النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير(14)
أسباب الغلو
إن من أسباب الغلو وموجباته هو أن الغلاة رؤوا في الأئمة عليهم السلام المناقب والكرامات مستقلة عن الله عز وجل ، ومن الأسباب تصغير عظمة الله عز وجل ، ومنها أن المغالين اتخذوا الغلو ذريعة لتجنب إقامة الفرائض وترك المحرمات ، ومنها حب الرئاسة وتزعم الغلاة ، ومن الأسباب أيضا وضع الأحاديث في الغلو ومساهمة حكام الجور في دعم للغلاة وإليك ذلك بشيء من التفصيل:
1 ـ المناقب والكرامات :
إن ثبوت المعجزات للأنبياء والأئمة عليهم السلام من القطعيات ولا مجال للتشكيك فيها أو التردد في تحققها إذ يدل عليها الشرع ولا يمنع منها العقل فقد روي عن علي بن أبي حمزة ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام لأي علة أعطى الله عز وجل أنبيائه ورسله وأعطاكم المعجزة ؟ فقال : ليكون دليلا على صدق من أتى به والمعجزة علامة لله لا يعطيها إلا أنبيائه ورسله وحججه ليعرف به صدق الصادق من كذب الكاذب([1]).
والأخبار التي تدل على ثبوت الكرامات والمعجزات كثيرة تجدا لم يحط بها مصدر ولا كتاب ولكن يمكن مراجعة كتاب الحر العاملي رحمه الله في هذا الشأن :(إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات) أو مثل : (مدينة المعاجز) للسيد هاشم البحراني رحمه الله .
ويقول الشيخ المفيد رحمه الله في تحقق المعجزات : (القول في ظهور المعجزات على المنصوبين من الخاصة والسفراء والأبواب : إن ذلك جائز لا يمنع منه عقل ولا سنة ولا كتاب ، وهو مذهب جماعة من مشايخ الإمامية وإليه يذهب ابن الأخشيد من المعتزلة وأصحاب الحديث في الصالحين والأبرار)([2]).
إن الغلو في الأئمة عليهم السلام بنبأ على أن للأئمة مقامات وكرامات عجز الغلاة عن إدراك حقيقتها وساء فهمها ثم حسبوها صفات إلهية لا يمكن أن تكون في البشر . وبسبب ذلك حصل لديهم الاضطراب المعرفي، كما شاهد الذين غالوا في النبي عيسى المعاجز والكرامات فأعظموه ونسبوا له الإلوهية وما ليس له ، بعد ما قصروا عن إدراك أن هذه الصفات والمناقب ليست ذاتية له وإنما إرادة الله تعالى أجرته على يديه فأسندوا ما لله لخلقه.أو أنهم حسبوا أن من تصدر منه هذه المعاجز والخوارق يستحق أن يكون إلها وزعمهم مردود عليهم فلم يكن الواقع طبق مرامه .
روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج أن رجلا قال للإمام الرضا عليه السلام أن عليا لما أظهر من نفسه المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله ، دل على أنه إله : يا بن رسول الله إنهم يزعمون : أن عليا لما أظهر من نفسه المعجزات التي لا يقدر عليها غير الله ، دل على أنه إله ، ولما ظهر لهم بصفات المحدثين العاجزين لبس ذلك عليهم ، وامتحنهم ليعرفوه ، وليكون إيمانهم اختيارا من أنفسهم. فقال الرضا عليه السلام : أول ما هاهنا أنهم لا ينفصلون ممن قلب هذا عليهم فقال : لما ظهر منه (الفقر والفاقة) دل على أن من هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون لا تكون المعجزات فعله ، فعلم بهذا أن الذي أظهره من المعجزات إنما كانت فعل القادر الذي لا يشبه المخلوقين ، لا فعل المحدث المشارك للضعفاء في صفات الضعف([3]).
