النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير(27)
رؤى ليست من الغلو
إن للغلو معاني واضحة لا يشك في عدها من الغلو ــ كما تقدم ــ وفي قبال ذلك توجد رؤى ومناهج لا يتردد في عدها من التقصير وعدم المعرفة ومن ضمنها :
1 ـ منهجية عدم الفهم :
إن عدم فهم الحديث والمناقب التي جاءت فيه لا يعني أن تلك المناقب من الغلو حيث لم يكن المدار في الغلو وعدمه على الفهم ، لأن ميزان الحقائق والواقع لم يكن على ما يتصوره الإنسان وبحسب ما لديه من قابلية وفهم ، ومن ثم يجعل قابليته ميزان الواقع التي يثبت من خلالها الحقائق أو ينفيها .
عن الإمام الصادق عليه السلام : إن الله خص عباده بآيتين من كتابه : أن لا يقولوا حتى يعلموا ولا يردوا ما لم يعلموا وقال عز وجل : [أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ]([1])وقال : [بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ]([2]) ([3]).
فقد أشار الحديث إلى ضابطتين عظيمتين في المعرفة ذكرهما القرآن الكريم :
الأولى : عدم القول والاعتقاد من غير دليل ومعرفة .
الأخرى : عدم رد وتكذيب ما لم يُحط به ويُعلم.
2 ـ قراءة الأئمة قراءة بشرية :
إن بعض القراءات والأفكار ترى الأئمة عليهم السلام عبادا صالحين لا يختلفون عن غيرهم من العباد الصالحين ، ولذا هم ينفون عنهم الإمامة ، وكونهم من الأوصياء والخلفاء لرسول الله صلى الله عليه وآله ، وانطلاقا من هذه القراءة كل حديث ومنقبة تخرجهم عن حيز هذه القراءة يرمونها بالغلو . وهي رؤية غير صحيحة لأنها لم تستند إلى الدليل بل الأدلة الشرعية قائمة علا خلافها فضلا عما يتفرع عليها .
وفي الواقع هؤلاء نظروا إلى مطلع هذه الآية المباركة وغضوا الطرف عن تتمتها : [قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ]([4]). حيث إن رسول الله صلى الله عليه وآله فيه جنبة بشرية ، وأخرى غيبية وحيانية بها يمتاز عن سائر البشر، وعلى قطبها تدور المعاجز والكرامات ، ونفس الأمر في أوصيائه وخلفائه الأئمة عليهم السلام من بعده إذ ما لديهم من معاجز ومناقب يكون على مدار الإمامة والخلافة لرسول الله صلى الله عليه وآله ، فلا يصح قصر النظر على مطلع الآية دون تتمتها ، ولا يمكن معرفة الأنبياء وخلفائهم إلا من خلال الجنتين معا ، الجنبة البشرية والجنة الأخرى جنبة النبوة والخلافة ، وما لهما من ارتباط بعالم الغيب ، ولا يعني هذا أن الأئمة عليهم السلام يوحى إليهم كما يوحى لرسول الله ، وإنما الخلافة والإمامة لهما نحو من الارتباط بعالم الغيب ، ذلك الغيب والمدد الإلهي يميزهم عن سائر البشر ويفيض على أيديهم المناقب والمعاجز.
3 ــ الانطلاق من مبدأ التقريب :
إن محاولة التقريب والتزلف لسائر المذاهب من خلال نفي مناقب أهل البيت عليهم السلام بذريعة الغلو منهجية باطلة في معرفة الغلو ، لأنها لم تنطلق من مبدأ المعرفة والموازين العلمية ، وإنما من خلال مبدأ سياسية واجتماعي لا قيمة له معرفية في تحديد معاني الغلو.
4 ـ ضعف السند لا يعني الغلو :
إن الخبر المتضمن لمناقب أهل البيت عليهم السلام إذا كان ضعيفا لأي سبب من أسباب الضعف سواء لكون مرسلا ، أو عدم وثاقة الرواة لا يعني ذلك تكذيب الخبر وعد مضامينه من الغلو ؛ لأن تعذر الدليل في إثبات صحته لا يعني تكذيبه . وبعبارة مختصرة عدم الإثبات لا يدل على عدم الثبوت واقعاً ، وملخص ذلك ليس من الموازين العلمية رمي مضامين الخبر الضعيف بالغلو . ومن جهة أخرى مضامين الخبر الضعيف يمكن أن تلحظ مجردة عن السند ، ومن ثم يُطبق عليها موازين الغلو والتقصير ؛ فإذا كانت من معاني الغلو مثل عد الأئمة أنبياء ونحوها من معاني الغلو الواضحة نحكم عليها بالغلو وإن كان السند صحيحا ، وإن لم تنطبق عليها معاني فلا يُسوغ ضعف السند رميها بالغلو.
[1] ) سورة الأعراف : 169.
[2] ) سورة يونس : 39.
[3] ) أصول الكافي،ج2،ص43.
[4] ) سورة الكهف:110.