خرافات فلسفية (17)
خرافة المقولات العشر
إن المقولات العشر هي أجناس عالية يندرج تحتها جميع الموجودات ما عدا الله عز وجل أي أن كل موجود يندرج تحت إحدى هذه المقولات ؛ يقول السيد الطباطبائي عند تعريف المقولات العشر : (أجناسا عالية ليس فوقها جنس ، وهي المسماة ب (المقولات) . ومن هنا يظهر : أولا : أن المقولات بسائط غير مركبة من جنس وفصل ، وإلا كان هناك جنس أعلى منها ، هذا خلف . وثانيا : أنها متباينة بتمام ذواتها البسيطة ، وإلا كان بينها مشترك ذاتي وهو الجنس ، فكان فوقها جنس ، هذا خلف …. ثم إن جمهور المشائين على أن المقولات عشر ، وهي الجوهر والكم والكيف والوضع والأين والمتى والجدة والإضافة وأن يفعل وأن ينفعل . والمعول فيما ذكروه على الاستقراء ، ولم يقم برهان على أن ليس فوقها مقولة هي أعم من الجميع أو أعم من البعض)([1]).
أما تعريف المقولات فقد تطرق إليه الشيخ جعفر السبحاني قائلا : المقولات العشر المعروف عند الفلاسفة الإسلاميين – تبعاً لأرسطو – أن المقولات لا تتجاوز العشر ، وأن الموجودات الإمكانية لا تخرج عن إطار أحد هذه الأمور الّتي يجب أن تقال في جواب السؤال بما هي([2]). وهذه المقولات هي :
1 . الجوهر : وهو الماهية المحصلة التي إذا وجدت وجدت لا في موضوع .
2 . الكم : وهو ما يقبل القسمة بالذات .
3 . الكيف : وهو هيئة قارّة لا تقبل القسمة والنسبة.
4 . الأين : وهي هيئة حاصلة من كون الشيء في المكان .
5 . المتى : وهي هيئة حاصلة من كون الشيء في الزمان .
6 . الجدَة : وهي هيئة حاصلة من إحاطة شيء بشيء ، كالتَّعَمم والتَّنَعُّل ، والتَّجَلْبُب .
7 . الوضع : وهي هيئة حاصلة للشيء من نسبة أجزاء الشيء بعضها إلى بعض ، والكل إلى الخارج . فالقيام – مثلاً – هيئة في الإنسان بحسب نسبةٍ فيما بين أجزائه وبحسب كون رأسه من فوق ورجله من تحت ، والمجموع إلى الخارج المحيط ، ككونه مستقبلاً أو مستدبراً .
8 . الفعل : وهو هيئة غير قارة ، حاصلة في الشيء المؤثر ، من تأثيره ، ما دام يؤثّر . كتسخين المسخِّن ما دام يُسَخِّن ، وتبريد المبرِّد ما دام يُبرِّد .
9 . الانفعال : وهو هيئة غير قارة ، حاصلة في المتأثر ، ما دام يتأثر ، كتسخُّن المتسخِّن ما دام يَتسَخَّن ، وتَبَرُّد المتبرِّد ما دام يَتَبرَّد .
10 . الإضافة : وهي النسبة المتكررة بين شيئين . وبعبارة أُخرى : هي ماهية معقولة بالقياس إلى ماهية معقولة بالقياس إلى الأولى . فالأُبوة إضافة ، لأنها نسبة معقولة بالقياس إلى النسبة الأُخرى وهي البنوة ، التي هي على خلاف النسبة([3]).
يقول الدكتور إبراهيم مدكور في مقدمته على ما ذكره ابن سينا في المقولات أن ابن سينا ذهب تبعا لأرسطو في أن عدد المقولات عشرة : (لم ينص أرسطو صراحة على عدد مقولاته ، بل عرض لها في مناسبات مختلفة ذاكرا بعضها ومهملا بعضها الآخر ، ولم يصل بها إلى عشر إلا في كتابي (المقولات) و (الجدل) . ولكن تلاميذه وأتباعه اعتبروا هذا الرقم مقدسا ، وذادوا عنه بكل قواهم ، وخاصة ضد الرواقيين الذين وقفوا بالمقولات عند أربع فقط . وابن سينا في إخلاصه لأرسطو يرعى هذه القداسة ويدافع عنها . ولصحة هذا العدد لا بد له أن يثبت أولا أن المقولات غير متداخلة وأن كل واحدة منها قائمة بذاتها ، وثانيا أن ليس ثمة أجناس عالية أخرى وراءها)([4]).
ولكن ابن سينا في طبيعيات الشفاء لم يتشدد في أن عدد المقولات عشرة إذ يقول : (وأما نحن فإنا لا نتشدد كل التشدد في حفظ القانون المشهور من أن الأجناس عشرة)([5]). إلا أنه في منطق الشفاء دافع عن العدد المذكور قائلا : (فيجب أن تتحقق أن الغرض في هذا الكتاب هو أن تعتقد أن أمورا عشرة هي أجناس عالية تحوى الموجودات ، وعليها تقع الألفاظ المفردة اعتقادا موضوعا مسلّما ، وأن تعلم أن واحدا منها جوهر وأن التسعة الباقية أعراض ، من غير أن يبرهن لك أن التسعة أعراض ، بل يجب أن تقبله قبولا )([6]).