وكما توهم الجاثليق أن من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص هو رب مستحق للعبادة إذ روى الشيخ الصدوق رحمه الله في التوحيد : قال الرضا عليه السلام : يا نصراني إني أسألك عن مسألة ، قال : سل فإن كل عندي علمها أجبتك ، قال الرضا عليه السلام : ما أنكرت أن عيسى كان يحيى الموتى بإذن الله عز وجل ، قال الجاثليق : أنكرت ذلك من قبل أن من أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فهو رب مستحق لأن يعبد. قال الرضا عليه السلام : فإن اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى مشى على الماء وأحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص فلم يتخذه أمته ربا ولم يعبده أحد من دون الله عز وجل ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه السلام مثل ما صنع عيسى بن مريم عليه السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجل من بعد موتهم بستين سنة([4]).
وقد تقدم كلام الشهرستاني عن بيان بن سمعان الذي غال في أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما رآه يخبر عن المغيبات وظفره في الحروب : (البيانية أتباع بيان بن سمعان التميمي قالوا بانتقال الإمامة من بني هاشم اليه وهو من الغلاة القائلين بإلهية أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قال حل في علي جزء الهي واتحد بجسده فبه كان يعلم الغيب إذ اخبر عن الملاحم وصح الخبر وبه كان يحارب الكفار وله النصرة والظفر وبه قلع باب خيبر)([5]).
والصفدي يقول أن بيان بن سمعان يقول عن أمير المؤمنين عليه السلام : فيه جزء إلهي اتحد بناسوته به كان يعلم الغيب ويظفر بالكفار وبه اقتلع باب خيبر فقد روى الصفدي : رئيس البيانية بيان بن سمعان التميمي النهدي كان من الغلاة في علي وإليه تنسب الطائفة البيانية وغلا في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حتى قال هو إله وحل فيه جزء إلهي اتحد بناسوته به كان يعلم الغيب ويظفر بالكفار وبه اقتلع باب خيبر وأن روح الإله تعالى حلت في علي([6]).
كما غال أقوام الأنبياء بعد ما رؤوا منهم المعاجز والكرامات وغاب عن هؤلاء أن الله تعالى اختص أنبياءه وأوصياءهم بالمعاجز والكرامات فهم عظموا المناقب ونسوا خالقهم ومالكهم الذي وهبهم إياها كما صور هذا المعنى الخبر الذي روي عن الإمام الحسن العسكري عن الإمام الرضا عليهما السلام : (قال الرضا عليه السلام : إن هؤلاء الضلال الكفرة ما أتوا إلا من جهلهم بمقادير أنفسهم ، حتى اشتد إعجابهم بها ، وكثر تعظيمهم لما يكون منها ، فاستبدوا بآرائهم الفاسدة ، واقتصروا على عقولهم المسلوك بها غير السبيل الواجب ، حتى استصغروا قدر الله ، واحتقروا أمره ، وتهاونوا بعظيم شأنه . إذ لم يعلموا أنه القادر بنفسه ، الغني بذاته الذي ليست قدرته مستعارة ، ولا غناه مستفادا ، والذي من شاء أفقره ، ومن شاء أغناه ، ومن شاء أعجزه بعد القدرة وأفقره بعد الغنى . فنظروا إلى عبد قد اختصه (الله) بقدرته ليبين بها فضله عنده ، وآثره بكرامته ليوجب بها حجته على خلقه ، وليجعل ما آتاه من ذلك ثوابا على طاعته ، وباعثا على اتباع أمره ، ومؤمنا عباده المكلفين من غلط من نصبه