خرافات فلسفية (22) خرافة قِدَم العالم

خرافات فلسفية (22)

خرافة قِدَم العالم
إن القول بقدم العالم حصل فيه نزاع شديد ما بين المتكلمين والفلاسفة وما بين الفلاسفة أنفسهم لأنه لا حجة لكلا الطرفين من الفلاسفة ــ ضمن دائرة فلسفتهم ــ القائلين بالقدم أو الحدوث يقول المير داماد : (ذكر في التعليم الأول ، في فن طونيقا أن مسألة حدوث العالم وقدمه جدلية الطرفين ، لفقدان الحجة البرهانية في كلا طرفيها ، فلا يصح أن يعنى بهما القدم والحدوث الذاتيان بتة ، ولا أن يتوهم أن حريم النزاع هو الحدوث الزماني)([1]). حيث لم يتفقوا جميعا على القول بقدم العالم وحدث فيما بينهم التراشق والطعن في الفهم والكلام كما قال صاحب الإشراق في أبي البركات (المتطبب المسمى بأبي البركات ، لما أراد أن يقول شيئا في مسألة الزمان ، جعل نصيب هذه المسألة ، من تهوراته الوسوسية ، ما قال إن الزمان هو مقدار الوجود)([2]).
ويقول المير داماد في الطعن على بعض الآراء الفلسفية في القدم الزماني : (فلو قيل : هل الزمان أو الفلك الأقصى أو العقل المفارق مثلا قديم زماني أو حادث زماني ؟ كان هذرا من القول… بل الصحيح أن يقال : هل شيء من ذلك قديم دهري أو حادث دهري ؟)([3]).
ومن الفلاسفة من أبدى عجزه عن القول بحدوث العالم وقدمه كما نقل ملا صدرا : (فمن العقلاء المدققين والفضلاء المناظرين من اعترف بالعجز عن هذا الشأن من إثبات الحدوث للعالم بالبرهان ، قائلا : العمدة في ذلك الحديث المشهور والإجماع من المليين)([4]).
وهي من المعتقدات التي بسببها كفر المتكلمون الفلاسفة المعتقدين بها ولهذا كان من الفلاسفة أن لا يعرب عن مراده بشكل واضح لا سيما في العقود المتأخرة .
تعريف الحدوث والقدم الزماني
يقول السيد الطباطبائي في بداية الحكمة : (الحدوث الزماني وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني كمسبوقية اليوم بالعدم في أمس ، ومسبوقية حوادث اليوم بالعدم في أمس ، ويقابله القدم الزماني ، وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني ، كمطلق الزمان الذي لا يتقدمه زمان ولا زماني ، وإلا ثبت الزمان من حيث انتفى ، هذا خلف . ومن الحدوث الحدوث الذاتي ، وهو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته ،كجميع الموجودات الممكنة التي لها الوجود بعلة خارجة من ذاتها ، وليس لها في ماهيتها وحد ذاتها إلا العدم…ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الذاتي ، وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم في حد ذاته ، وإنما يكون فيما كانت الذات عين حقيقة الوجود الطارد للعدم بذاته ، وهو الوجود الواجبي الذي ماهيته إنيته. ومن الحدوث الحدوث الدهري ، الذي ذكره السيد المحقق الداماد (رحمه الله) وهو مسبوقية وجود مرتبة من مراتب الوجود بعدمه المتقرر في مرتبة هي فوقها في السلسلة الطولية ، وهو عدم غير مجامع ، لكنه غير زماني ، كمسبوقية عالم المادة بعدمه المتقرر في عالم المثال ، ويقابله القدم الدهري ، وهو ظاهر)([5]).
ويقول السيد الطباطبائي في نهاية الحكمة : (الحدوث الزماني كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زماني ، وهو حصول الشيء بعد أن لم يكن ، بعدية لا تجامع القبلية ، ولا يكون العدم زمانيا إلا إذا كان ما يقابله من الوجود زمانيا ، وهو أن يكون وجود الشيء تدريجيا منطبقا على قطعة من الزمان مسبوقة بقطعة ينطبق عليها عدمه . ويقابل الحدوث بهذا المعنى القدم الزماني الذي هو عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زماني ، ولازمه أن يكون الشيء موجودا في كل قطعة مفروضة قبل قطعة من الزمان منطبقا عليها . وهذان المعنيان إنما يصدقان في الأمور الزمانية التي هي مظروفة للزمان منطبقة عليه ، وهي الحركات والمتحركات . وأما نفس الزمان فلا يتصف بالحدوث والقدم الزمانيين ، إذ ليس للزمان زمان آخر حتى ينطبق وجوده عليه فيكون مسبوقا بعدم فيه أو غير مسبوق)([6]).
وذَكَرَ تعريف الحدوث والقدم الذاتيين : (الحدوث الذاتي كون وجود الشيء مسبوقا بالعدم المتقرر في مرتبة ذاته والقدم الذاتي خلافه)([7]).
وملخص ذلك :
1ـ الحدوث الزماني : هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم الزماني كمسبوقية اليوم بالعدم في أمس.
2 ــ القدم الزماني : هو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني كمطلق الزمان الذي لا يتقدمه زمان ولا زماني.
3 ـ الحدوث الذاتي : هو مسبوقية وجود الشيء بالعدم في ذاته كجميع الموجودات الممكنة التي لها الوجود بعلة خارجة من ذاتها .
4 ـ القدم الذاتي : هو عدم مسبوقية الشيء بالعدم في حد ذاته ، وإنما يكون فيما كانت الذات عين حقيقة الوجود الطارد للعدم بذاته.
رأي السيد الطباطبائي في قدم العالم
اختلفت كلمات السيد الطباطائي في عالم المادة من حيث الحدوث الزماني والقدم الزماني ؛ يقول أحد شراح النهاية : إذا لم يكن عالم المادة حادثاً زمانياً ، أفهو قديم زماني ، أم لا يتصف لا بالحدوث ولا بالقدم الزمانيين ؟ اختلفت كلمات المصنف في الإجابة على هذا التساؤل . ففي حين صرّح في مواضع أن القدم والحدوث متقومان بالسبق واللحوق ، وهما لا يتحققان إلا إذا كان هناك مبدأ ينتسب إليه السابق واللاحق ، وذلك المبدأ في السبق الزماني هو الزمان ، فحيث لا زمان للزمان فلا معنى فيه للسبق الزماني ، ويستلزم عدم تحقق الحدوث أو القدم الزمانيين في نفس الزمان ، قال في حواشيه على الأسفار : (غير أن هاهنا نكتة ، وهي أن الحدوث والقدم متقومان في ذاتيهما بمعنى السبق واللحوق ، وإنما يتحقق السبق واللحوق إذا كان هناك مبدأ ثابت يتحقّق القبل والبعد بحسب نسبة القُرب والبعد إليه ، ثم يترتب على ذلك تحقق الحدوث والقِدم .