيبته عنها – وهذا أتم لأنه يعلم إدراك الشيء لذاته وغير الشيء لا ينحصر لنفسه ولكن لا يغيب عنها.وأما النفس فهي مجردة غير غائبة عن ذاتها فبقدر تجردها أدركت ذاتها،وما غاب عنها إذ لم يكن لها استحضار عينه – كالسماء والأرض ونحوهما – فاستحضرت صورته . وأما الجزئيات ففي قوى حاضرة لها فاستحضرت،وأما الكليات ففي ذاتها إذ المدركات الكلية لا ينطبع في الأوهام،والمدرك هو نفس الصورة لا ما خرج عن التصور،وإن قيل للخارج أنه مدرك فذلك بقصد ثان وذاتها غير غائبة عن ذاتها ولا بدنها جملة ما ولا قوى لبدنها جملة ما وكان الخيال غير غائب عنها.وكذلك الصور الخيالية فتدركها النفس بحضورها لا لتمثلها في ذات النفس،ولو كان تجردها أكثر لكان الإدراك بذاتها أكثر وأشد،ولو كان تسلطها على البدن أشد كان حضور قواها وأجزائها أشد.
ثم قال : اعلم إن العلم كمال للموجود من حيث هو موجود ولا يوجب تكثرا ولا يمتنع.وما يمكن للواجب بالإمكان العام يجب أن يكون له بالفعل ، إذ لا يمكن له – تعالى – شيء بالإمكان الخاص،إذ ذلك يوجب أن يتحقق فيه جهة إمكانية ، فيلزم التكثر فيه .
ثم قال : فواجب الوجود ذاته مجردة عن المادة وهو الوجود البحت،والأشياء حاضرة له على إضافة مبدئيته وسلطنته لأن الكل لازم ذاته فلا يغيب عنه ذاته ولا لازم ذاته وعدم غيبته عن ذاته ولوازمه مع التجرد عن المادة هو إدراكه – كما قررناه في النفس – ويرجع الحاصل في العلم كله إلى عدم غيبته عن المجرد عن المادة – صورة كانت أو غيرها – ، فالإضافة جائزة في حقه – تعالى – وكذا السلوب،ولا تخل بوحدانيته.وتكثر أسمائه بهذا السلوب والإضافات،ولو كانت لنا على غير بدننا سلطنة – كما على بدننا – لأدركناه كادراك البدن من غير حاجة إلى صورة،فتعين بهذا أنه على كل شيء محيط . وإدراك أعداد الوجود نفس الحضور له من غير صورة ومثال .
ثم قال لي : كفاك في العلم هذا.
انتهى ما أفاده المعلم الأول بأدنى تغيير.وإنما تعرضنا لنقل هذا الكلام بطوله مع سبق ذكر ما هو حاصله أيضا تيمّنا بذكر عباراته وزيادة للتوضيح وبعض الفوائد.جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص194ــ197