خرافات فلسفية (19)
خلق الأشياء ما بين أئمة الهدى وخرافة الفلاسفة
إن الله تعالى خلق الأشياء لا من شيء ولا يعني ذلك أن اللا شيء عدم ، خلق الله تعالى منه الأشياء.وبعبارة أخرى : لم يكن العدم هو المادة الممدة والمنشأ للأشياء.
وقد توهم بعض الفلاسفة وغيرهم أن العدم شيء خلق الله تعالى الأشياء منه ولذا اعترضوا وقالوا أن خلق الأشياء من العدم يستلزم التناقض ــ كيف يخرج الشيء من العدم ــ لأنهم حسبوا لا شيء هو عدم موجود هكذا زعموا .
وقد كان منهم أن قالوا بوجود :(الهيولى) التي منها يكون منشأ الموجودات ؛ يقول السيد ابن طاووس : الفلاسفة قالت : إن الهيولي قديمة وأنها أصل العالم وإن الله ليس له في وجود الهيولي قدرة ولا أثر ، لأنهم ذكروا أنها لا أول لوجودها وهي عندهم مشاركة لله في القدم ، وقالوا : إن الله يصور منها الصور ، فليس له إلا التصوير فحسب، وقد بطل قولهم بما ثبت من حدوث العالم وحدوث كل ما سوى الله تعالى ، مع أن كلام الفلاسفة في ذلك ومرادهم مفهوم غير متناقض وإن كان باطلا([1]).
وقد نفى الخواجة الطوسي والعلامة الحلي الهيولى تحت عنوان : (المسألة السابعة:في نفي الهيولى)([2]).
ويقول العلامة المجلسي عند شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام:(لم يخلق الأشياء من أصول أزلية) : من أصول أزلية رد على الفلاسفة القائلين بالعقول والهيولي القديمة([3]).
وقد نسب الشيخ محمد جعفر شريعتمدار (ت:1263هـ) القول بالهيولى إلى أرسطو ومن تابعه([4]).
والفخر الرازي نسب القول بقدم الهيولى لبعض الفلاسفة قائلا : ومنهم من سلم كونه سبحانه وتعالى عالما بحقائق الأشياء ، لكنه يقول الهيولى قديمة ، والبارئ يتصرف في فلك الهيولى القديمة([5]).
ويقول التفتازاني (ت:792هـ) في (شرح المقاصد) : ما يدعيه الفلاسفة من تركب الجسم من الهيولي والصورة ، وكون الهيولي قديمة وكونها غير منكفة عن صورة ما دليل رابع على قدم العالم([6]).
وممن ذهب إلى القول بوجود الهيولى من الفلاسفة الإسلاميين في العصور المتأخرة السيد الطباطبائي في نهاية الحكمة : (العدم نقيض الوجود ومن المستحيل أن يتخلل في مراتب نقيضه . وهذا المعنى ــ أعني دخول الأعدام في مراتب الوجود المحدودة وعدم دخولها المؤدي إلى الصرافة ــ نوع من البساطة والتركيب في الوجود)([7]).
أي يقصد أن الأعدام ليست معدومة تماما وإنما لها وجود بسيط أو قل ضعيف،وهذا الوجود البسيط هو الهيولى والوجود الاستعدادي . والوجود البسيط لا يرفع التناقض بين كون الشيء موجودا ومعدوما في آن واحد ؛ إذ لا واسطة بين الوجود والعدم ، وحتى لو قلنا بوجود الواسطة بينهما لا يمكن نعت الشيء بالعدم وفي حال كونه معدوما يكون موجودا.
يقول الشيخ غلام فياضي شارحا كلام السيد الطباطبائي قوله : ((نوع من البساطة والتركيب في الوجود)) وهو التركب من الوجود والعدم ، ويعبّر عنه بالمحدودية وعدمها . ويستلزم هذا النوع من البساطة والتركيب نوعا آخر من البساطة والتركيب ، وهو التركيب من الماهية والوجود وعدمه ؛ فإن الماهية عندهم حد للوجود ، وعليه فالوجودات المحدودة مركبة من ماهية ووجود ، وأما الوجود الصرف الذي لا حد له فلا ماهية له . ثم لا يخفى عليك : أن كلا التركيبين اعتباريان ، فإن العدم لا شيئية له ، والماهية اعتبارية لا حقيقة لها([8]).