وأما الحدوث والقدم الزمانيان ، فإنما يمكن فيه الحادث الزماني لصحة فرض مبدأ زماني للحادث ، إليه نسبة ومعه ما هو أقرب نسبة إلى ذلك المبدأ ، كجميع الحوادث الزمانية وأجزاء الأزمنة ، وأما القديم الزماني فغير متحقق الوجود البتة ، لاستلزامه فرض الشيء له نسبة إلى مبدأ زماني لا يسبقه إليه شيء غيره ، ولا شيء في الوجود على هذا النعت وهذا ما ذكره أيضاً في الفصل الخامس من المرحلة العاشرة بقوله : (وهذان المعنيان أي تعريفي الحدوث الزماني إنما يصدقان في الأمور الزمانية التي هي مظروفة للزمان منطبقة عليه ، وهي الحركات والمتحركات . وأمّا نفس الزمان فلا يتصف بالحدوث والقدم الزمانيين ، إذ ليس للزمان زمان آخر حتى ينطبق وجوده عليه ، فيكون مسبوقاً بعدم فيه أو غير مسبوق . إلا أنه صرّح في مواضع أُخر بأن الزمان قديم زماني ؛ قال في الفصل الثالث من المرحلة التاسعة من (بداية الحكمة) : (القديم الزماني ، وهو عدم مسبوقية الشيء بالعدم الزماني ، كمطلق الزمان ، الذي لا يتقدمه زمان ولا زماني ، وإلا ثبت الزمان من حيث انتفى) أما الاستدلال على حدوث عالم المادة بالمعنى الثاني([8])فلما تقدم في الفصل الثامن والفصل الحادي عشر من المرحلة التاسعة من أن العالم المادي متحرك بحركة جوهرية بجوهره وما يلحق به من الأعراض ، وأنه وجود واحد سيال متجدد في ذاته ، يسير من النقص إلى الكمال ، ومن القوة إلى الفعل ، وهذا الوجود المادي المتحرك منقسم إلى أجزاء وكل جزء منه فعلية لسابقه من الأجزاء وقوة للاحقه من الأجزاء . والحركة الجوهرية العامة للعالم المادي هي امتداد مبهم ترسم امتداداً معيّناً وهو الزمان ، فكلما فرض قطعة معينة من هذا الزمان الذي هو الامتداد الكمي انقسمت تلك القطعة إلى زمان سابق وزمان لاحق ، وهكذا لو قسمنا القطعة الزمانية السابقة فإنها تنقسم أيضاً إلى زمان سابق ولاحق ، وهكذا يستمر التقسيم من دون أن يقف على حد ، كما تقدم في الحركة فإنها لا تنتهي إلى سكون ، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزمان ، إذ لا فرق بين الحركة والزمان ، إلا في كون الحركة امتداداً مبهماً والزمان امتداد معيّن عارض على الحركة ، نظير الفرق بين الجسم الطبيعي والجسم التعليمي ، فإن الجسم الطبيعي هو الامتداد المُبهم في الأبعاد الثلاثة ، أما الجسم التعليمي فهو الامتداد المعيّن في الأبعاد الثلاثة ، فالجسم التعليمي يرفع الإبهام الذي في الجسم الطبيعي ، وهذه النسبة هي عين النسبة بين الحركة والزمان ، وحيث إن مجموع هذه القطعات والأجزاء هو نفس القطعات والأجزاء ، وإن حكم المجموع حكم الأجزاء ، ينتج أن مجموع عالم المادة حادث زماني بالمعنى الثاني وهو حصول الشيء في الزمان بعدما لم يكن ، بعدية لا تجامع القبلية .
إشكال لزوم قدم الزمان
إن الحدوث الزماني تارة يُقصد به أن العالم مسبوق بالعدم الزماني ، وتارة يُراد به أن العالم مسبوق بالزمان وعلى هذا القول يلزم إشكال قدم الزمان ؛ لأن حدوث العالم صار ضمن سلسلة الزمان ، ولا يلزم على المعنى الأول الذي يرى الزمان من أجزاء العالم فحدوثه (العالم) يعم الزمان . وبعبارة أخرى عندما يقال العالم مسبوق بالعدم داخل فيه العدم الزماني.
وعلى هذا إشكال بعض الفلاسفة على المتكلمين بأن القول بالحدوث الزماني للعالم يلزم منه قدم العالم في غير محله.
إلفات نظر
لا بد أن يلتفت إلى أمرين :
الأول : إن إثبات الجزء الزماني المسبوق بالجزء العدمي لا يثبت الحدوث الزماني للعالم برمته ، يقول الشيخ جعفر السبحاني : (إن صدر المتألهين وتلامذة منهجه حاولوا في المقام أن يثبتوا للعالم حدوثاً زمانياً وراء الحدوث الذاتي ، فمن أراد التبسط فعليه المراجعة إلى كلامهم ولكنهم وإن بذلوا جهوداً كبيرة في تصوير الحدوث الزماني لكنه لا يثبت ما ترومه المتشرعة إذ أقصى ما يثبت بيانهم إن كل جزء من العالم مسبوق بعدم زماني بالنسبة إلى الجزء المتقدم ، وهو ليس موضع بحث ونقاش وإنما البحث في إثبات الحدوث لجملة العالم)([9]).
الآخر : إن إثبات الحدوث الزماني لعالم المادة لا يثبت الحدوث الزماني لعالم المثال والعقل إذ العالم يعم عالم المادة وعالم المثال وعالم العقل يقول أحد شراح النهاية : قوله ( قدس سره ) : (وأما ما صوره المتكلّمون) . إن المتكلّمين ذهبوا إلى أن جميع عالم الإمكان وجميع ما سوى الواجب تعالى ، فهو حادث زماناً ، بخلاف الحكماء والإشراقيين والعرفاء الذين ذهبوا إلى أن المجرد أعم من الواجب والممكن ، وأن المادة لا تساوي عالم الإمكان . قوله (قدس سره) : (بالبناء على استحالة القدم الزماني في الممكن) . هذا بناءً على مبنى المتكلّمين القائلين بانحصار القديم بأي معنى كان بالواجب تعالى ، فكل ما كان قديماً امتنع عدمه كما تقدم .
القائلون بقدم العالم
ذهب مشهور الفلاسفة ومنهم أرسطو والفارابي وابن سينا إلى القول بقدم العالم ؛ يقول الشهرستاني : (مذهب أهل الحق من أهل الملل كلها أن العالم محدث ومخلوق أحدثه الباري تعالى وأبدعه وكان اللّه تعالى ولم يكن معه شيء ووافقتهم على ذلك جماعة من أساطين الحكمة وقدماء الفلاسفة مثل ثاليس وانكساغورس وانكسمانس ، ومن تابعهم من أهل ملطية ، ومثل فيثاغورث وانبدقلس وسقراط وأفلاطون من أثينية ويونان وجماعة من الشعراء والنساك ولهم تفصيل مذهب في كيفية الإبداع واختلاف رأي في المبادئ الأولى شرحناها في كتابنا الموسوم بالملل والنحل ومذهب أرسطاطاليس ومن شايعه مثل برقلس والإسكندر والأفروديسي وثامسطيوس ، ومن نصر مذهبه من المتأخرين مثل أبي نصر الفارابي وأبي علي الحسين بن عبد اللّه بن سينا وغيرهما من فلاسفة الإسلام أن للعالم صانعا مبدعا وهو واجب الوجود بذاته والعالم ممكن الوجود بذاته واجب الوجود بالواجب بذاته غير محدث حدوثا يسبقه عدم بل معنى حدوثه وجوبه به وصدوره عنه واحتياجه إليه فهو دائم الوجود لم يزل ولا يزال ، فالباري تعالى أوجب بذاته عقلا وهو جوهر مجرد قائم بذاته مجرد عن المادة وبتوسط ذلك أوجب عقلا آخر ونفسا وجرما سماويا وبتوسطهما وجدت العناصر والمركبات وليس يجوز أن يصدر عن الواحد إلا واحد ومعنى الصدور عنه وجوبه به ولا يتصور موجب بغير موجب فالعالم سرمدي وحركات الأفلاك سرمدية لا أول لها تنتهي إليه فلا تكون حركة إلا وحركة قبلها فهي لا تتناهى مدة وعدة واتفقوا على استحالة وجود علل ومعلولات لا تتناهى واتفقوا أيضا على استحالة وجود أجسام لا تنتهي بالفعل والضابط لمذهبهم فيما يتناهى وما لا يتناهى أن كل عدد فرضت آحاده موجودة معا وله ترتيب وضعي أو فرضت آحاده متعاقبة في الوجود وله ترتيب طبيعي فإن وجود ما لا نهاية له فيه مستحيل)([10]).
