خرافات فلسفية (25)
خرافة اقتباس الفلسفة من الأنبياء عليهم السلام
إن بعض أصحاب الاتجاه الفلسفي غالوا في فلسفتهم حتى قالوا أن فلاسفة اليونان أخذوا الفلسفة من الأنبياء . ولو كانت فلسفتهم مأخوذة من الأنبياء لرأيناها مسطورة في الأحاديث ، كما أن الأبحاث الفلسفية ومطالبها لا تشبه النصوص الدينية وليس فيها شيء منها ، ولا يوجد ما يدل على متابعة الفلاسفة للأنبياء عليهم السلام ، بل الثابت هو أن الفلاسفة من المعارضين للأنبياء ، وفلسفتهم على الضد من الشرائع السماوية ، يقول ابن النديم أن الفلسفة كانت بضد الشرائع النبوية : (كانت الفلسفة ظاهرة في اليونانيين والروم قبل شريعة المسيح عليه السلام . فلما تنصرت الروم منعوا منها ، وأحرقوا بعضها ، وخزنوا البعض . ومنع الناس من الكلام في شيء من الفلسفة إذ كانت بضد الشرائع النبوية)([1]).
والحسن بن محمد القمي النيسابوري(ت:850هـ) أكد أن الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء : (الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال ، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال)([2]).
وابن خلدون يقول الملل والشرائع تقتضي هجران علوم اليونان : (لما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدة باقية في خزائنهم)([3]).
ويقول الشيخ الطبرسي : (في قوله تعالى : [فَرِحُواْ بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ] قيلَ فيه وجوه : والآخرُ : أن المراد علم الفلاسفة كانوا يصغرون علم الأَنبياء إلى علمهم . وعن سقراط أَنّه قيل : ائت موسى عليه السلام وكان في زمانه ، فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا)([4]).
ونظير ذلك ما ذكره الفخر الرازي عند الآية المباركة : (يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة ، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم ، وعن سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له لو هاجرت فقال نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا)([5]).
والزمخشري ذكر في الآية المباركة عدة وجوه من ضمنها : (ومنها أن يريد علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان ، وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم . وعن سقراط أنه سمع بموسى صلوات الله عليه وسلامه ، وقيل له لو هاجرت إليه فقال : نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا)([6]).
وذكر العلامة المجلسي أن الحكماء لم يكونوا يعتقدون بنبوة الأنبياء عليهم السلام : (الحكماء لم يكونوا يعتقدون نبوة الأنبياء ولم يؤمنوا بهم ، وأنهم يزعمون أنهم أصحاب نظر وأصحاب آراء مثلهم ، يخطئون ويصيبون ، ولم يكن علومهم مقتبسة من مشكاة أنوارهم كما زعمه أتباعهم . أنهم كانوا منكرين لأكثر معجزات الأنبياء عليهم السلام فإن أكثرها مما عدوها من المستحيلات . أنهم كانوا في جميع الأعصار معارضين لأرباب الشرائع والديانات كما هم في تلك الأزمنة كذلك)([7]).
بل نقل العلامة المجلسي أن الفلاسفة يعاملون أصحاب الشرائع معاملة المستهزئ : (من أنصف ورجع إلى كلامهم علم أنهم لا يعاملون أصحاب الشرائع إلا كمعاملة المستهزئ بهم ، أو من جعل الأنبياء عليهم السلام كأرباب الحيل والمعميات الذين لا يأتون بشئ يفهمه الناس ، بل يلبسون عليهم في مدة بعثتهم ، أعاذنا الله وسائر المؤمنين عن تسويلاتهم وشبههم ، وسنكتب إن شاء الله في ذلك كتابا مفردا والله الموفق )([8]).
ولعل النبي عيسى عليه السلام كان يقصد الفلاسفة الذين ابتعدوا عن الأنبياء وانشغلوا بأمور لا تنفعهم بقوله عليه السلام : (إن شر الناس لرجل عالم آثر دنياه على علمه فأحبها وطلبها وجهد عليها حتى لو استطاع أن يجعل الناس في حيرة لفعل ، وماذا يغني عن الأعمى سعة نور الشمس وهو لا يبصرها ، كذلك لا يغني عن العالم علمه إذ هو لم يعمل به . ما أكثر ثمار الشجر وليس كلها ينفع ويؤكل . وما أكثر العلماء وليس كلهم ينتفع بما علم . وما أوسع الأرض وليس كلها تسكن . وما أكثر المتكلمين وليس كل كلامهم يصدق ، فاحتفظوا من العلماء الكذبة الذين عليهم ثياب الصوف منكسي رؤوسهم إلى الأرض يزورون به الخطايا يرمقون من تحت حواجبهم كما ترمق الذئاب وقولهم يخالف فعلهم ، وهل يجتني من العوسج العنب ومن الحنظل التين ، وكذلك لا يؤثر قول العالم الكاذب إلا زورا وليس كل من يقول يصدق . بحق أقول لكم : إن الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا وكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع ولا تعمر في قلب المتكبر الجبار)([9]).
وقد يدافع عن فلاطون وأرسطو وغيرهما من الفلاسفة بأنهم لم يعاصروا الأنبياء وجواب ذلك بيّن حيث إن تواريخ عصور الأنبياء والفلاسفة المشهورين غير متفق عليها ولا يمكن تحديدها بتاريخ محدد ودونك الفترة بين النبي موسى وعيسى عليهما السلام لم تحدد بزمان معين وفيها عدة أقوال فما بالك فيما هو أقل شهرة من ذلك.
