تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (2)

تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (2)

تعريف تجسم الأعمال

إن تجسم الأعمال تم بيانه على نحو الإيجاز فيما سبق إلا أنه من المناسب جدا التطرق لما جاء في تعريفه عند بعض الأعلام لمزيد من البيان والإيضاح :

الشيخ النراقي :

إن الشيخ محمد مهدي النراقي تطرق لبيان تجسم الأعمال على ما ذكره بعضهم حيث يقول : (من قال إن العمل نفس الجزاء قال إن الهيئات النفسانية اشتدت وصارت ملكة تصير متمثلة ومتصورة في عالم الباطن والملكوت بصورة يناسبها إذ كل شيء يظهر في كل عالم بصورة خاصة ، فإن العلم في عالم اليقظة أمر عرضي يدرك بالعقل أو الوهم وفي عالم النور يظهر بصورة اللبن ، فالظاهر في العالمين شيء واحد وهو العلم لكنه تجلى في كل عالم بصورة ، والسرور يظهر في عالم النوم بصورة البكاء ، ومنه يظهر أنه قد يسرك في عالم ما يسوءك في عالم آخر ، فاللذات الجسمانية التي تسرك في هذا العالم تظهر في دار الجزاء بصورة تسوءك وتؤذيك ، وتركها وتحمل مشاق العبادات والطاعات والصبر على المصائب والبليات يسرك في عالم الآخرة مع كونها مؤذية في هذا العالم)([1]).

الشيخ جعفر السبحاني :

يقول الشيخ جعفر السبحاني في بيانه : (إن المقصود من تجسم الأعمال أو (التمثّل) هو أن الأعمال التي يقوم بها الإنسان في هذا العالم تتجلى وتظهر في العالم الأخروي بصورة وشكل يتناسب مع ذلك العالم . وبعبارة أُخرى : إن الثواب والعقاب ، أو النعم والانتقام ، أو الفرح والسرور ، أو الألم والعذاب ، كلها تمثّل حقيقة الأعمال الدنيوية للإنسان وتتجلى له في الآخرة.

وبعبارة أكثر وضوحاً : إن للعمل الإنساني – سواء أكان حسناً أم سيئاً ، جميلًا أم قبيحاً – ظهورين فما يكتسبه الإنسان من الأعمال الحسنة – كالصوم والصلاة والحج والزكاة ، أو ما يقوم به من أعمال البر – كلها أعمال دنيوية ولا ظهور لها بحسب هذه النشأة سوى ما نشاهده منها . ولكن في نفس الوقت لها ظهور آخر في النشأة الأُخروية يتناسب مع تلك النشأة ، فتظهر بصورة الجنة ونعيمها وحورها وغلمانها ، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأعمال القبيحة والأفعال السيئة . وعلى هذا الأساس الأعمال الحسنة لهذا العالم تتغير في ذلك العالم وتتحول إلى : بساتين وحقول نظرة وحدائق غلبا ، وأولاد مخلدين ، وحور مقصورات في الخيام ، وقصور فارهة ؛ والعكس صحيح ، فإن الأعمال القبيحة تتحول إلى أشياء تناسبها ، كالنار وسلاسل الحديد وأنواع العذاب من الغل والضرب والزقوم والمهل يغلي البطون وغير ذلك . وحينئذٍ يكون جزاء كل إنسان عين أعماله على الحقيقة ولا مجال هنا للمجازية أبداً ، ففي محكمة العدل الإلهي لا يوجد شيء أفضل من أن يرى الإنسان جزاء عمله ، وتعود عليه نفس نتيجة ما اقترفه من عمل ، صالحاً كان أم طالحاً . وهذا ما يطلق عليه اصطلاحاً بتجسم الأعمال)([2]).

 

جذور تجسم الأعمال

 

إن فكرة تجسم الأعمال اشتهرت في القرون الأخيرة في كتب الفلسفة والعرفان إلا أن جذورها في الفلسفات القديمة وإن ادعى أصحابها إنهم أخذوها من الآيات والروايات وبالأحرى أنهم أسقطوها على النصوص الدينية والتمسوا لها شواهد من خلالها بل فسروا النصوص على ضوئها.

وقد أقر ملا صدرا وجملة ممن تبنى هذا المعتقد بأن جذوره تعود إلى فيثاغورس كما نسبه إليه ملا صدرا (ت:1050هـ) حيث يقول : (مما يدل على تجسم الأعمال والأخلاق ما قال فيثاغورس اعلم أنك سيعارض لك في أقوالك وأفعالك وأفكارك ، وسيظهر لك من كل حركة فكريّة أو قوليّة أو فعليّة صور روحانيّة وجسمانيّة . فإن كانت الحركة غضبيّة أو شهويّة ، صارت مادة شيطان يرديك في حياتك وتحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ؛ وإن كانت الحركة عقليّة ، صارت ملكا ملتذّا ملتذا منه في دنياك وتهتدي بنوره في أخراك إلى جوار اللّه و  كرامته)([3])

وأيضا الفيض الكاشاني (ت:1091هـ) صرح بذلك : (وفي كلام فيثاغورس وهو من أعاظم الحكماء الأقدمين : (إنك ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك ، وسيظهر لك من كل حركه فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية وجسمانية ، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادةً لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ؛ وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا ، تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله ودار كرامته)([4]).

كما أن الخاجوئي (ت:1173هـ) نسب تجسم الأعمال إلى فيثاغورس : (عن فيثاغورس الحكيم ، وهو من أعاظم الحكماء ومن الأقدمين : اعلم أنك ستعارض بأفكارك وأقوالك وأفعالك ، وسيظهر من كل حركة فكرية أو قولية أو فعلية صورة روحانية وجسمانية..)([5]).

وأيضا الشيخ النراقي (ت:1209هـ) في جامع السعادات حيث ذكر : (قال : فيثاغورس الحكيم ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك وسيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية ، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ، وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله وكرامته)([6]).

وقد توهم بعضهم أن فكرة أو معتقد تجسم الأعمال اكتشفه مفكرون كبار من خلال التأمل في حالات النفس الإنسانية والأصول الفلسفية المسلّمة ، مع أن حكاية تجسم الأعمال تعود إلى فيثاغورس وقد أقر بذلك ملا صدرا وجملة ممن تبناها كما أشرت.ولو لا وجود هذه الفكرة في المعتقدات اليونانية لم تخطر على بال فلاسفة الإسلام ولم نر لها ذكرا في كتبهم. ومن هنا لك أن تعرف كم هي المعتقدات في الفلسفات اليونانية والهندية التي تبناها الفلاسفة والعرفاء ومن ثم أولوا النصوص لكي تنسجم معها كما ذكرتُ بعضا منها في كتاب : (الأوهام الفلسفية) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) جامع السعادات،1،ص41.

[2] ) الفكر الخالد في بيان العقائد،ج2،ص336.

[3] ) المظاهر الإلهية،ص110.

[4] ) المعارف،ص288.

[5] ) الرسائل الفقهية،ج2،ص145.

[6] ) جامع السعادات،ج1،ص42.

Comments (0)
Add Comment