النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير(23) ما بين الغلو والتقصير

 

النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير(23)
ما بين الغلو والتقصير
إن الذي حث عليه أئمة الهدى عليهم السلام هو النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير فلا تجنب الغلو يخرجنا إلى التقصير ولا تجنب التقصير يخرجنا إلى الغلو ؛ فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : (نحن النمرقة الوسطى بها يلحق التالي ، وإليها يرجع الغالي)([1]).
وعن الإمام الباقر عليه السلام : (يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي)([2]).
فينبغي على المؤمن أن يكون على النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير ولا يبادر إلى رد ما لم يكن مخالفا للضروريات الدينية ــ المتمثلة بالمحكمات القطعية للقرآن الكريم والسنة الشريفة ـــ الذي لا يتجاوز فيه الحد بالمخلوق ونسبة له ما للخالق عز وجل ؛ فكما يستوجب عليه الحذر من الغلو لا بد أن يحذر من الوقوع في التقصير والتفريط في معرفة أهل البيت عليهم السلام كي لا يفرط في معرفتهم ولا يحط من قدرهم . ولذا كان يقتضي أن يُجعل الغلو ضمن حدود وموازين لأنه إذا أفرط فيه وخرج من الموازين العلمية يؤدي به إلى الوقوع في التقصير . وقد تقدم تعداد جملة من معاني الغلو التي مما لا مجال في التردد بكونها من الغلو فهذه المعاني مع جعل أهل البيت عليهم السلام دون الألوهية ــ كما روي في الأخبار ــ ضابطة وفاصل ما بين الغلو والتقصير . وبعبارة أخرى : إن معاني الغلو المقطوع بها والتي من ضمنها جعل الأئمة عليهم السلام في مقام الألوهية من الغلو البيّن وما سوى ذلك أي مما لم يكن من معاني الغلو المقطوع بها ، ومما هو دون الألوهية لا يمكن جعله من الغلو ، بل عده من الغلو يكون من الإفراط في تطبيق الغلو والتعدي إلى التقصير والسر في ذلك هو أنه لا يوجد دليل على عده من الغلو إذ بعد أن قام الدليل على غلو المعاني المقطوع بها ، والغلو على جعلهم في مقام الألوهية يكون عد ما سوى ذلك من الغلو مما لا دليل عليه ومما هو خارج عن الموازين العلمية ؛ لأنه ليس من الدين والواقع بشيء وإنما عبارة عن قناعات لا تستند للموازين الشرعية مردودة على صاحبها وهم مؤاخذون عليها إذ تكون من التقصير والتفريط في منزلة أهل البيت عليهم السلام ، وأيضا يكون من رد الأحاديث المتضمنة للمناقب وإنكارها بلا علم ومعرفة ، وأي زلل أجلى من رد الحديث بحسب الانتقاء وميول النفس. وقد ذم القرآن الكريم الذين يكذبون بما لم يحيطوا به علما : [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ]([3]).
وروي عن الإمام الباقر عليه السلام : (لا تكذبوا بحديث أتاكم أحد فإنكم لا تدرون لعله من الحق فتكذبوا الله فوق عرشه)([4]).
وعنه عليه السلام : (إن أحب أصحابي إلي أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا وإن أسوأهم عندي حالا وأمقتهم للذي إذا سمع الحديث ينسب إلينا ويروى عنا فلم يقبله اشمأز منه وجحده وكفر من دان به وهو لا يدري لعل الحديث من عندنا خرج وإلينا أسند ، فيكون بذلك خارجا عن ولايتنا)([5]).
وقد ذمت الأحاديث من ينكر الحديث لضيق صدره وعدم فهمه ؛ روي عن سفيان بن السيط قال قلت لأبي عبد الله عليه السلام جعلت فداك إن الرجل ليأتينا من قبلك فيخبرنا عنك بالعظيم من الأمر فيضيق بذلك صدورنا حتى نكذبه قال فقال أبو عبد الله عليه السلام أليس عنى يحدثكم قال قلت بلى قال فيقول لليل إنه نهار وللنهار إنه ليل قال فقلت له لا قال فقال رده إلينا فإنك إن كذبت فإنما تكذبنا([6]).
