تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (1)
الجزاء وتجسم الأعمال
إن من المسلَّمات والضروريات الدينية أن الأعمال الحسنة والقبيحة يجازى الإنسان عليها في الآخرة . ولكن وقع الخلاف في كيفية الجزاء على أقوال :
الأول : إن جزاء العمل أمر اعتباري أي أن الله تعالى جعل لكل فعل ثوابا أو عقابا مُعين في الآخرة.
الثاني : علاقة المسببية فيما بين العمل والجزاء حيث يكون جزاء العمل معلولا لذات العمل ، وعلى هذا تكون الأعمال الحسنة والسيئة هي التي توجد الثواب والعقاب في الآخرة . وهنا تكون العلاقة بين العمل والجزاء تكوينية وليست اعتبارية كما في القول الأول ؛ فالصدقة على سبيل المثال هي التي توجد النور أو القصور في الآخرة. وبعبارة أخرى يكون النور والقصور معلولا للصدقة التي هي العلة بحسب المثال.
الثالث : إن لكل عمل حسنا كان أم سيئا نشأة أخروية تكون سببا لنعيم الإنسان في الآخرة ، أو تكون سببا في شقائه في الآخرة . وللتوضيح من خلال المثال : إن عمل الإنسان نفسه ولنفترض الصلاة تكون قصرا في الجنة مثلا ،ونفس فعل ترك الصلاة يتحول إلى واد في جهنم ، لا أنه يكون سببا في إيجاد القصر في الجنة والوادي في جهنم . وهنا أيضا العلاقة بين العمل والجزاء تكون تكوينية كما في القول الثاني . وهذا هو الذي يُسمى بتجسم الأعمال ، وهو نحو من التصوير لكيفية الجزاء ، ولك أن تقول توهم لكيفية الجزاء .
ويجدر التنبه إلي أمرين لكي لا يقع الاشتباه في معنى تجسم الأعمال :
الأمر الأول : إن حضور الأعمال يوم القيامة هو غير موضوع تجسم الأعمال ، الذي يعني أن الجزاء في نفس تجسم الأعمال ولم يكن مستقلا عنه . وبعبارة أوضح المراد من تجسم الأعمال أن جزاء الأعمال سواء الثواب أم العقاب يكون من خلال تجسم ذات العمل في الآخرة ، ولم يكن شيئا ورائه من الثواب والعقاب ، أما حضور نفس الأعمال يوم القيامة مستقلة عن الثواب والعقاب والذي يقر به حتى النافين لتجسم الأعمال هو غير موضوع تجسم الأعمال على نحو الجزاء . وهذا مما يحصل فيه الاشتباه حيث بعضهم يستدل على تجسم الأعمال بحضور الأعمال مع أن لكل واحد منهما بحث وموضوع مستقل عن الآخر . كما أن المتبنين لتجسم الأعمال ، والذين ساقوا النصوص القرآنية والروائية لإثباته لم يقصدوا به حضور الأعمال فحسب ، وإنما يرمون من خلالها إلى تجسد الثواب والعقاب في ذات الأعمال ، وكلماتهم واضحة في ذلك كما سيأتي التعرض لها إن شاء الله تعالى.
الأمر الآخر : إن حضور الأعمال في البرزخ وأحوال يوم القيامة لا يعني ذلك أنها معلولة لعمل الإنسان في الدنيا ، أي تجسد الأعمال في تلك المواقف لم يكن بينها وبين أعمال الإنسان في الدنيا علاقة السبب والمسبب ، بل قد يكون الله عز وجل خلق أعمال الإنسان في تلك المواقف أي كانت معدمة قبلها ، بمعنى أن الله تعالى يخلق بإزاء كل عمل من الأعمال صورة تناسبه ، أو قد يكون بطريقة ما يجعل الله عز وجل الإنسان يشاهد أعماله ويطلع عليها ، وليس ثمة حضور لذات الأعمال وتجسمها.
كيفية تجسم الأعمال في الآخرة
إن القائلين بتجسم الأعمال اختلفوا في كيفية تجسم العمل في الآخرة وصيروته موجبا للنعيم أو العذاب إلى اتجاهين :
الاتجاه الأول : أنه يكون تجسم وصورة للفعل في النفس ، وهذا ما ذهب إليه ملا صدرا ملا صدرا : (المحقق عندنا إن الملكات النفسانية تصير صورا جوهرية وذواتا قائمه فعاله في النفس تنعيما وتعذيبا)([1]).
ويقول أيضا : (يكون حالها ــ أي النفس ــ بحسب فعل الطاعات واقتراف السيئات المؤدية إلى الصور الحسنة والقبيحة يوم الآخرة عند تجسم الأعمال ، فيتنعم أو يتعذب)([2]).
ويأتي نظير كلامه في ذلك تحت عنوان :(الاستدلال بالسقيم على الصحيح).
الاتجاه الثاني : أن يكون صورة ملكوتية باطنية للأعمال الدنيوي في الخارج . ولا فرق في ذلك بين فعل الطاعات والمعاصي.
وعند التعرض لنقل كلمات المتبنين لتجسم الأعمال من الفلاسفة والعرفاء سيتضح ممن يقول بالاتجاه الأول والاتجاه الثاني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الحكمة المتعالية،ج5،ص293.
[2] ) تفسير القرآن الكريم،ج5،ص209.