خرافات فلسفيى (14)
خرافة السنخية بين الخالق والمخلوق
السنخية هي وجود الشبه والمناسبة بين الخالق والمخلوق ، ولو لم تكن المناسبة لصدر كل شيء من كل شيء هكذا زعموا مع أن المناسبة حاصلة بين المعلولات فيما بينها ولا يمكن فرضها في حق الخالق عز وجل . وبعبارة مختصرة لا يمكن انتزاع المناسبة فيما بين المعلولات وتصويرها ما بين الله تعالى وخلقه.
ومن الفلاسفة والصوفية الذين قالوا بالسنخية ملا صدرا وهذا نص ما قاله : (إن العلة المفيضية لا بد وأن يكون بينها وبين معلولها ملائمة ومناسبة)([1]).
وأيضا السيد الطباطبائي يقول بالسنخية بين العلة والمعلول : (المتحصل مما تقدم من المباحث وما سيأتي أن هذا العالم المادي معلول لعالم نوري مجرد عن المادة متقدس عن القوة وأن بين العلة والمعلول سنخية وجودية بها يحكى المعلول بما له من الكمال الوجودي بحسب مرتبته الكمال الوجودي المتحقق في العلة بنحو أعلى وأشرف والحكم جار إن كان هناك علل عقلية مجردة بعضها فوق بعض حتى ينتهي إلى الواجب لذاته جل ذكره)([2]).
والسنخية تارة تكون بين المعلولات الطبيعية مثل صدور الحرارة من النار والبرودة من الثلج وهذا لا يلزم منه التشبيه للخالق عز وجل وإنما الذي يلزم منه التشبيه السنخية بين الخالق ومعلوله عندما نصل لمبدأ السنخية لله تبارك وتعالى وعلى حد تعبير ملا صدرا : (العلة المفيضة) وتعبير السيد الطباطبائي : (حتى ينتهي إلى الواجب لذاته جل ذكره).
وهذا مما يقع فيه اللبس والاشتباه من بعض الدارسين يقولون السنخية لا يلزم منها التشبيه وهو يقصد تصويرها على مبدأ المعلولات الطبيعية وفاته أن التشبيه المعني لا شأن له بسنخية المعلولات وإنما بلحاظ سنخية الخالق عز وجل والمعلولات.
ولو كان الخالق مسانخا للمخلوق كما يزعمون لكان موصوفا بالفقر والعجز كالمخلوقين جل الله عما يزعمون،ناهيك عن عدم وجود دليل يثبت السنخية.
وأراد بعضهم الفرار من محذور السنخية والشبه بين الخالق والمخلوق وأجهد نفسه في تصوير السنخية بمنأى عن التشبيه إلا أنه كر على ما فر منه.
والمؤاخذة الأخرى الشديدة في المقام أن الفلاسفة الإسلاميين أخذوا مبدأ السنخية كآية قرآنية أو حديث متواتر قطعي الصدور ولم يبق لهم سوى شرحه وتصويره وكأنهم وجدوا أنفسهم لا مناص لهم من السنخية!
وقد تستغرب مما تقدم ؟! ولكي لا تستغرب تذكر كلام ملا صدر في الحكمة المتعالية!عن عشق المخلوق الذي أخذه من أفلاطون وأرسطو والصوفية ومن ثم غدا يُنظر له في حكمته المتعالية!
وتذكر فكرة الفناء في الله تعالى وهي مما لا شك فيه فكرة صوفية وكيف أخذ السيد الطباطبائي تصوير الفناء في الله عز وجل كما ذكر السيد الطهراني في مراسلاته للسيد الطباطبائي في كتاب الشمس الساطعة([3]).
وتذكر أيضا أن قاعدة : (الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد) هي من أفكار الفلاسفة والمعتزلة كما نقل الخواجة الطوسي في (تلخيص المحصل) المعروف بنقد المحصل :(العلة الواحدة يجوز أن يصدر عنها أكثر من معلول واحد عندنا ، خلافا للفلاسفة والمعتزلة)([4]). وكيف أن ملا صدرا والسيد الطباطبائي ألزما نفسيهما بتصويرها..