وعنه عليه السلام : (ما جاءكم عنا مما يجوز أن يكون في المخلوقين ولم تعلموه ولم تفهموه فلا تجحدوه ردوه إلينا ، وما جاءكم عنا ولا يجوز أن يكون في المخلوقين فاجحدوه ولا تردوه إلينا)([7]).
عن الإمام الباقر عليه السلام : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان ، فما ورد عليكم من حديث آل محمد صلى الله عليه وآله فلانت له قلوبكم وعرفتموه فاقبلوه ، وما اشمأزت منه قلوبكم وأنكرتموه فردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى العالم من آل محمد وإنما الهالك أن يحدث أحدكم بشيء منه لا يحتمله ، فيقول : والله ما كان هذا والله ما كان هذا ، والإنكار هو الكفر)([8]).
عن الإمام الصادق عليه السلام قال : (إن حديثنا صعب مستصعب ، لا يحتمله إلا صدور منيرة أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة)([9]).
إن من الخطأ الفظيع تطبيق الغلو على كل ما لا ينسجم من الفهم والقناعات ورد الحديث بذريعة الغلو ، وكم هم أولئك الذين ردوا الحديث والمناقب بزعم الغلو ؟!
وقد يُقال : توجد أمور يتفق الجميع على أنها من الغلو ووقع الخلاف في أمور ؛ فهذه الأمور المختلف فيها إذا لم يمكن إرجاعها للغلو المتفق عليه بحسب النصوص والضرورات الدينية ليس من الصحيح الجزم بأنها من الغلو وهنا ينفتح بحث آخر بأن ما لم يجزم بكونه من الغلو ليس بالضرورة يكون نفيه من التقصير فقد يكون من التقصير وقد يكون من الغلو.
والجواب عن ذلك : هو أن ما لا يمكن إرجاعه لمعاني الغلو بحسب النصوص الدينية والضرورات الدينية لا يبعد أن يكون نفيه من التقصير إذ من جهة لا دليل على عده من الغلو ، ولأخبار نزهونا عن الربوبية التي تدل على أنه يمكن نسبة إليهم ما لم يكن من صفات الربوبية.
ومضافا إلى ذلك عندما نتحدث عن الغلو نتحدث بحسب الأدلة لا بحسب الواقع فعندما يقصر الدليل على إثبات شيء من الغلو لا يمكن عده منه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) نهج البلاغة،ج4،ص26.النمرقة بضم فسكون فضم ففتح : الوسادة ، وآل البيت أشبه بها للاستناد إليهم في أمور الدين كما يستند إلى الوسادة لراحة الظهر واطمئنان الأعضاء . ووصفها بالوسطى لاتصال سائر النمارق بها ، فكأن الكل يعتمد عليها إما مباشرة أو بواسطة ما بجانبه . وآل البيت على الصراط الوسط العدل ، يلحق بهم من قصر ويرجع إليهم من غلا وتجاوز.شرح نهج البلاغة لمحمد عبده،ج4،ص26.
وقال فخر الدين الطريحي : (نمرق) قوله تعالى : [وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ] هي الوسائد ، واحدتها النمرقة بكسر النون وفتحها . وفي حديث الأئمة عليهم السلام نحن النمرقة الوسطى بنا يلحق التالي وإلينا يرجع الغالي استعار عليه السلام لفظ النمرقة بصفة الوسطى له ولأهل بيته باعتبار كونهم أئمة العدل يستند الخلق إليهم في تدبير معاشهم ومعادهم . ومن حق الإمام العادل أن يلحق به التالي المفرط المقصر في الدين ويرجع إليه الغالي المفرط المتجاوز في طلبه حد العدل كما يستند إلى النمرقة المتوسطة من على جانبيها).مجمع البحرين،ج5،ص242.
[2] ) أصول الكافي،ج2،ص75.
[3] ) سورة يونس : 39.
[4] ) بصائر الدرجات،ص558.
[5] ) أصول الكافي،ج2،ص223.
[6] ) بصائر الدرجات،ص557.
[7] ) إثبات الهداة،ج5،ص390.
[8] ) أصول الكافي،ج1،ص401.
[9] ) أصول الكافي،ج1،ص401.
Comments (0)
Add Comment