وأيضا العلامة الحلي في حدوث الأجسام نسب القول بقدم العالم أرسطو والفارابي وابن سينا : (إن القسمة العقلية منحصرة في أقسام أربعة: القسم الأول : أن يكون العالم محدث الذات والصفات.وهو مذهب المسلمين وغيرهم من أرباب الملل وبعض قدماء الحكماء . القسم الثاني : أن يكون قديم الذات والصفات ، وهو قول أرسطو وثاوفرسطس وثامسطيوس وبرقلس ومن المتأخرين قول أبي نصر الفارابي والرئيس ، قالوا السماوات قديمة بذواتها وصفاتها المعينة ، إلا الحركات والأوضاع فإنها قديمة بنوعها لا بشخصها . والعناصر الهيولى منها قديمة بشخصها ، والصور الجسمية قديمة بنوعها لا بشخصها ، والصور النوعية قديمة بجنسها لا بنوعها ولا بشخصها . القسم الثالث : أن يكون قديم الذات محدث الصفات وهو قول من تقدم أرسطو بالزمان كتاليس الملطي وانكساغورس وفيثاغورس وسقاط وجميع الثنوية ، كالمانوية والديصانية والمرقونية والماهانية… القسم الرابع : أن يكون العالم قديم الصفات محدث الذات)([11]).
وقال العلامة الحلي في شرح كلام الخواجة الطوسي في التجريد : (ولا قديم سوى الله تعالى) . أقول : قد خالف في هذا جماعة كثيرة ، أما الفلاسفة فظاهر لقولهم بقدم العالم([12]).
ويقول المحقق الدواني (ت:908هـ) أن مشهور الفلاسفة مجمعون على قدم العالم : (قد خالف فيه الفلاسفة أهل الملل الثلاث ، فإن أهلها مجمعون على حدوثه ، بل لم يشذ من الحكم بحدوثه من أهل الملل مطلقا إلا بعض المجوس .وأما الفلاسفة فالمشهور أنهم مجمعون على قدمه على التفصيل الآتي . ونقل عن أفلاطون القول بحدوثه ، وقد أوّله بعضهم بالحدوث الذاتي ، وقد رأيت في بعض كتب الفلسفة بخط قديم قد نسخ قبل هذا التاريخ ، بأربعمائة سنة نقلا عن أرسطاطاليس أنه قال : لم يقل أحد من الفلاسفة بحدوث العالم إلا رجل واحد ، وقال مصنفه : إنه عنى به أفلاطون ، فعلى هذا لا يصح هذا التأويل ، فإن جمهورهم قائلون بالحدوث الذاتى ، ولا يختص القول به بأفلاطون .ونقل عن جالينوس : التردّد في الحدوث والقدم ، وأنه قال في مرضه الذي مات فيه لتلامذته اكتبوا عني إني ما علمت أن العالم قديم أو حادث ، والظاهر أنه أراد به الحدوث الزماني)([13]).
والمعقول من أرسطو وفلاطون القول بقدم العالم في نظر المير داماد : (المعقول من مذهب الأرسطوطاليسيين ، أن البارئ الأول ، جل ذكره إنما يتقدم على بعض أجزاء العالم الأكبر اعني المبدعات ، تقدما بالذات بحسب المرتبة العقلية فقط ، لا تقدما انفكاكيا في الوجود بحسب حاق الواقع البات ، فهي متخلفة عنه سبحانه ، في المرتبة العقلية بحسب حدوثها الذاتي ، لا في متن الأعيان الخارجة عن لحاظ الذهن ، وحاق الواقع الصريح بحسب الحدوث في الدهر ؛ وعلى البعض الآخر ، اعني المكونات ، تقدما ذاتيا بحسب المرتبة العقلية ، لما لها من الحدوث الذاتي في حد جوهر الذات ، من تلقاء نفس الماهية والمعلولية في الوجود بالقياس إلى بارئها القيوم ، وتقدما آخر أيضا انفكاكيا في متن الواقع البات وحاق الأعيان الخارجة ، لما لها من الحدوث الدهري ، من جهة سبق العدم الصريح على وجودها في الدهر ، فهي متخلفة عنه سبحانه في المرتبة العقلية وفي حاق الأعيان الخارجة جميعا . والمستبين من سبيل الافلاطونيين ، أن التقدّمين الذاتي والانفكاكي ، والتخلّفين بحسب المرتبة العقلية وبحسب الواقع البات في ظرف الأعيان ، يعمان القبيلتين جميعا ، فالعالم الأكبر ، بأسره وبجميع أجزائه ، من عالمي الخلق والأمر ، واقليمي الغيب والشهادة ، بالإضافة إلى البارئ الحق سبحانه ، بحسب التأخر بالذات والتأخر التخلفي ، في منزلة هذا الحادث اليومي مثلا ، وأن هذا إلا من جهة الحدوثين الذاتي والدهري ، لكل ما في عوالم الخلق والأمر وأقاليم الغيب والشهادة ، على الإطلاق العمومي والاستيعاب الشمولي فهذا هو السبيل المستبين ، وعليه إجماع السفراء السانّين الشارعين ، من الأنبياء المرسلين والأوصياء المعصومين ، وإطباق أهل الزلفى الذين عوضدوا بالوحي والعصمة في الأولين والآخرين . وبذلك يستتب (كان اللّه ولم يكن معه شيء) وسائر صرائح النصوص في الكتاب الكريم ، والسنة الشريفة ، وأحاديث العترة الطاهرين والروقة القدّيسين . فإذن قد استبان أن حريم النزاع هو الحدوث الدهري ، لا غير . فعندنا ، كل حادث ذاتي ، فهو حادث دهري أيضا . والحدوثان الذاتي والدهري مختلفان في المفهوم ، متلازمان في التحقّق . وأما الحدوث الزماني ، فمختص بمتعلقات الإمكانات الاستعدادية من الهيولانيات . وفيض البارئ الفعال ، جل سلطانه ، في الدهريات ، الابداع والصنع ، وفي الحوادث الزمانية ، الأحداث والتكوين . وهم يقولون : كل حادث دهري ، فهو حادث زماني أيضا ، والحدوثان الدهري والزماني متلازمان في التحقق ، متباينان بالمفهوم . والحدوث الذاتي اعم تحقّقا منهما ، لاستيعابه الممكنات بأسرها . وتأثير الجاعل الفياض الإبداع في الأزليات والصنع في الكيانيات)([14]).
ويقول أيضا : (ارسطوطاليس ، وفريق من شركائه وأصحابه ، كالشيخ اليوناني ، وابرقلس ، وثامسطيوس ، والإسكندر الافروديسي ، وفرفوريوس ، وأترابهم وأضرابهم ، ذاهبون إلى أن بعض العالم الأكبر ، كأشخاص المبدعات وطبائع الأنواع والأجناس على الإطلاق ، قديم الوجود متسرمد الدوام في الأعيان ، والبارئ الأول مبدعها ، وإنما الحادث من العالم الكبير شخصيات المكوّنات الهيولانية المرهونة الذات والوجود بالإمكانات الاستعدادية ، لا غير والبارئ الفعّال صانعها)([15]).