ويؤكد الفياضي في موضع آخر من شرحه لنهاية الحكمة دخول الأعدام في الوجود المحدود وليس صرف الوجود ولا صرف العدم حيث يقول : (قد مر في الفصل الثالث من المرحلة الأولى أن التركيب والبساطة في الوجود بمعنى دخول الأعدام في الوجود المؤدي إلى الحدودية وعدم دخولها المؤدي إلى الصرافة)([9]).
ويتطلب التنبيه إلى أمرين : الأول هو : شيء موجود ووجوده مركب من العدم والوجود وهذا على فرض وجوده ليس محلا للتناقض.
والآخر شيء لم يكن متحقق الوجود ولا العدم فلهذا نقول بتركب أصل تحقق وجوده من الوجود والعدم وهذا هو المسمى بالهيولى لا هي صرف الوجود ولا محض العدم وهي محل الكلام.
وخلق الله تعالى الأشياء من العدم المحض أو العدم بمعنى الوجود الضعيف (الهيولى) مخالف لأئمة الهدى صلوات الله عليهم :
عن أمير المؤمنين عليه السلام : (الحمد لله الذي لا من شيء كان ولا من شيء كوَّن ما قد كان)([10]).
وروي عن الزهراء عليها السلام في الخطبة المعروفة بالفدكية : (ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها ، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته ، وذرأها بمشيته)([11]).
وفي مسائل الشامي للإمام الباقر عليه السلام : قال الشامي : فالشيء خلقه من شيء، أو من لاشيء؟! فقال ع : (خلق الشيء لا من شيء كان قبله ، ولو خلق الشيء من شيء إذن لم يكن له انقطاع أبدا ، ولم يزل الله إذن ، ومعه شيء . ولكن كان الله ولا شيء معه)([12]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام : (والله خالق الأشياء لا من شيء كان)([13]).
وقال الزنديق للإمام الصادق ع : من أي شيء خلق الله الأشياء ؟
قال : لا من شيء .
فقال : كيف يجئ من لا شيء شيء ؟
قال ع : إن الأشياء لا تخلو أما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء ، فإن كان خلقت من شيء كان معه ، فإن ذلك الشيء قديم ، والقديم لا يكون حديثا ولا يفنى ولا يتغير ، ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا ، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتى ؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي أنشئت منه الأشياء حيا ؟! ومن أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميتا ؟! ولا يجوز أن يكون من حي وميت قديمين لم يزالا ، لأن الحي لا يجئ منه ميت وهو لم يزل حيا ، ولا يجوز أيضا أن يكون الميت قديما لم يزل لما هو به من الموت ، لأن الميت لا قدرة له ولا بقاء .
قال : فمن أين قالوا أن الأشياء أزلية ؟
قال : هذه مقالة قوم جحدوا مدبر الأشياء فكذبوا الرسل ، ومقالتهم ، والأنبياء وما أنبأوا عنه ، وسموا كتبهم أساطير ، ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم([14]).
وعن الإمام الرضا عليه السلام : (الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء ، ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته ، لا من شيء فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع)([15]).
وعنه عليه السلام :(الله الخالق اللطيف الجليل خلق وصنع لا من شيء)([16]).
هذا هو التوحيد إن كنت قاصدا إياه.والله أعلم حيث يضع إمامته.
وبعض المتفلسفين حاول التفريق بين : (لا من شيء) وبين (من لا شيء) فقالوا الجملة الأولى تفيد العدم المحض . والجملة الأخرى لا تدل على العدم بقول محض وإنما يوجد فيها مستوى من الوجود عبروا عنه بـ (الوجود الاستعدادي) و (الهيولى) مع أن كلا الجملتين تدلان على العدم المحض.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف.ص358.
[2] ) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد،ص154.
[3] ) بحار الأنوار،ج4،ص296.
[4] ) انظر البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة،ج1،ص281.
[5] ) لوامع البينات،ص206.
[6] ) شرح المقاصد،ج3،ص124.
[7] ) نهاية الحكمة،ص27.
[8] ) شرح نهاية الحكمة،ج1،ص94.
[9] شرح نهاية الحكمة،ج4،ص138.
[10] ) توحيد الصدوق،ص69.
[11] ) الاحتجاج،ج1،ص143.
[12] ) توحيد الصدوق،ص67.
[13] ) أصول الكافي،ج1،ص162.
[14] ) الاحتجاج،ج2،ص78.
[15] ) أصول الكافي،ج1،ص153.
[16] ) أصول الكافي،ج1،ص120.