ورسائل أخوان الصفاء ذكرت أن عدد المقولات عشرة حيث جاء فيها : (المقولات العشرة التي كل واحد منها جنس الأجناس ، وبيّنا كمية أنواعها وخواصها ، وأن الواحد منها هو الجوهر ، والتسعة الباقية هي الأعراض)([7]).
وقد حصر فلاسفة الإغريق المقولات في عشر مقولات كم ذكر الشيخ جعفر السبحاني : (حصر حكماء الإغريق مراتب الوجود الإمكاني في عشر مقولات عرفت ب (المقولات العشر) وهي : الجوهر بأنواعه الخمسة([8])والأعراض بأجناسها التسعة منها : الأين والوضع والجِدة)([9]).
وشيخ الإشراق جعلها خمس مقولات كما ذكر السيد الطباطبائي : (عن شيخ الإشراق : أن المقولات خمس ، الجوهر والكم والكيف والنسبة والحركة)([10]).
والمير داماد حصر المقولات في اثنين هما الجوهر والعرض : (إن مقولة الجوهر لأنواع الجواهر وأجناسها ، هي الماهية المنعوتية التي حقّها في الأعيان…ومقولة العرض لأنواع الأعراض وأجناسها ، هي الطبيعة الناعتية التي حقها بحسب نفس ماهيتها المرسلة ، من حيث هي هي ، وبحسب خصوصية الشخصية جميعا أن تكون قائمة الذات في موضوع . فالعرض ما في حد نفسه بحيث يكون حقه ، بحسب نفس ماهيته وبحسب خصوص شخصيته جميعا…فإذن ، المقولات الجائزات جنسان أقصيان . وكل حقيقة متأصلة من الماهيات الممكنة تحت أحد ذينك الجنسين الأقصيين لا محالة)([11]).
المقولات العشر ما بين عدم البرهان والمؤاخذات
إن المقولات العشر لم يبرهن على إثباتها بالإضافة إلى وجود عدة مؤاخذات عليها من ضمنها ما تقدم في قول السيد الطباطبائي : (لم يقم برهان على أن ليس فوقها مقولة هي أعم من الجميع أو أعم من البعض). هو إشكال على إمكان فرضها وثبوتها.
والعلامة الحلي لم يرتض فكرة المقولات العشر ويرى الوقوف عليها من أعسر الأمور : (المقولات العشرة هي الأجناس العالية ولا جنس سواها والوقوف على ذلك من أعسر الأمور . وواحدة من هذه العشرة جوهر والتسعة الباقية أعراض وصدق العرض عليها صدق العارض على معروضه لا صدق الجنس على أنواعه لأن معنى العرض هو العروض للشيء وهو نسبة العارض إلى المعروض فهو متأخر والجزء متقدم ولأن كثيرا من المقولات نعلم حقائقها ونشك في عرضيتها فلا يكون العرض جنسا)([12]).
ويرى العلامة الحلي لا دليل على انحصار المقولات في عدد معين سوى الاستقراء غير التام حيث يقول في انحصار المقولات : (لا دليل على ذلك سوى الاستقراء الذي ليس بتام)([13]).
والفخر الرازي اعترض على المقولات وهذا نص ما ذكره : (حاصل ما قيل في المقولات العشر – وهي الجوهر والكم والكيف والمضاف والأين والمتى والوضع والحد وأن يفعل وأن ينفعل – وزعموا : أن هذه العشرة هي الأجناس العالية للمكنات . وهاهنا سؤالات : السؤال الأول : ان القوم قالوا : لا موجود في الممكنات ، إلا وهو داخل تحت هذه الأجناس العشرة . وهو باطل . لأن الموجود اما أن يكون بسيطا أو مركبا . فإن كان بسيطا فأما أن يكون غير داخل تحت هذه المقولات ، أو كان كذلك ، الا أن هذه المقولات لا تكون أجناسا بدلها . إذ لو كانت داخلة تحت هذه المقولات وكانت هذه المقولات أجناسا ، لكانت البسائط داخلة تحت الأجناس . وكل ما كان داخلا تحت الجنس كانت حقيقته مركبة من الجنس والفصل ، وحينئذ يلزم أن يكون البسيط مركبا . هذا خلف . وأما ان كان الموجود مركبا . فالمركب انما يكون مركبا من البسائط . وحينئذ يعود السؤال المذكور . السؤال الثاني : ما الدليل على أن كل واحد من هذه المقولات العشر جنس أجناس ، فإنه لا يمكن اثبات كونها أجناسا ، الا ببيان كون كل واحد منها مفهوما مشتركا بين ما يجعل أنواعا له وثبوتيا ومقولا على ما تحته بالتواطؤ ، وذاتيا . وكمال الذاتي المشترك ، واثبات هذه الخمسة في كل واحد من هذه العشرة كالمعتذر ؟
السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : الأجناس العالية أربعة : الجوهر والكم والكيف والنسبة . وأنا ذكرت في كتاب (الملخص) ما يدل على فساده . فقلت : لو كانت النسبة جنسا لما تحتها ، لكان كل نوع من أنواع النسبة مركبا في ماهيته . لأن كل ما اندرج تحت الجنس ، هو مركب ، وكل مركب فلكل واحد من أجزائه إلى الآخر نسبة . وتلك النسبة ان كانت مركبة عاد الكلام الأول فيه . ولزم التسلسل . وهو محال . وان كانت بسيطة لم تكن داخلة تحت الجنس ، والا لكانت مركبة . وهي داخلة تحت النسبة . ينتج : أن النسبة ليست جنسا لما تحتها)([14]).