ولكن المير داماد شكك في نسبة قدم العالم لأرسطو حيث يقول : (إن شريكنا في التعليم ــ يقصد الفارابي ــ من حكماء الإسلام قال في كتاب الجمع بين الرأيين : ومن ذلك قدم العالم وحدوثه ، وهل له صانع هو علته الفاعلية أم لا ؟ وما يظن بأرسطوطاليس أنه يرى أن العالم قديم ، وأن افلاطن على خلاف رأيه ، وأنهه كان يرى أن العالم محدث ، وأن له فاعلا ؟ فأقول أن الذي دعا هؤلاء إلى هذا الظن القبيح المستنكر بارسطوطاليس الحكيم ، هو ما قاله في كتاب طونيقا ، أنه قد تؤخذ قضية واحدة بعينها ، يمكن أن يؤتى على كلا طرفيها ، بقياس من مقدمات ذايعة . مثال ذلك : هل العالم قديم أم ليس بقديم ؟ وقد ذهب على هؤلاء المختلقين ، أما أولا ، فإن الذي يؤتى به على سبيل المثال لا يجرى مجرى الاعتقاد ؛ وأيضا ، فإن غرض أرسطوطاليس في كتاب طونيقاليس هو بيان أمر العالم ، لكنه غرضه بيان أمر القياسات المتركبة من المقدمات الذائعة . وكان قد وجد أهل زمانه يتناظرون في أمر العالم ، هل قديم أم محدث ، كما كانوا يتناظرون في اللذة هل خير أم شر . وكانوا يأتون على كلا الطرفين من كل مسألة منهما بقياس ذايعة . وقد بيّن أرسطوطالس ، في ذلك الكتاب وفي غيره من كتبه ، أن المقدّمة المشهورة لا يراعى فيها الصدق والكذب ، لأن المشهور ربما كان كاذبا ، ولا يطرح في الجدل لكذبه ، وربما كان صادقا ، فيستعمل لشهرته في الجدل ولصدقه في البرهان ، فظاهر أنه لا يمكن أن ينسب إليه الاعتقاد بان العالم قديم بهذا المثال الذي أتى به في هذا الكتاب . ومما دعاهم إلى ذلك الظن أيضا ، ما يذكره في كتاب السماء والعالم ، أن الكل ليس له بدء زماني . فيظنون عند ذلك أنه يقول بقدم العالم . وليس الأمر كذلك .إذ قد تقدم فبيّن ، في ذلك الكتاب وفي غيره من الكتب الطبيعية والإلهية ، أن الزمان إنما هو عدد حركة الفلك ، وعنه يحدث ، وما يحدث عن الشيء لا يشمل ذلك الشيء . ومعنى قوله أن العالم ليس له بدء زماني أنه لم يتكوّن أولا أولا بأجزائه كما يتكوّن) وبعد ذلك قال المير داماد أن كلمات أرسطو في قدم العالم متناقضة إذ يقول : (كلمات أرسطوطالس في هذه المسألة متناقضة متضادة ، والعلم بمضمرات القلوب ومكنونات الضمائر عالم الغيب والشهادة)([16]).
أسباب القول بقدم العالم مع أدلته ونقضها
إن القول بقدم العلم له عدة أسباب ، ولك أن تسميها عدة شبهات دعتهم إلى القول بقدم العالم ، وهذه الشبهات مبنية على تساؤلات لم يعوا أجوبتها وغوامض لم يتضح لهم سرها فكان لهم بعد ذلك أن أسسوا على تلك الاستفهات والغوامض متبنيات ومعتقدات ؛ فمن ضمن تلك الأسباب :
1 ـ إن المؤثر التام في العالم أزليا فيقتضي أن يكون العالم أزليا.
يقول العلامة الحلي : (واحتج القائلون بالقدم بوجوه : أقواها : أن كل ما يتوقف عليه الإيجاد إن كان أزليا كان العالم أزليا ، وإلا لكان حدوثه في وقت دون آخر إن توقف على أمر كان ما فرضناه أزليا ليس بأزلي ، وإن كان لا لأمر ترجّح الممكن لا لمرجح ، وإن كان حادثا تسلسل)([17]).
ورده العلام الحلي قائلا : (أن نختار الأول ، قوله : يلزم إيجاد العالم في الأزل ، قلنا : لا نسلم فإن هذا في حق الموجب أما المختار فلا فلأن المختار يخصص أحد الأمرين لا لأمر ، اعتبر بالعطشان والجائع والهارب من السبع)([18]).
ويمكن صياغته بطرقة أخرى كما فعل بعضهم : إن علة تخصيص إيجاد العالم بوقت دون آخر هو إرادته تعالى ، وبعبارة أخرى : إن الله تعالى أراد إيجاد العالم وقت وجوده ، والإرادة فعل الفاعل المختار ولا تتوقف على أي شيء سوى كون الفاعل قادرا مختارا ، فالمخصص والمرجح لحدوث العالم هو مشيته تعالى وإرادته التي تكون فعله وإعمال قدرته وإنفاذ سلطنته التامة . ولا يخفى أن المرجحات أيا كانت بجميع أنحائها وأنواعها ، وإن كانت في نهاية التأكد فهي واقعة في طول القدرة والمالكية . ولا تنفعل القدرة والمالكية بتلك المرجحات ، بل القدرة حاكمة عليها ونافذة في الفعل والترك على حد سواء بحسب التكوين قبل الفعل وبعده أيضا .
2 ـ توهم لزوم انقطاع الفيض والجود عن الله عز وجل .
وجود العالم جود فلو كان حادثا لكان الله تعالى تاركا للجود . وبعبارة أخرى : إنه تعالى فياض وجواد وهو يقتضي قدم العالم وإلا يلزم انقطاع الفيض والجود . قلت فيه أولا : وثبت أن وجود العالم في الأزل أمر محال فلا يحق لأحد أن يقول بأنه تعالى تارك للجود .
ورده العلامة الحلي قائلا : (إن العالم إذا كان مستحيل الوجود في الأزل استحال أن يقال : إنه تعالى تارك للجود)([19]).
وأجيب عن الإشكال أيضا : لو كان مقصود القائل من كونه تعالى فياضا وجوادا ، هو نفي النقص من ذاته وصفاته الكمالية كقدرته وعلمه فذلك أمر مسلم ولا يلزم منه وجوب إيجاد العالم أزلا ، لأن الإيجاد متوقف على إرادة الله تعالى المستندة إليها الأشياء ، وإنه تعالى فاعل مختار إن شاء فعل وإن شاء ترك .
3 ـ استحالة انفكاك العلة عن المعلول أي أنه تعالى علة تامة للمعلولات ولا يتخلف المعلول عن علته التامة .
ونقض عليه أن القول بالحدوث الزماني للعالم يستلزم انفكاك المعلول عن العلة منقوض بالحوادث اليومية التي لا شك في حدوثها ، مع أنها أيضا من جملة العالم فلابد أن تكون قديمة ولا يلتزم بذلك أحد
كما أن استحالة انفكاك الله تعالى عن معلولاته من المعتقدات الباطلة فلا يمكن التفريع عليها ومن ثم القول بقدم العالم.
4 ـ المادة قديمة فالعالم قديم :
ذكر العلامة الحلي من أسباب القول بقدم العالم : (المادة قديمة فالعالم قديم ، بيان الأول : إن كل ممكن على الإطلاق فإمكانه زائد على ذاته إذ هو نسبة لوجوده إليه وهو عرض لأن النسب أعراض فيحتاج إلى المحل ومحله لا يكون هو الحادث لأنه ممكن قبل وجوده ، فمحله هو الهيولى فلو كانت الهيولى حادثة لافتقرت إلى هيولى أخرى وتسلسل ، وبيان الشرطية : إن الهيولى لا يقوم بغير صورة على ما بيناه ومجموع الهيولى والصورة هو الجسم فالجسم قديم)([20]).
ورده : (إن علة تخصيص إيجاد العالم بوقت دون آخر هو ارادته تعالى أو مصلحة العالم)([21]).
ولكل واحد من هذه الأسباب نظرّوا لها بمقدمات أدت بهم إلى استنتاجها وتبنيها .
الحدوث الدهري عند السيد الداماد
إن السيد الطباطبائي في بداية الحكمة أوضح الحدوث الدهري الذي ذهب إليه السيد الداماد : (الحدوث الدهري ، الذي ذكره السيد المحقق الداماد (رحمه الله) وهو مسبوقية وجود مرتبة من مراتب الوجود بعدمه المتقرر في مرتبة هي فوقها في السلسلة الطولية ، وهو عدم غير مجامع ، لكنه غير زماني ، كمسبوقية عالم المادة بعدمه المتقرر في عالم المثال ، ويقابله القدم الدهري ، وهو ظاهر)([22]).
وشرحه بعض شراح النهاية بقوله : (وأما الحدوث الدهري : فقد تقدم أن الوجود حقيقة لها مراتب مختلفة طولا . وكل مرتبة من هذه المراتب هي علة لما تحتها ومعلولة لما فوقها . فإذا كان الأمر كذلك فإن كل مرتبة من هذه المراتب معدومة في رتبة علتها حيث إن علتها هي وجودها في رتبة سابقة على وجود المعلول ، وهذا هو التقدم الرتبي . ولكن هذا العدم عدم غير مجامع لا أنه عدم مجامع).