عليهم حجة ، ولهم قدوة فكانوا كطلاب ملك من ملوك الدنيا ، ينتجعون فضله ، ويؤملون نائله ، ويرجون التفيؤ بظله ، والانتعاش بمعروفه ، والانقلاب إلى أهليهم بجزيل عطائه الذي يغنيهم عن كلب الدنيا ، وينقذهم من التعرض لدني المكاسب ، وخسيس المطالب فبينا هم يسألون عن طريق الملك ليترصدوه ، وقد وجهوا الرغبة نحوه ، وتعلقت قلوبهم برؤيته إذ قيل : أنه سيطلع عليكم في جيوشه ومواكبه وخيله ورجله . فإذا رأيتموه فأعطوه من التعظيم حقه ، ومن الإقرار بالمملكة واجبه ، وإياكم أن تسموا باسمه غيره ، أو تعظموا سواه كتعظيمه ، فتكونوا قد بخستم الملك حقه وأزريتم عليه ، واستحققتم بذلك منه عظيم عقوبته . فقالوا : نحن كذلك فاعلون جهدنا وطاقتنا . فما لبثوا أن طلع عليهم بعض عبيد الملك في خيل قد ضمها إليه سيده ، ورجل قد جعلهم في جملته ، وأموال قد حباه بها ، فنظر هؤلاء وهم للملك طالبون ، فاستكثروا ما رأوا بهذا العبد من نعم سيده ، ورفعوه عن أن يكون هو المنعم عليه بما وجدوا معه ، فأقبلوا إليه يحيونه تحية الملك ، ويسمونه باسمه ، ويجحدون أن يكون فوقه ملك أو له مالك . فأقبل عليهم العبد المنعم عليه ، وسائر جنوده ، بالزجر والنهي عن ذلك ، والبراءة مما يسمونه به ، ويخبرونهم بأن الملك هو الذي أنعم بهذا عليه ، واختصه به ، وأن قولكم (بـ) ما تقولون يوجب عليكم سخط الملك وعذابه ، ويفيتكم([7])كلما أملتموه من جهته ، وأقبل هؤلاء القوم يكذبونهم ويردون عليهم قولهم . فما زال كذلك حتى غضب عليهم الملك لما وجد هؤلاء قد سموا به عبده وأزروا عليه في مملكته ، وبخسوه حق تعظيمه ، فحشرهم أجمعين إلى حبسه ، ووكل بهم من يسومهم سوء العذاب . فكذلك هؤلاء وجدوا أمير المؤمنين عليه السلام عبدا أكرمه الله ليبين فضله ، ويقيم حجته فصغر عندهم خالقهم أن يكون جعل عليا له عبدا ، وأكبروا عليا أن يكون الله عز وجل له ربا ، فسموه بغير اسمه ، فنهاهم هو وأتباعه من أهل ملته وشيعته وقالوا لهم : يا هؤلاء إن عليا وولده عباد مكرمون ، مخلوقون مدبرون لا يقدرون إلا على ما أقدرهم الله عليه رب العالمين ، ولا يملكون إلا ما ملكهم (الله) لا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ، ولا قبضا ولا بسطا ولا حركة ولا سكونا إلا ما أقدرهم الله عليه وطوقهم ، وإن ربهم وخالقهم يجل عن صفات المحدثين ، ويتعالى عن نعوت المحدودين . وإن من اتخذهم – أو واحدا منهم – أربابا من دون الله فهو من الكافرين ، وقد ضل سواء السبيل . فأبى القوم إلا جماحا([8])وامتدوا في طغيانهم يعمهون ، فبطلت أمانيهم ، وخابت مطالبهم وبقوا في العذاب الأليم)([9]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) علل الشرائع،ج1،ص122.
[2] ) أوائل المقالات،ص69.
[3] ) الاحتجاج،ج٢،ص ٢٣٣.
[4] ) التوحيد،ص422.الاحتجاج،ج2،ص204.
[5] ) الملل والنحل،ج١،ص١٥2.
[6] ) الوافي بالوفيات،ج10،ص205.
[7] ) قال العلامة المجلسي : يفيتكم على بناء الافعال من الفوت وفى بعض النسخ : (يفوتكم) بمعنى : يوجب . . وأن يفوتكم .
[8] ) جمح الرجل : إذا ركب هواه ، وأسرع إلى الشئ ، فلم يمكن رده .
[9] ) تفسير الإمام الحسن العسكري،ص55.ورواه الشيخ الطبرسي في الاحتجاج،ج2،ص232.