هل ما يفعله بعض العرفاء من إنفاق جميع ما يملكون اتكالا على الله محبذا شرعا؟

 

(11) س : هل ما يفعله بعض العرفاء من إنفاق جميع ما يملكون اتكالا على الله محبذا شرعا؟

ج : إن ما يفعله بعض العرفاء من إنفاق جميع ما يملكون اتكالا على الله أو أنهم يحسبون خلاف ذلك يقتضي المنافاة مع التوحيد هو خلاف ما جاء به القرآن الكريم وحديث أهل البيت عليهم السلام ـــ ومن الطريف أن الكتب التي تتحدث عن العرفاء تنقل ذلك وهي بصدد بيان محاسنهم وصلابة إيمانهم وتوحيدهم مع أن ذلك عين ما كان عليه الصوفية الأوائل الذين كانوا يفعلون ويدعون الناس إلى إنفاق جميع ما لديهم بالرغم من مخالفته لصريح الآيات والروايات ـــ كما بين ذلك الإمام الصادق عليه السلام في كلام طويل مساق بالدليل أثناء حديثه مع الصوفية وبيان ما التبس عليهم في هذا المجال ، فقد روى الشيخ الكليني عن علي بن إبراهيم ، عن هارون بن مسلم ، عن مسعدة بن صدقة قال : دخل سفيان الثوري على أبي عبد الله عليه السلام فرأى عليه ثياب بيض كأنها غرقئ البيض([1]) فقال له : إن هذا اللباس ليس من لباسك ، فقال له : اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على بدعة أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في زمان مقفر جدب فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها ومؤمنوها لا منافقوها ومسلموها لا كفارها فما أنكرت يا ثوري فوالله إنني لمع ما ترى ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته . قال : فأتاه قوم ممن يظهرون الزهد ويدعون الناس أن يكونوا معهم على مثل الذي هم عليه من التقشف ، فقالوا له : إن صاحبنا حصر([2]) عن كلامك ولم تحضره حججه فقال لهم : فهاتوا حججكم ، فقالوا له : إن حججنا من كتاب الله فقال لهم : فأدلوا بها فإنها أحق ما اتبع وعمل به ، فقالوا : يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله : [وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ]([3]). فمدح فعلهم وقال في موضع آخر : [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا]([4]) فنحن نكتفي بهذا فقال رجل من الجلساء : إنا رأيناكم تزهدون في الأطعمة الطيبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تمتعوا أنتم منها ؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام : دعوا عنكم ما لا تنتفعون به أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الأمة ؟ فقالوا له : أو بعضه فأما كله فلا ، فقال لهم : فمن هنا أُتيتم([5]) . وكذلك أحاديث رسول الله([6]) صلى الله عليه وآله فأما ما ذكرتم من إخبار الله عز وجل إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم بحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه وثوابهم منه على الله عز وجل وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم وكان نهى الله تبارك وتعالى رحمة منه للمؤمنين ونظرا لكيلا يضروا بأنفسهم وعيالاتهم منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفاني والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي غيره ضاعوا وهلكوا جوعا فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير أو دراهم يملكها الإنسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الإنسان على والديه ، ثم الثانية على نفسه وعياله ، ثم الثالثة على قرابته الفقراء ، ثم الرابعة على جيرانه الفقراء ، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا وقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري حين أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار : لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنوه مع المسلمين يترك صبية صغارا يتكففون الناس . ثم قال : حدثني أبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال : ابدأ بمن تعول ، الأدنى فالأدنى ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه مفروضا من الله العزيز الحكيم ، قال : [وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا]([7]) أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى قال غير ما أراكم تدعون الناس إليه من الأثرة على أنفسهم وسمى من فعل ما تدعون الناس إليه مسرفا وفي غير آية من كتاب الله يقول : [إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ]([8])  فنهاهم عن الإسراف ونهاهم عن التقتير ولكن أمر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ، ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله : إن أصنافا من أمتي لا يستجاب لهم دعاؤهم : رجل يدعو على والديه ، ورجل يدعو على غريم ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ، ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله عز وجل تخلية سبيلها بيده ، ورجل يقعد في بيته ويقول : رب ارزقني ولا يخرج ولا يطلب الرزق فيقول الله عز وجل له : عبدي ألم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الأرض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمري ولكيلا تكون كلا على أهلك ، فإن شئت رزقتك وإن شئت قترت عليك وأنت غير معذور عندي ، ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يا رب ارزقني فيقول الله عز وجل : ألم أرزقك رزقا واسعا فهلا اقتصدت فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك عن الإسراف ، ورجل يدعو في قطيعة رحم . ثم علم الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده أوقية من  الذهب فكره أن يبيت عنده فتصدق بها فأصبح وليس عنده شيء وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رقيقا فأدب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله بأمره فقال : [وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا]([9]) يقول : إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك فإذا أعطيت جميع ما عندك من المال كنت قد حسرت من المال . فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين وقال أبو بكر عند موته حيث قيل له : أوص فقال : أوصي بالخمس والخمس كثير فإن الله تعالى قد رضي بالخمس فأوصى بالخمس وقد جعل الله عز وجل له الثلث عند موته ولو علم أن الثلث خير له أوصى به ، ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبو ذر رضي الله عنهما فأما سلمان فكان إذا أخذ عطاه رفع منه قوته لسنته حتى يحضر عطاؤه من قابل فقيل له : يا أبا عبد الله أنت في زهدك تصنع هذا وأنت لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا فكان جوابه أن قال : مالكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء ، أما علمتم يا جهلة أن النفس قد تلتاث([10]) على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما يعتمد عليه فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت ، وأما أبو ذر فكانت له نويقات وشويهات يحلبها ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم بقرم([11]) اللحم فيقسمه بينهم ويأخذ هو كنصيب واحد منهم لا يتفضل عليهم ، ومن أزهد من هؤلاء وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا البتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم . واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه عليهم السلام : أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما : ما عجبت من شيء كعجبي من المؤمن أنه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له وإن ملك ما بين مشارق الأرض ومغاربها كان خيرا له وكل ما يصنع الله عز وجل به فهو خير له ، فليت شعري هل يحيق فيكم ما قد شرحت لكم منذ اليوم أم أزيدكم أما علمتم أن الله عز وجل قد فرض على المؤمنين في أول الأمر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوء مقعده من النار ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عز وجل للمؤمنين فنسخ الرجلان العشرة وأخبروني أيضا عن القضاة أجورة هم حيث يقضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال : إني زاهد وإني لا شيء لي فإن قلتم : جورة ظلَّمكم أهل الإسلام وإن قلتم : بل عدول خصمتم أنفسكم وحيث تردون صدقة من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث.