والسبزواري في شرح منظومته شرح الحدوث الدهري عند السيد الداماد وإليك ملخصه على ما قرره بعضهم : (إن كل موجود فلوجوده وعاء أو ما يجرى مجراه ، فوعاء السيالات كالحركات والمتحرّكات هو الزمان سواء كان بنفسه أو بأطرافه ، وما يجرى مجري الوعاء للمفارقات النورية هو الدهر ، وهو كنفسها بسيط مجرد عن الكمية والاتصال ونحوها ، وما يجري مجرى الوعاء للحق وصفاته وأسمائه هو السرمد ، فمعنى الحدوث الدهري : أن عالم الملك مسبوق بالعدم الدهري ؛ لأنه مسبوق بوجود الملكوت الذي وعاؤه الدهر سبقا دهريا . وإن شئت فقل : إن وجود عالم الملك مسبوق بعدمه الواقعي الفلكي الواقع في عالم الدهر ، بمعنى أنه ليس بموجود بالوجود الدهري ، فهو حينئذ معدوم بذلك الوجود ، بل هو موجود بوجود عالم الملك كما قيل . وهكذا حال الدهر بالنسبة إلى السرمد . والحاصل : أن العالم عنده مسبوق الوجود بالعدم الواقعي الدهري ، لا الزماني الموهوم كما يقول المتكلم ، ولا العدم المجامع الذي في مرتبة الماهية فقط كما ينسب إلى بعض الفلاسفة).
والظاهر من كلام السيد الداماد أنه لا يختلف عن القائلين بقدم العالم إلا في كيفية تصوير معنى القدم وإن ذم القائلين بقدم العالم ولربما كان يقصد القائلين بقدم العالم المادي دون عالم المجردات والمثال.
رأي ملا صدرا في قدم العالم
يقول ملا صدرا : (أهل الملل الثلاث من اليهود والنصارى و المسلمين ، من أن العالم بمعنى ما سوى اللّه وصفاته وأسمائه حادث ؛ أي موجود بعد أن لم يكن ، بعدية حقيقية وتأخرا زمانيا ؛ لا ذاتيا فقط بمعنى المفتقر إلى الغير المتأخر عنه في حد ذاته ، كما هو شأن كل ممكن بحسب حدوثه الذاتي ، وهو لا استحقاقية الوجود والعدم من نفسه . ومنهم وإن كان ممن التزم دين الإسلام لكنه يعتقد قدم العالم ، ويظن أن ما ورد في الشريعة والقرآن واتفق عليه أهل الأديان في باب الحدوث للعالم إنما المراد منه مجرد الحدوث الذّاتي والافتقار إلى الصانع . وذلك القول في الحقيقة تكذيب للأنبياء من حيث لا يدرى . ولا يخلص قائله ولا يأمن من التعذيب العقلي والحرمان الأبدي ؛ لأن الجهل في الأصول الإيمانية إذا كان مشفوعا بالرسوخ ، يوجب العذاب الروحاني في دار المآب ثم تأويل ما ورد في نصوص الكتاب والسنة إنما هو لقصور العقول عن الجمع بين قواعد الملة الحنيفية والحكمة الحقيقية ؛ وإلا فألفاظ الكتاب والسنة غير قاصرة عن إفادة الحقائق وتصوير العلوم والمعارف المتعلّقة بأحوال المبدأ والمعاد حتى يحتاج إلى الصرف عن الظاهر للأقاويل وارتكاب التجوز البعيد والتأويل. وهكذا فعله أبو نصر الفارابي في مقالته التي في الجمع بين الرأيين والتوفيق بين مذهبي الحكيمين – أفلاطن وأرسطاطاليس – ؛ حيث حمل الحدوث الزماني الوارد في كلام أفلاطن حسب ما اشتهر منه ودلت عليه الألفاظ المأثورة منه على الحدوث الذاتي ؛ وهذا من قصوره في البلوغ إلى شأو الأقدمين الأساطين([23]).
ولكن أُورد على ملا صدرا : أن قوله هذا اعتراف وإقرار من اتفاق الآيات والأخبار والمليين على حدوث العالم زمانا أي مسبوقيته بالعدم الصريح . إن ما نسبه ملا صدرا إلى الفلاسفة من التأويل ، وعدم الفهم ، والقصور في الإدراك ، وتكذيب الأنبياء ، ومخالفة الضرورة . . وأمثالها يشمل نفسه قبل أن يشمل غيره ، كيف لا وهو يقول : إن العقول المفارقة خارجة عن الحكم بالحدوث لكونها ملحقة بالصقع الربوبي ، لغلبة أحكام الوجود عليها ، فكأنها موجودة بوجوده تعالى لا بإيجاده وما سوى العقول من النفوس والأجسام وما يعرضها حادثة بالحدوث الطبعي – أي الزماني – فليس حكم الحدوث عنده ساريا بالنسبة إلى جميع أجزاء العالم ، لخروج العقول عنده عن هذا الحكم ، بل فيما يجري فيه الحركة الجوهرية وهو عالم الطبايع والأجسام وما يتعلق بها.
وعلى هذا لم يكن حكم حدوث العالم عند ملا صدرا ساريا إلى جميع أجزاء العالم ، لخروج العقول المفارقة عنده ، وفيما يجري فيه الحركة الجوهرية وهو عالم الطبايع والأجسام وما يتعلق بها عن هذا الحكم .
قال بعضهم في تقرير رأي الملا صدر في قدم العالم : (ما ذهب إليه صاحب الأسفار ومن تبعه من قدم العقول وحدوث الطبائع من جهة الحركة الجوهرية ، لكن هذا الحدوث حدوث فردي وليس بنوعي لئلا يلزم انقطاع الفيض وإمساك الجود ، كما صرح به نفسه والسبزواري في شرح المنظومة ، وعلى هذا القول يتم القياس المعروف : إن العالم متغيّر ، وكل متغير حادث ، ولا يرد عليه حينئذ منع الصغرى في الذوات واختصاصها بالصفات)([24]).
المجردات والهيولى لم يكونا من عالم المادة
إن القائلين بقدم العالم تارة لا يصرحون به حين التعرض له ولكنهم يقولون به من خلال متبنيات أخرى مثل القول بقدم الهيولى والمجردات وعدم تخلف المعلول عن علته ، وقد تجد من يصرح بحدوث العالم إلا أنه يقصد عالم المادة دون غيره ؛ فمن قال بحدوث العالم ليس بالضرورة أنه ينفي قدم المجردات والهيولى ، وإليك ما يثبت أن من معتقدات بعض الفلاسفة القول بقدم الهيولى أما وجود المجردات عن المادة فقد تمت الإشارة إليه عند الكلام عن خرافة المجردات ، ومن معتقداتهم عدم تخلف المعلول عن علته الذي تم بيانه في المعلول الفلسفي.
يشير الشيخ المفيد إلى القائلين بقدم الهيولى : (من دان بالهيولي وقدم الطبيعة أعذر من هؤلاء القوم ، إن كان لهم عذر ! ولا عذر للجميع فيما ارتكبوه من الضلال ، لأنهم يقولون : إن الهيولي هو أصل العالم ، وإنه لم يزل قديما ، وإن الله تعالى محدث له كما يحدث الصائغ من السبيكة خاتما ، والناسج من الغزل ثوبا ، والنجار من الشجرة لوحا فأضافوا إلى الصانع الأعيان ، لصنعه ما أحدث فيها من التغيرات)([25]).
إن الفخر الرازي نسب القول بقدم الهيولى لبعض الفلاسفة قائلا : (ومنهم من سلم كونه سبحانه وتعالى عالما بحقائق الأشياء ، لكنه يقول الهيولى قديمة ، والبارئ يتصرف في فلك الهيولى القديمة)([26]).