بل إن الفلاسفة لم يكتفوا بمخالفة الأنبياء عليهم السلام وإنما حرفوا شرائعهم ؛ يقول آقا بزرك الطهراني: بعد اجتياح الجرمن لأرويا توقف سير الفلسفة في الغرب واتجهت نحو الشرق وامتزجت مع الأديان الشرقية وأفكارها ، وأوجدت أديانا أخر كالمانوية وغيرها . وكلما مضت الدهور انشعب العلوم أكثر من ذي قبل([10]).
والمقريزي (ت:845هـ) يصف المأمون بأنه أثر في الإسلام أقبح أثر عندما عرب كتب الفلاسفة إذ يقول : (المأمون عبد الله بن هارون الرشيد قد أثر في الإسلام أقبح أثر وهو أنه عرب كتب الفلسفة حتى كاد بها أهل الزيغ والإلحاد الإسلام وأهله)([11]).
ومما رواه ابن أبي أصيبعة (ت:668هـ) عن الدور الكبير الذي قام به المأمون العباسي في تعريب كتب الفلاسفة : (إن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات وقد استظهر عليه المأمون فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة ببلد الروم فأجاب إلى ذلك بعد امتناع فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج ابن مطر وابن البطريق وسلما صاحب بيت الحكمة وغيرهم فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا فلما حملوه إليه أمرهم بنقله فنقل وقد قيل إن يوحنا بن ماسويه ممن نفذ إلى بلد الروم وأحضر المأمون أيضا حنين ابن إسحاق وكان فتي السن وأمره بنقل ما يقدر عليه من كتب الحكماء اليونانيين إلى العربي وإصلاح ما ينقله غيره فامتثل أمره ومما يحكى عنه أن المأمون كان يعطيه من الذهب زنة ما ينقله من الكتب إلى العربي مثلا بمثل وقال أبو سليمان المنطقي السجتاني أن بني شاكر وهم محمد وأحمد والحسن كانوا يرزقون جماعة من النقلة منهم حنين بن إسحاق وحبيش بن الحسن وثابت بن قرة وغيرهم في الشهر نحو خمسمائة دينار للنقل والملازمة)([12]).
ويقول العلامة المجلسي أن نشر كتب الفلاسفة بين المسلمين من بدع خلفاء الجور : (هذه الجناية على الدين ، وتشهير كتب الفلاسفة بين المسلمين ، من بدع خلفاء الجور المعاندين لائمة الدين ، ليصرفوا الناس عنهم وعن الشرع المبين . ويدل على ذلك ما ذكره الصفدي في شرح لامية العجم : إن المأمون لما هادن بعض ملوك النصارى ــ أظنه صاحب جزيرة قبرس ــ طلب منهم خزانة كتب اليونان ــ وكانت عندهم مجموعة في بيت لا يظهر عليه أحد ــ فجمع الملك خواصه من ذوي الرأي واستشارهم في ذلك فكلهم أشار بعدم تجهيزها إليه إلا مطران واحد فإنه قال : جهزها إليهم ، ما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت الاختلاف بين علمائها .([13]).
ويشير الميرزا القمي (ت:1231هـ) صاحب القوانين إلى أن نشر متبنيات الفلاسفة بدأ من زمن المأمون العباسي ليتخذها سلاحا ضد الإمام الرضا عليه السلام : (حكاية العقول العشرة([14])وطريقة الفلاسفة فإن ذلك بدأ من نحوسة المأمون الملعون حيث أراد أن يثبت عدم أهلية الإمام الرضا عليه السلام للإمامة فجمع من علماء اليهود والنصارى والصابئين والمجوس وغيرهم وحينما غلبهم الإمام عليه السلام طلب المأمون كتب الفلاسفة من سلطان الروم فأرسلها إليه فأمر المأمون بترجمتها إلى العربية ونشروها بين الناس لعل الناس يتراجعون عن الإمام الرضا عليه السلام وبمقتضى مقولة أن الناس على دين ملوكهم مال الناس إلى طلب هذه العلوم وقد مشى السلاطين اللاحقون على درب السابقين ورغب الناس فيها تقربا إلى الحكام حتى آل الأمر إلى أن ظن الحمقى من الطلبة أن العلم منحصر فيها وأصروا على ذلك واستخفوا بقواعد الشرع والدين إلى الحد الذي قد يبلغ عمر أحدهم الستين أو السبعين وهو لا يعرف شيئا من أحكام العبادات . وببركة جهود ثلة من علمائنا في العصور الأخيرة الذين نصحوا ملوك زمانهم وحذروهم من خطر هذه العقائد ، وهن أمر أولئك وأصبحت الأمور على ما يرام والحمد لله . والآن حيث وصلت الدولة والسلطة إلى سلطاننا ــ الذي هو صفوة ملوك الدهر وصاحب العقائد الحقة وناشر الدين والمذهب ــ حاول بعض شياطين الأنس أن يفسدوا عقيدته ويستميلوه إلى طريقتهم الباطلة لكي تفسد عقيدة الناس بمقتضى مقولة الناس على دين ملوكهم)([15]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الفهرست،ص302.
[2] ) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان،ج3،ص42.
[3] ) تاريخ ابن خلدون،ج1،ص480.
[4] ) تفسير جوامع الجمع،3،ص254.
[5] ) تفسير الرازي،ج27،ص91.
[6] ) الكشاف،ج3،ص493.
[7] ) انظر بحار الأنوار،ج ٥٧،ص19٤.
[8] ) بحار الأنوار،ج ٨،ص329.
[9] ) تحف العقول،ص٥٠3.
[10] ) الذريعة،ج8،ص4.
[11] ) النزاع والتخاصم،ص148.
[12] ) عيون الأنباء في طبقات الأطباء،ج1،ص260.
[13] ) بحار الأنوار،ج57،ص197.
[14] ) تقدم الكلام مفصلاً في العقول العشرة .
[15] ) رسالة : (رد بر صوفية ووحدت وجود).