أخبروني لو كان الناس كلهم كالذين تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم فعلى من كان يتصدق بكفارات الأيمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الذهب والفضة والتمر والزبيب وسائر ما وجب فيه الزكاة من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك إذا كان الأمر كما تقولون لا ينبغي لأحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة فبئسما ذهبتم إليه وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل وردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والأمر والنهي . وأخبروني أين أنتم عن سليمان بن داود عليه السلام حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك وكان يقول الحق ويعمل به ، ثم لم نجد الله عز وجل عاب عليه ذلك ولا أحدا من المؤمنين ، وداود النبي عليه السلام قبله في ملكه وشدة سلطانه ثم يوسف النبي عليه السلام حيث قال لملك مصر : [اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ]([12])  فكان من أمره الذي كان أن اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن وكانوا يمتارون([13]) الطعام من عنده لمجاعة أصابتهم وكان يقول الحق ويعمل به ، فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه ، ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه الله وطوى له الأسباب وملكه مشارق الأرض ومغاربها وكان يقول الحق ويعمل به ، ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه ، فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عز وجل للمؤمنين واقتصروا على أمر الله ونهيه ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به وردوا العلم إلى أهله توجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالى وكونوا في طلب علم ناسخ القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه وما أحل الله فيه مما حرم فإنه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل ، ودعوا الجهالة لأهلها فإن أهل الجهل كثير وأهل العلم قليل وقد قال الله عز وجل : [وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ]([14])([15]).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) الغرقئ : قشر البيض الذي تحت القيض . لسان العرب،ج1،ص119.والمراد هو توصيف الثياب البيضاء الرقيقية.

[2] ) الحصر : العي .الصحاح،ج2،ص631.

[3] ) سورة الحشر :9.

[4] ) سورة الإنسان :8.

[5] ) أي دخل عليكم الضلال.

[6] ) أي أيضا فيها ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه وأنتم لا تعرفونها.

[7] ) سورة الفرقان : 67.

[8] ) سورة الأنعام :41.سورة الأعراف :31.

[9] ) سورة الإسراء : 29 .

[10] ) يقول الشيخ الطريحي رحمه الله : (في الحديث أن النفس قد تلتاث على صاحبها إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه.كأن المعنى تضطرب ولم تنبعث مع صاحبها)مجمع البحرين،ج2،ص263.

[11] ) القَرَمُ: شدة شهوة اللحم.العين،ج5،ص159.

[12] ) سورة يوسف : 55.

[13] ) أي يحملون .

[14] ) سورة يوسف : 76.

[15] ) الجزء الخامس من فروع الكافي / كتاب : (المعيشة).

Comments (0)
Add Comment