يقول السيد ابن طاووس : (الفلاسفة قالت : إن الهيولي قديمة وأنها أصل العالم وإن الله ليس له في وجود الهيولي قدرة ولا أثر ، لأنهم ذكروا أنها لا أول لوجودها وهي عندهم مشاركة لله في القدم ، وقالوا : إن الله يصور منها الصور ، فليس له إلا التصوير فحسب، وقد بطل قولهم بما ثبت من حدوث العالم وحدوث كل ما سوى الله تعالى ، مع أن كلام الفلاسفة في ذلك ومرادهم مفهوم غير متناقض وإن كان باطلا)([27]).
وقد نفى الخواجة الطوسي والعلامة الحلي الهيولى تحت عنوان : (المسألة السابعة:في نفي الهيولى)([28]).
ويقول العلامة الحلي عند تعداد الأقوال في قدم العالم : (القسم الثاني : أن يكون قديم الذات والصفات ، وهو قول أرسطو وثاوفرسطس وثامسطيوس وبرقلس ومن المتأخرين قول أبي نصر الفارابي والرئيس ، قالوا السماوات قديمة بذواتها وصفاتها المعينة إلا الحركات والأوضاع فإنها قديمة بنوعها لا بشخصها . والعناصر الهيولى منها قديمة بشخصها ، والصور الجسمية قديمة بنوعها لا بشخصها ، والصور النوعية قديمة بجنسها لا بنوعها ولا بشخصها)([29]).
والتفتازاني (ت:792هـ) ذكر من معتقدات الفلاسفة قدم الهيولى في (شرح المقاصد) : ما يدعيه الفلاسفة من تركب الجسم من الهيولي والصورة ، وكون الهيولي قديمة وكونها غير منكفة عن صورة ما دليل رابع على قدم العالم([30]).
ويقول العلامة المجلسي : (جمعا من الحكماء الذين لم يؤمنوا بنبي وما تدينوا بدين وجعلوا مدار الأمور على عقولهم الناقصة قالوا : بقدم العالم ، وبالعقول القديمة ، وقدم الأفلاك ، وهيولي العناصر)([31]).
وقال أيضا عند شرح كلام أمير المؤمنين ×:(لم يخلق الأشياء من أصول أزلية) : من أصول أزلية رد على الفلاسفة القائلين بالعقول والهيولي القديمة([32]).
وقد نسب الشيخ محمد جعفر شريعتمدار (ت:1263هـ) القول بالهيولى إلى أرسطو ومن تابعه([33]).
وقد وتقدم ما له صلة في : (إلفات نظر) .
نقد العلماء لقدم العالم
يقول الشيخ المفيد : (قال السائل : اعترض فلسفي فقال : إذا قلتم إن الله وحده لا شيء كان معه ، فالأشياء المحدثة من أي شيء كانت ؟ فقلنا له : مبتدعة لا من شيء . فقال : أحدثهما معا أو في زمان بعد زمان ؟ قال ، فإن قلتم : معا ، أوجدناكم أنها لم تكن معا وأنها حدثت شيئا بعد شيء . وإن قلتم : أحدثها في زمان بعد زمان ، فقد صار معه شريك وهو الزمان . حوادث أن يحدثها في زمان ، ولو فعل لها زمانا لما وجب بذلك قدم الزمان ، إذ الزمان حركات الفلك أو ما يقوم مقامها مما هو بقدرها في التوقيت . فمن أين يجب عند هذا الفيلسوف أن يكون الزمان قديما إذا لم توجد الأشياء ضربة واحدة ، لولا أنه لا يعقل معنى الزمان ؟ والجواب – وبالله التوفيق – : أن الله لم يزل واحدا لا شيء معه ولا ثاني له ، وأنه ابتدأ ما أحدثه في غير زمان . وليس يجب إذا أحدث بعد الأول حوادث أن يحدثها في زمان ، ولو فعل لها زمانا لما وجب بذلك قدم الزمان ، إذ الزمان حركات الفلك أو ما يقوم مقامها مما هو بقدرها في التوقيت . فمن أين يجب عند هذا الفيلسوف أن يكون الزمان قديما إذا لم توجد الأشياء ضربة واحدة ، لولا أنه لا يعقل معنى الزمان)([34]).
واستدل الشريف المرتضى في الدلالة على أنه تعالى واحد لا ثاني له في القدم : (الذي يدل على ذلك أنه لو شاركه مشارك في القدم لوجب أن يكون مثلا له ، ومستحقا لجميع ما يستحقه من الصفات النفسية ، وذلك يقتضي كونه قادرا لذاته ، والاشتراك في كونهما قادرين لذاتهما ، ينقض حكم كون القادر قادرا ؛ لأن حكم كل قادر صحة التمانع بينه وبين غيره من القادرين ، وإذا كانا قادرين للنفس لم يجز أن يتمانعا ؛ لأن أحدهما إذا أراد أن يفعل ضد ما يفعله الآخر ، لم يخل من أن يوجد المراد أو أن يرتفعا أو يوجد أحدهما ، وفي الأول وجود الضدين وفي الثاني وجود ضعفهما وتناهي مقدورهما ، وإخراجهما من أن يكونا قادرين لأنفسهما ، وفي الثالث وجود ضعف الرأي لم يوجد مراده وتناهي مقدوره ، وذلك يقتضي كونه قادرا بقدرة وأنّه جسم محدث فوجب نفي ثان في القدم لفساد ما يؤدي إليه)([35]).
ويقول الشيخ الطوسي في أنه تعالى واحد لا ثاني له في القدم : (لو كان مع الله تعالى قديم ثان لوجب أن يكون مشاركا له في جميع صفاته ، لمشاركته له في القدم التي هي صفة ذاته التي باين بها جميع الموجودات لأن جميع أوصافه – من كونه عالما وقادرا وحيا وموجودا ومريدا وكارها ومدركا – يشاركه غيره من المحدثات قديما ولا يشاركه في القدم ، فبان أنه يكون قديما يخالف المحدثات . والشيء إنما يخالف غيره بصفته الذاتية وبها يتماثل ما تماثله ، كما أن ما شارك السواد في كونه سوادا ويخالف غير السواد من أن السواد يخالف البياض والحموضة وغيرهما أيضا بكونه سوادا ويشارك سوادا آخر بكونه سوادا ، فعلم بذلك أن الاشتراك في صفة الذات يوجب التماثل ، وكان يجب من ذلك مشاركة القديمين في كونهما قادرين عالمين حيين وفي جميع صفاتهما … فإذا ثبت ذلك بطل إثبات قديمين ، وإذا بطل وجود قديمين بطل قول الثنوية القائلين بالنور والظلمة ، وبطل قول المجوس القائلين بالله والشيطان وبطل قول النصارى القائلين بالتثليث([36]).
يقول الخواجة الطوسي : والحق أن الباري تعالى ليس بزماني ، والزمان من مبدعاته ؛ والوهم يقيس ما لا يكون في الزمان على ما في الزمان ، كما مر في المكان ، والعقل كما يأبى عن إطلاق التقدم المكاني على الباري كذلك يأبى عن إطلاق التقدم الزماني عليه ، بل ينبغي أن يقال : إن للباري تعالى تقدّما خارجا عن القسمين ، وإن كان كل الموجودات([37]).
