خرافات فلسفية (33) والأخيرة كلمة مهمة في الختام
إن من يأمن الانحراف عند قراءة الكتب الفلسفية لا ضير عليه في مطالعتها ودراسة مما صُنف فيها من باب الاطلاع ومعرفة المغزى والمراد ([1]) ، ولكن الاطلاع عليها شيء والإذعان بثمارها وفوائدها شيء آخر ، بمعنى المطالعة من غير التصديق والانجرار لدعاوى لا أساس لها من الصحة كتوقف إثبات التوحيد ونقض الشبهات عليها ، وكعدها من العلوم الآلية إلى غيرها من الأمور التي تم التطرق إليها خلال ثنايا الكتاب ، وقد تبين أن العقل هو الرائد في هذا المجال . وما ذكره الفلاسفة الإسلاميون في مباحث التوحيد مقتضب من المباحث العقلية في علم الكلام ولم يكن للفلسفة وجودا فيها ، وهذا لا يخفى على كل منصف ذي بصيرة ، وقد تم بيانه بشيء من التفصيل في : (الأدلة الفلسفية على إثبات وجود الخالق).
وغير خافٍ أن الكثير من دارسي الفلسفة ينساق نحو التصديق بأمور اختلقها أصحاب الاتجاه الفلسفي ، وصارت أشبه بالبديهيات عندهم من غير التثبت من صحتها والبحث عن جذورها وأصلها ، ومن ثم يسيرون على خطى أسلافهم فيدعون إلى الاعتقاد بها ، والدفاع عن معتقداتها ، ومساجلة من ينتقدها وهكذا يتوارثونها متأخر عن متقدم .
إن دارس الفلسفة يحتاج إلى شرحين مضافا لكتابه الدراسي أو شرح وتعليق على أقل ما يمكن أن يكون ، هذا إذا كل له اهتمام بالمادة وأراد فهمها بشكل جيد ، فما بالك فيمن لا يقرأ ويراجع إلا في كتاب المادة دون غيره ، وأغلب هذا النوع من الدارسين ليس لديه اهتمام بالمادة ولا تعنيه كثيرا ؛ فما فهمه بها ونعمت وما لم يفهمه فليذهب غير مأسوفٍ عليه . بل يوجد نوع آخر يحضر الدرس بكتاب مستعار ولا يمكنه كتابة الشرح عليه ولا المطالب المهمة حين حضور الدرس ناهيك عن عدم مطالعة الشروح والتعليقات ، ولم أقل هذا على نحو الفرض والحدس وإنما عن واقع لمسناه وشهدنا تفاصيله . وعلى ما يبدو أنهم اكتفوا من حضورهم للدرس بحشر مع الناس عيد ؛ فمن حيث فهم المطالب المقررة دراسيا ومما يعين على الإحاطة بها هو مطالعة الشروح والتعليقات لأنها بمثابة أستاذ آخر يمكن من خلالها اكتمال المطالب ونضوجها في ذهن الطالب ويتدارك بها ما فاته أو فات الأستاذ أثناء الشرح.
ويوجد شيء آخر ضروري جدا لدارسي الفلسفة ومن الخطأ الفادح تركه وهو تتبع جذور المطالب الفلسفية ، ومعرفة المؤاخذات عليها إذ لربما بعدها يكون الطالب أستاذا يدرّس طلبته وهو لا يعرف جذور ما يقول ، ولا هوة الفظائع فيها ومضاف لذلك ينعتها بالإسلامية ، فلا هو يدري ولا طلابه يدرون ومن ينتقدهم على شيء ما ينذهلون ومن ثم لا يتوانون برد قوله لغرابة ما لم يألفوه ويطالعوه من ذي قبل . وما لم يهتم الطالب بالمادة شرحا وتحقيقا ومعرفة الثغرات فيها يكون مجرد مردد لِما يسمع وكأنه لا صلة له بالموضوع . ثم يخرج علينا هذا المردد لِما سمع من غير تقصٍ وتتبع يتهجم على من ينتقد الفلسفة أو ينتقد مطالبها فلا هو تعلم ولا هو احتفظ بما لديه معزيا به نفسه.
ودراسة الفلسفة لا تجعل الطالب مطلعا على التصوف إذ يتطلب مطالعة وتتبع خاص لأن المواد المعروفة بالتدريس ــ في الحوزة ــ لوحدها لا تجعل الطالب على بينة من أمر التصوف نظير الاطلاع على الفرق الإسلامية تحتاج مطالعة كتب الملل والنحل وكتب السير والتواريخ في ما إذا أريد الإحاطة بمعالم وعقائد فرقة معينة.