السنخية ولزوم التشبيه :
إن العلماء من غير ذوي الاتجاه الفلسفي وحتى بعض الفلاسفة يدركون جيدا التشبيه من السنخية ؛ يقول القاضي سعيد القمي (ت:1107هـ) : (القول بكون المعلول عين العلة بالذات وغيره بالاعتبارات السلبية ، وكذا القول بالجزئية سواء كانت من طرف العلّة أو المعلول ، والقول بالأصلية والفرعية ، والقول بالسنخية أو الترشح أو العروض سواء كان ذلك الأخير من جهة العلة أو المعلول ، والقول بالكمون والبروز وما يضاهي ذلك ، على حد الشرك والكفر)([5]).
ويقول المحقق البهبهاني (ت:1205هـ) : (وتوهم أنه تعالى علة لوجود العالم ، وهو معلول عنه ، ومن شرائط العلة تحقق السنخية بينهما كسنخية الشيء والفيء وهمٌ واضح فإنه تعالى شأنه موجد الأشياء وفاعلها بمشيئته ولا تلزم السنخية بين الفاعل المختار وأفعاله . وإنما تجب السنخية بين العلل المضطرة ومعلولاتها كالنار وإحراقها مثلا)([6]).
ويقول السيد عبد الأعلى السبزواري : (توهم أن أصل القاعدة ــ أي إمكان الأشرف ــ إنما يتم بناء على لزوم السنخية بينه جل شأنه وبين خلقه ، وقد أبطلتها الشرائع المقدسة فلا موضوع لقاعدة (إمكان الأشرف) أصلا . غير صحيح ، لأنه لا ربط للسنخية بهذه القاعدة أبدا لما أثبتناه في الفلسفة الإلهية من أن السنخية على فرض اعتبارها إنما هي في الفاعل الموجب لا في الفاعل المختار ، والأئمة الهداة ^ جعلوا إرادته تعالى عين فعله حتى لا يلزم توهم هذه المحاذير)([7]).
وذكر السيد الخوئي أن السنخية خاطئة لوجوه : (ما عن الفلاسفة من أن الذات الأزلية علة تامة للأشياء ، وتصدر منها على ضوء مبدأ السنخية والمناسبة ، حيث إن الحقيقة الإلهية بوحدتها وأحديتها جامعة لجميع حقائق تلك الأشياء وطبقاتها الطولية والعرضية ، ومنها أفعال العباد فإنها داخلة في تلك السلسلة التي لا تملك الاختيار ولا الحرية . والجواب عنه أن هذه النظرية خاطئة من وجوه : الأول : ما تقدم بشكل موسع من أن هذه النظرية تستلزم نفي القدرة والسلطنة عن الذات الأزلية ، أعاذنا اللََّه من ذلك . الثاني : أنه لا يمكن تفسير اختلاف الكائنات بشتى أنواعها وأشكالها ذاتا وسنخا على ضوء هذه النظرية ، وذلك لأن العلة التامة إذا كانت واحدة ذاتا ووجودا وفاردة سنخا ، فلا يعقل أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها ضرورة)([8]).
وكلمات العلماء في إبطال التشبيه ونحوه مما لا يليق بالباري عز وجل جاءت ببركة ما روي عن أئمة الهدى صلوات الله عليهم فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في وصف الباري تعالى : (الذي بان من الخلق فلا شيء كمثله)([9]).
وعنه ع: (الحمد لله الذي لا من شيء كان ولا من شيء خلق ما كان قدرته بان بها من الأشياء وبانت الأشياء منه)([10]).
وعنه ع : (لأنه خلاف خلقه فلا شبه له من المخلوقين)([11]).
وعن الإمام الصادق ع : (من شبه اللَّه بخلقه فهو مشرك)([12]).
وعنه ع : (إن الله تبارك وتعالى لا يشبه شيئا ولا يشبهه شيء وكل ما وقع في الوهم فهو بخلافه)([13]).