ويقول العلامة المجلسي : (اعلم أن المقصود الأصلي من هذا الباب أعني حدوث العالم لما كان من أعظم الأصول الإسلامية لا سيما الفرقة الناجية الإمامية وكان في قديم الزمان لا ينسب القول بالقدم إلا إلى الدهرية والملاحدة والفلاسفة المنكرين لجميع الأديان ولذا لم يورد الكليني ره وبعض المحدثين لذلك بابا مفردا في كتبهم ، بل أوردوا في باب حدوث العالم أخبار إثبات الصانع تعالى اتكالا على أن بعد الإقرار بالحق جل وعلا ، لا مجال للقول بالقدم ، لاتفاق أرباب الملل عليه وفي قريب من عصرنا لما ولع الناس بمطالعة كتب المتفلسفين ، ورغبوا عن الخوض في الكتاب والسنة وأخبار أئمة الدين ، وصار بعد العهد عن أعصارهم عليهم السلام سببا لهجر آثارهم ، وطمس أنوارهم ، واختلطت الحقائق الشرعية بالمصطلحات الفلسفية صارت هذه المسألة معترك الآراء ومصطدم الأهواء ، فمال كثير من المتسمين بالعلم المنتحلين للدين ، إلى شبهات المضلين ، وروجوها بين المسلمين فضلوا وأضلوا ، وطعنوا على أتباع الشريعة حتى ملوا وقلوا ، حتى أن بعض المعاصرين منهم يمضغون بألسنتهم ، ويسودون الأوراق بأقلامهم أن ليس في الحدوث إلا خبر واحد هو ( كان الله ولم يكن معه شيء ) ثم يؤولونه بما يوافق آراءهم الفاسدة ، فلذا أوردت في هذا الباب أكثر الآيات والأخبار المزيحة للشك والارتياب ، وقفيتها بمقاصد أنيقة ، ومباحث دقيقة ، تأتي بنيان شبههم من قواعدها وتهزم جنود شكوكهم من مراصدها ، تشييدا لقواعد الدين ، وتجنبا من مساخط رب العالمين ، كما روي عن سيد المرسلين صلى الله عليه وآله : إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه ، وإلا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)([38]).
تكفير العلماء لمن قال بقدم العالم
إن الكثير من العلماء على مر العصور قد كفروا المعتقدين بقدم العالم أقتصرُ على نقل ثلة من أقوالهم تجنبا للإطالة :
يقول الشيخ الصدوق : (الدليل على أن الله تعالى عز وجل عالم حي قادر لنفسه لا بعلم وقدرة وحياة هو غيره أنه لو كان عالما بعلم لم يخل علمه من أحد أمرين أما أن يكون قديما أو حادثا ، فإن كان حادثا فهو جل ثناؤه قبل حدوث العلم غير عالم ، وهذا من صفات النقص ، وكل منقوص محدث بما قدمنا ، وإن كان قديما وجب أن يكون غير الله عز وجل قديما وهذا كفر بالإجماع)([39]).
وسأل السيد المهنا العلامة الحلي قائلا : ما يقول سيدنا في من يعتقد التوحيد والعدل والنبوة والإمامة لكنه يقول بقدم العالم ، ما يكون حكمه في الدنيا والآخرة . بين لنا ذلك أدام اللَّه سعدك وأهلك ضدك .
فأجاب العلامة الحلي : من اعتقد قدم العالم فهو كافر بلا خلاف ، لان الفارق بين المسلم والكافر ذلك ، وحكمه في الآخرة حكم باقي الكفار بالإجماع([40]).
يقول القاضي سعيد القمي : (ومن ضروريات المذهب المنسوب إليهم حدوث العالم بمعنى كونه مسبوقا بالعدم الصريح الذي هو غير العدم الذاتي الذي للمكن قبل وجوده وحين وجوده ؛ وأنت بالخيار في توهمك ذلك العدم في زمان موهوم وتسمية به ، فإنه لا طائل في تلك الوهميات ، فإن للوهم سلطانا على كل شيء لكن إياك أن تقول بانتزاعه من ذات الواحد الحق أو بقائه فإنه كفر غير خفي)([41]).
ويقول العلامة المجلسي : (لابد من الاعتقاد بأن كل ما سوى الله تعالى ينتهي وينقطع زمان وجوده في الأزل إلى حد وأمد ، ولكن الله تعالى قديم وليس لوجوده بداية ولا نهاية ، وحدوث العالم بهذا المعنى مما أجمع عليه أهل الأديان كافة ، وهو قول كل طائفة دانت بدين وآمنت برسول ، ودلت على هذا آيات كثيرة وروايات متواترة . ولكن جمعا من الحكماء الذين لم يؤمنوا بنبي وما تدينوا بدين وجعلوا مدار الأمور على عقولهم الناقصة قالوا : بقدم العالم ، وبالعقول القديمة ، وقدم الأفلاك ، وهيولي العناصر وهذا كفر صريح مع أنه مستلزم لتكذيب الأنبياء وإنكار كثير من الآيات القرآنية لقولهم بأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه)([42]).
يقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء : (ما يترتب عليه الكفر بطريق الاستلزام كإنكار بعض الضروريات الإسلامية ، والمتواترات عن سيد البرية ، كالقول بالجبر والتفويض والإرجاء ، والوعد والوعيد ، وقِدَم العالم ، وقِدَم المجردات ، والتجسيم ، والتشبيه بالحقيقة ، والحلول والاتحاد ، ووحدة الوجود أو الموجود أو الاتحاد)([43]).
والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر عند تعداد كتب الضلال قال : (ككتب القدماء من الحكماء القائلين بقدم العالم وعدم المعاد)([44]).
الأحاديث تبطل قدم العالم
إن الأحاديث التي تبطل قدم العالم كثيرة جدا تصل إلى مائتين حديث كما أشار إلى ذلك العلامة المجلسي في كتاب حق اليقين وهذا ما ترجمته : (ليس لله تعالى في القدم شريك ، وكل ما سوى الله تعالى حادث ، وعلى هذا اتفق جميع أرباب الملل ، وإن كان الحكماء أطلقوا الحدوث والقدم على معان أما الذي اتفق عليه أرباب الملل هو أن ما سوى الله تعالى مبتدأ له أول ، وينتهي وينقطع أزمنة وجودها في الأزل إلى حد ، وليس موجود أزلي غيره تعالى ، فإن ذلك مما أطبق عليه المليون ودلت عليه الآيات المتكاثرة والأحاديث المتواترة الصريحة في ذلك . وقد أوردت في كتاب بحار الأنوار ما يقرب من مائتين حديثا في هذا الباب من الخاصة والعامة ، مع ما أقمت من أدلة عقلية وما أجبت به عن شبهات فلسفية . وقد ورد في الأحاديث المعتبرة بأن من اعتقد بقديم غير الله تعالى فهو كافر)([45]).
ومن ضمن تلك الأحاديث ما رواه الشيخ الطبرسي في الاحتجاج : أقبل رسول الله على الدهرية فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدو لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال ؟
فقالوا : لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء حدثا فحكمنا بأنها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال .
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاءا أبد الآبد . فإن قلتم أنكم وجدتم ذلك أنهضتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون والذين يشاهدونكم .
قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الآبد .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما لأنكم لم تشاهدوا حدوثها ، وانقضاؤها أولى من تارك التميز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاءً أبد الآبد ، أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر ؟
فقالوا : نعم .
فقال : أترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟
فقالوا : نعم .
فقال : أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟
فقالوا : لا .
فقال صلى الله عليه وآله فإذا منقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده .
قالوا : كذلك هو .
فقال : قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار لم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرته .
ثم قال صلى الله عليه وآله : أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه ، فإن قلتم إنه غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله ، وإن قلتم متناه فقد كان ولا شيء
منهما .
قالوا نعم .
قال لهم : أقلتم إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه ؟
قالوا : نعم .
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فهذا الذي تشاهدونه من الأشياء بعضها إلى بعض يفتقر لأنه لا قوام للبعض إلا بما يتصل به ، كما نرى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم وكذلك سائر ما نرى.
وقال أيضا : فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون وماذا كانت تكون صفته ؟
قال : فبهتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم ، فوجموا وقالوا : سننظر في أمرنا([46]).
عن أمير المؤمنين عليه السلام : (الحمد لله الواحد الأحد الصمد المتفرد الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء… ولا يتكأده صنع شيء كان ، إنما قال لما شاء : كن فكان ، ابتدع ما خلق بلا مثال سبق ولا تعب ولا نصب وكل صانع شيء فمن شيء صنع والله لا من شيء صنع ما خلق خلق ما كان)([47]).
عن الإمام الباقر عليه السلام : (كان الله عز وجل ولا شيء غيره ولم يزل عالما بما يكون ، فعلمه به قبل كونه كعلمه به بعد كونه)([48]).