وبعد ذلك استرسل الفخر الرازي في مؤاخذاته على المقولات العشر أكتفي بما نقلته تجنبا للإطالة.
والشيخ الفياض في المباحث الأصولية نقل إشكالا للسيد الخوئي على المقولات العشر ثم عقب عليه قائلا : (ذكر قد سره أنه قد برهن في محله أن الجامع الحقيقي بين المقولات التسع العرضية فضلًا عن الجامع كذلك بين جميع المقولات غير متصور)([15])هذا . وما ذكره السيد الأستاذ قدسسره يرجع إلى نقطتين : الأولى : أن الشيء لا يعقل أن يكون جنساً عالياً للجميع من الواجب والممكن والممتنع . الثانية : أنه قد برهن في محله أن المقولات العشر أجناس عاليات ومتباينات بتمام ذاتها وذاتياتها ، ولا يعقل أن تندرج تحت مقولة واحدة ذاتاً وحقيقية . هذا ، وغير خفي أن النقطة الأولى واضحة ولا تقبل الشك ، بداهة أنه لا يعقل أن يكون الشيء بعرضه العريض جنساً عالياً للأشياء جميعاً . وأما النقطة الثانية فقد يناقش فيها بأنه لم يقم برهان في الفلسفة على استحالة وجود جنس أعلى للمقولات العشر لا أنه قام برهان على الاستحالة ، وقد صرح بذلك صاحب الأسفار([16]). وفيه أنا وإن سلمنا عدم قيام برهان على استحالة وجود جنس أعلى للمقولات العشر إلا أن الشيء لا يعقل أن يكون جنساً أعلى لها جامعاً ذاتياً بينجميع الأشياء لأمرين : الأول : أن الشيء يصدق على الواجب والممتنع والممكن بشتى أنواعه وأشكاله ، ومن الواضح استحالة تصوير جامع حقيقي بينها جميعاً ، بداهة أنه لا يعقل أن يكون الواجب تعالى شريكاً مع الممكن والممتنع في الجنس . الثاني : أن الشيء لو كان جنساً أعلى للمقولات العشر لكان كل مقولة مركبة منه ومن فصل يميزه عن المقولات الأخرى ، وحينئذ نقول إن الفصل شيء أو لا ؟ والثاني لا يمكن ، فعلى الأول فإن كانت الشيئية تمام حقيقته لزم اتحاد الجنس والفصل ، وإن كانت جزئه لزم تركبه من جزئين ، وحينئذ فتنقل الكلام إلى جزئه الثاني فهل هو شيء ؟ والجواب : نعم إنه شيء ، وهكذا يذهب إلى مالا نهاية له ، فإذن لا يمكن الوصول إلى ما يميز المقولات بعضها عن بعضها الآخر([17]).
ومما يشهد ويؤيد بطلانها وعدم واقعيتها التفاوت الشديد في عددها ، وعدم برهنة كل صاحب قول على مدعاه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) نهاية الحكمة،ص١١١ .
[2] ) لأنها تقال في جواب السؤال عما هو الشيء.
[3] ) نظرية المعرفة،ص٣٠٠.
[4] ) مقدمة الشفاء،ج1،ص266.
[5] ) الشفاء،ج١،ص٩٧.
[6] ) الشفاء (المنطق)،ج1،ص290.
[7] ) رسائل إخوان الصفاء،ج٢،ص20.
[8] ) فأقسام الجوهر الأولية خمسة، هي : الصورة المادية والهيولي والجسم والنفس والعقل.نهاية الحكمة،ص117.
[9] ) رسائل ومقالات،ج6،ص228.
[10] ) نهاية الحكمة،ص ١١٤.
[11] ) القبسات،ص40.
[12] ) الجوهر النضيد،ص31.
[13] ) نهاية المرام في علم الكلام،ج ٢،ص400.
[14] ) شرح عيون الحكمة،ج1،ص98.
[15] ) أجود التقريرات،ج1،ص102.
[16] ) انظر بحوث في علم الأصول (تقريرات السيد الشاهرودي لبحث السيد محمد باقر)،ج1،ص331.
[17] ) المباحث الأصولية،ج2،ص349.