وعنه عليه السلام : (لا يليق بالذي هو خالق كل شيء إلا أن يكون مباينا لكل شيء ، متعاليا عن شيء سبحانه وتعالى)([14]).
وعن الإمام الرضا ع: (فكل ما في الخلق لا يوجد في خالقه وكل ما يمكن فيه يمتنع من صانعه)([15]).
والسنخية تثبت الشبه بين الله وخالقه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا الذي ليس كمثله شيء : [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ]([16]).
روي عن عبد الرحيم القصير ، قال : كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد الله عليه السلام بمسائل ، فيها : أخبرني عن الله عز وجل هل يوصف بالصورة وبالتخطيط ؟ فإن رأيت جعلني الله فداك أن تكتب إلي بالمذهب الصحيح من التوحيد فكتب عليه السلام بيدي عبد الملك بن أعين : سألت رحمك الله عن التوحيد وما ذهب إليه من قبلك ، فتعالى الله الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، تعالى الله عما يصفه الواصفون المشبهون الله تبارك وتعالى بخلقه المفترون على الله ، واعلم رحمك الله أن المذهب الصحيح في التوحيد ما نزل به القرآن من صفات الله عز وجل ، فانف عن الله البطلان والتشبيه ، فلا نفي ولا تشبيه ، هو الله الثابت الموجود ، تعالى الله عما يصفه الواصفون ، ولا تعد القرآن فتضل بعد البيان([17]).
وعنه عليه السلام : (الحمد للّه رب العالمين الذي هدانا من الضلال ، وعصمنا عن أن نشبّهه بشيء من خلقه ، وأن نشك في عظمته وقدرته ولطيف صنعه وجبروته ، جل عن الأشباه والأضداد ، وتكبّر عن الشركاء والأنداد)([18]).
عن الإمام الرضا عليه السلام : (للناس في التوحيد ثلاثة مذاهب : نفي ، وتشبيه ، وإثبات بغير تشبيه ، فمذهب النفي لا يجوز ، ومذهب التشبيه لا يجوز لأن الله تبارك وتعالى لا يشبهه شيء ، والسبيل في الطريقة الثالثة إثبات بلا تشبيه)([19]).
وعن الإمام الحسن العسكري عليه السلام : (جل ثناؤه وتقدست أسماؤه أن يكون له شبه ، هو لا غيره ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)([20]).
والأحاديث في نفي الشبه والتشبيه كثيرة جدا لست بصدد إحصائها أجمع.
وعلى ما يبدو أن ملا صدرا انطلق من مبدأ السنخية في إثبات الجسم ــ الذي نعته بالإلهي ــ لله جل وتقدس عن ذلك علوا كبيرا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الحكمة المتعالية،ج3،ص236.
[2] ) نهاية الحكمة،ج2،ص230.
[3] ) انظر ص93 إلى ص146.
[4] ) تلخيص المحصل،ص237.
[5] ) شرح توحيد الصدوق،ج2،ص66.
[6] ) الرؤية الفلسفية،ص59.نقلا عن التوحيد الفائق في معرفة الخالق للبهبهاني.
[7] ) مواهب الرحمن،ج1،ص200.
[8] ) محاضرات في أصول الفقه،ج43،ص427.تقرير الشيخ الفياض ونسب الشيخ ما عن الفلاسفة لملا صدرا،ج6،ص110ـ116.وقد نقلت كلام الملا في السنخية بعد تعريفها.
[9] ) توحيد الصدوق،ص32.
[10] ) توحيد الصدوق،ص41 .
[11] ) توحيد الصدوق،ص52.
[12] ) توحيد الصدوق،ص76.
[13] ) توحيد الصدوق،ص80.
[14] ) توحيد المفضل،ص١١٩.
[15] ) توحيد الصدوق،ص40.
[16] ) سورة الشورى : 11 .
[17] ) توحيد الصدوق، ص١٠٢.
[18] ) الإهليلجة،ص١٥٤.
[19] ) توحيد الصدوق،ص١٠٧.
[20] ) أصول الكافي،ج1،ص ١٠٣.