عن الإمام الصادق عليه السلام : (الحمد لله الذي كان قبل أن يكون كان لم يوجد لوصفه كان بل كان أزلا كائنا لم يكونه مكون ، جل ثناؤه ، بل كون الأشياء قبل كونها فكانت كما كونها ، علم ما كان وما هو كائن ، كان إذ لم يكن شيء ولم ينطق فيه ناطق فكان إذ لا كان)([49]).
عن الإمام الرضا عليه السلام : (الحمد لله فاطر الأشياء إنشاء ، ومبتدعها ابتداعا بقدرته وحكمته ، لا من شيء فيبطل الاختراع ولا لعلة فلا يصح الابتداع ، خلق ما شاء كيف شاء ، متوحدا بذلك لإظهار حكمته وحقيقة ربوبيته)([50]).
عن الإمام الرضا عليه السلام : (أن الله تبارك وتعالى قديم ، والقدم صفة دلت العاقل على أنه لا شيء قبله ولا شئ معه في ديموميته ، فقد بان لنا بإقرار العامة مع معجزة الصفة لا شيء قبل الله ولا شيء مع الله في بقائه وبطل قول من زعم أنه كان قبله أو كان معه شيء وذلك أنه لو كان معه شيء فبقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنه لم يزل معه : فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه ، ولو كان قبله شيء كان الأول ذلك الشيء لا هذا ، وكان الأول أولى بأن يكون خالقا للأول الثاني)([51]).
وقال عمران الصابئ للإمام الرضا عليه السلام : أخبرني عن الكائن الأول وعما خلق ، قال عليه السلام : سألت فافهم ، أما الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولا يزال كذلك ، ثم خلق خلقا مبتدعا مختلفا بأعراض وحدود مختلفة لا في شيء أقامه ولا في شيء حده ولا على شيء حذاه ولا مثله له…إلى أن قال عمران : يا سيدي ألا تخبرني عن الله عز وجل هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف ؟ قال الرضا عليه السلام : إن الله المبدئ الواحد الكائن الأول لم يزل واحدا لا شيء معه ، فردا لا ثاني معه ، لا معلوما ولا مجهولا ولا محكما ولا متشابها ولا مذكورا ولا منسيا ، ولا شيئا يقع عليه اسم شيء من الأشياء غيره ، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون ، ولا بشيء قام ، ولا إلى شيء يقوم ، ولا إلى شيء استند ، ولا في شيء استكن وذلك كله قبل الخلق إذ لا شئ غيره وما أوقعت عليه من الكل فهي صفات محدثة وترجمة يفهم بها من فهم([52]).
وعن علي بن مهزيار ، قال : كتب أبو جعفر ــ أي الإمام الجواد ــ عليه السلام إلى رجل بخطه وقرأته في دعاء كتب به أن يقول : ( يا ذا الذي كان قبل كل شيء ، ثم خلق كل شيء ، ثم يبقى ويفنى كل شيء ، ويا ذا الذي ليس في السماوات العلى ولا في الأرضين السفلى ولا فوقهن ولا بينهن ولا تحتهن إله يعبد غيره)([53]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) القبسات،ص2.
[2] ) نقل كلام صاحب الإشراق المير داماد في القبسات،ص11. أبو البركات هبة اللّه بن عليّ بن ملكا البغدادي المولود سنة 480 هجريّة والمتوفّى سنة 560 هجريّة ، كان طبيبا سكن بغداد وعرف بفيلسوف العراقيين ، ولقب بأوحد الزمان ، كان يهوديّا فأسلم ، وكان في خدمة المستنجد باللّه العبّاسي ، له كتاب (اختصار التشريح من كلام جالينوس) بالإضافة إلى كتاب المعتبر في الحكمة وغيره ( ريحانة الأدب 7 : 30 ) .
[3] ) القبسات،ص18
[4] ) رسالة في الحدوث،ص9.
[5] ) بداية الحكمة،ص148.المرحلة التاسعة/الفصل الثالث.
[6] ) نهاية الحكمة،ص287.المرحلة العاشرة/الفصل الخامس.
[7] ) نهاية الحكمة،ص288.المرحلة العشرة/الفصل السادس.
[8] ) ذكروا للحدوث الزماني تعريفين : الأول : كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زماني . فإذا كان الشيء معدوماً في زمان قبل زمان وجوده ، ثم صار موجوداً ، سمّي حادثاً زمانياً ، كمسبوقية وجود اليوم بالأمس ومسبوقية… الثاني : حصول الشيء في الزمان بعد ما لم يكن ، بعدية لا تجامع القبلية . ومن الواضح أن هذا التعريف يختلف عن سابقه ، وذلك لأنه يعتبر في التعريف السابق كون العدم السابق زمانياً ، زيادة على اشتراط كون السبق واللحوق المعتبر فيه زمانيين ، وأما في هذا التعريف فلا يعتبر إلا كون السبق واللحوق زمانيين ، أي بحيث لا يجامع فيه السابق اللاحق ، سواء كان العدم السابق زمانياً كما في التعريف الأول ، أو غير زماني ، كما في تقدم قوة الحركة والزمان عليهما ، فإن القوة مبدأ للحركة ، ومبدأ الحركة آني لا زماني ، لما تقدم أن مبدأ الحركة يستحيل أن يكون جزءاً من الحركة .شرح نهاية الحكمة لكمال الحيدري،ج2،ص412.
[9] ) مفاهيم القرآن،ج6،ص93.
[10] ) نهاية الإقدام في علم الكلام،ص9.
[11] ) نهاية المرام في علم الكلام،ج3،ص5.
[12] ) شرح التجريد،ص121.
[13] ) ثلاث رسائل،ص284.
[14] ) القبسات،ص26.
[15] ) القبسات،ص24.
[16] ) القبسات،ص30.
[17] ) مناهج اليقين في أصول الدين،ص96.
[18] ) مناهج اليقين في أصول الدين،ص89.
[19] ) مناهج اليقين في أصول الدين،ص99.
[20] ) مناهج اليقين في أصول الدين،ص97.
[21] ) مناهج اليقين في أصول الدين،ص98.
[22] ) بداية الحكمة،ص148.المرحلة التاسعة/الفصل الثالث.
[23] ) رسالة في الحدوث،ص16.
[24] ) صراط الحق،ج1،ص272.
[25] ) الحكايات،ص61.
[26] ) لوامع البينات،ص206.
[27] ) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف.ص358.
[28] ) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد،ص154.
[29] ) نهاية المرام في علم الكلام،ج3،ص.
[30] ) شرح المقاصد،ج3،ص124.
[31] ) عين الحياة : الأصل الرابع في حدوث العالم .
[32] ) بحار الأنوار،ج4،ص296.
[33] ) انظر البراهين القاطعة في شرح تجريد العقائد الساطعة،ج1،ص281.
[34] ) المسائل العبكرية،ص65.
[35] ) الملخص في أصول الدين،ج2،ص10.
[36] ) الاقتصاد،ص44.
[37] ) تلخيص المحصل المعروف بنقد المحصل،ص252.
[38] ) بحار الأنوار،ج54،ص233.
[39] ) توحيد الصدوق،ص223.
[40] ) أجوبة المسائل المهنائية،ص88.
[41] ) شرح الأربعين،ص487.
[42] ) عين الحياة : الأصل الرابع في حدوث العالم .
[43] ) كشف الغطاء،ج2،ص356.
[44] ) جواهر الكلام،ص22،ص95.
[45] ) حق اليقين،ص15.
[46] ) الاحتجاج،ج1،ص20.
[47] ) أصول الكافي،ج1،ص134.
[48] ) أصول الكافي،ج1،ص107.
[49] ) توحيد الصدوق،ص60.
[50] ) أصول الكافي،ج1،ص105.
[51] ) توحيد الصدوق،ص186.
[52] ) توحيد الصدوق،ص430.
[53] ) توحيد الصدوق،ص47.
Comments (0)
Add Comment