وعلى هذا يكون من الخطأ الفظيع تصور طالب الفلسفة أنه بدراسته هذه يكون ذا خبرة ومعرفة بأمر التصوف .
وأرجو أن يتقبلوا ما أقول بتفهم وسعة صدر ، وخير مثال على ما أقول الغالبية الساحقة فيهم لا يعرف هل أن التصوف والعرفان شيء واحد أم ثمة مغايرة بين الاثنين ؟! ولا يعرف حتى رموز التصوف في الواقع الشيعي ممن قضى عمره بتدريس التصوف فتجده يسميه عارفا ولا يقبل نعته بالتصوف !
ولا تعجب كثيرا سوف أزيدك يوجد فيهم من يحارب التصوف ولا يرتضيه منهجا إلا أنه لعدم معرفته به يقف بوجه من يتعرض لأفكاره وانتقاد رموزه.
ومن الجدير بالتنبيه إليه هو أن طالب العلوم الدينية إذا اقتصر في عمله على الفلسفة دراسة وتدريسا يخرج من وظيفته والعنوان المتلبس به ؛ لأن الفلسفة لم تكن من العلوم الدينية([2]) وقد أخرج العلماء في الكتب الفقهية عند باب : (الوقف) أصحابها من علماء الشريعة ولم يعدوهم ضمن الصنف المذكور ، وتقدم ذكر كلماتهم عند الكلام أن الفلسفة ليست العلوم الشرعية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) كما صرح بذلك جملة من الأعلام من ضمنهم السيد الخوئي ــ ووافقه الشيخ جواد التبريزي ــ : (لم يتضح لنا توقف ما ذكر على دراسة الفلسفة وقد تعرضوا للمقدار اللازم منها في طي أصول الدين والفقه ، وإذا خاف من الضلال إثر دراستها حرم وإلا فلا مانع منه في حد نفسه ، والله العالم).صراط النجاة،ج1،ص459.
وسُئل السيد محمد صادق الروحاني : ما هي حدود دراسة الفلسفة بالنسبة لطالب العلوم الدينية الحوزوية ؟
فأجاب : للطلاب المبتدئين لا يجوز وللواصلين المراتب الراقية القادرين على الجرح والتعديل يجوز.الموقع الرسمي.
وفي استفتاء آخر سُئل عن الفلسفة والعرفان فأجاب : لا قيمة يُعتد بها للمعارف الفلسفية والعرفانية الاصطلاحية بل لا تخلو بعض أبحاث هذين العلمين عن الضلال والانحراف وإنما القيمة فقط للمعارف الإلهية الوحيانية . الموقع الرسمي
[2] ) عدم كونها من العلوم الدينية أمر واضح ولا يحتاج بيان واستشهاد ولكن لا يمنع من نقل كلام الشيخ المظفر بهذا الصدد : يقول الشيخ : الفلسفة ليس فيها طابع ديني ولا تسلك مسلكا معينا أو تتبع دينا بخصوصه بل تبحث عن الحقائق على ما هي عليه وهذا التجرد قد يحمل الفيلسوف على تبني رأي مخالف للشريعة الإسلامية أو لظاهر الشريعة الإسلامية مما يوجب الخروج عن الدين في واقع الأمر أو في نظر المسلمين والفيلسوف لا يبالي أن ينقض البرهان الذي أقامه دينا أو مذهبا. الفلسفة الإسلامية،ص76.
وقال أيضا متحدثا عن الفلسفة : لا نأخذ منها عقيدتنا والفلسفة أبعد ما تكون عن العقيدة الصافية الخالصة الصحيحة ولا يجب أن نعتقد بالله عن طريقة الفلاسفة لأن الله لم يكلفنا بذلك. الفلسفة الإسلامية،ص80.
وقد يُقال : نحن نسلم بعدم كونها من العلوم الدينية إلا أنها توظف للدين وخدمة العلوم الدينية.
والجواب : إننا إذا ما تأملنا الواقع بعين فاحصة لم نر لها توظيفا في مجال خدمة الدين والعلوم الدينية على نحو الخصوص فلا أثر يذكر فيها لأي
صالة الوجود والماهية ، وقاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، والشيء ما لم يجب لم يوجد ، والوجود زائد على الماهية ، وتقسيمات الوجود للذهني والخارجي ، والمعدوم المطلق لا يخبر عنه وغيرها من الأبحاث الفلسفية.