تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (3)
الاستدلال بالآيات على تجسم الأعمال
توجد عدة آيات استدلوا بها على تجسم الأعمال وقالوا أنها ظاهرة في ذلك ، بل ادعوا القول بخلاف تجسم الأعمال هو مخالف لظاهر الآيات ؛ ولذا يتطلب التعرض لما استدلوا به لنرى هل مدعاهم وما استدلوا به يصمد أمام النقاش أم لا :
[يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا]([1]).
إن وجه ما استدلوا به : هو أن الآية ظاهرة في أن الإنسان يجد عمله الحسن والقبيح يوم القيامة ماثلا محسوسا أمامه ، باعتبار أن إرادة غير هذا المعنى – على نحو التقدير أو المجاز – يحتاج إلى دليل مفقود في المقام فلا يتعين غير المعنى الظاهر.وطريقة الاستدلال ظاهرة في الجمود على حرفية اللفظ في دلالته على المعنى الذي حسبوه.
ولكن الشيء المهم الذي ينبغي الالتفات إليه هل إن الظاهر في هذه الآية المباركة هو الأخذ الحرفي بمدلولها أم أن الظاهر يقتضي التقدير والحمل على الكناية نظير قوله تعالى : [وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ]([2]). حيث ظاهر الآية ، واستقامت المعنى يدل على التقدير المحذوف ، من باب حذف المضاف ، أو على تقدير معنى أهل ، فيكون من باب المجاز في الإسناد والمراد هو : أهل القرية وأهل العير ، نظير قوله تعالى : [وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا]([3]) يعني أهل القرى ومثله في التقدير الظاهر كثير في القرآن الكريم.
كما أن المتبادر من الآية المباركة : [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا]([4]). والذي يقتضي الظهور هو الحمل على المعنى الكنائي وليس الأخذ بالمعنى الحرفي للآية ولذا أجمع المفسرون على أن المراد هو حضور جزاء العمل ، أو أن المراد هو بيان الأعمال في الصحائف ، وممن ذهب لذلك الشيخ الطوسي حيث قال عند تفسيرها يحتمل أمرين : (ومعنى تجد النفس عملها يحتمل أمرين : أحدهما – جزاء عملها من الثواب أو العقاب . الثاني – تجد بيان عملها بما ترى من صحائف الحسنات ، والسيئات . وحكم الآية جار على فريقين ولي الله وعدوه ، فأحدها يرى حسناته ، والآخر يرى سيئاته . ويحتمل أيضا أن يكون متناولا لمن جمع بين الطاعة والمعصية ، فإن من جمع بينها فإنه يرى استحقاقه للعقاب على معاصيه حاصلا ، فإنه يود أيضا أنه لم يكن فعله)([5]).
حضور العمل لا يعني الجزاء
إن مما يلاحظ على ما استدلوا به من خلال الآية المباركة هو حضور العمل : [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا]([6]). ولكن حضور العمل لا يعني الجزاء وبعبارة أخرى : حضور العمل لا يلزم منه أن الجزاء في الثواب والعقاب يكون في نفس ذات العمل ، وأقصى ما تدل عليه الآية المباركة بحسب الظاهر الذي تمسكوا به هو الحضور للعمل ، أما أن الثواب والعقاب يكون في ذات العمل عند حضوره فهذا لا دلالة فيه من خلال الآية المباركة .
وحضور العمل لا يعني الجزاء ــ الذي هو مفاد الظهور ــ قاعدة عامة تجري على كل الآيات والروايات التي تكلفوا القول بحضور العمل فيها ، ثم جعلوا لازم حضور العمل ترتب الجزاء من خلاله ، والحال ثمة أمرين لا ملازمة بينهما إذ لا يلزم من حضور العمل أن يكون هو ذات الثواب والعقاب وتدحض ما استدلوا به بل تجري على كل ما استدلوا به.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) سورة آل عمران :30.
[2] ) سورة يوسف : 82 .
[3] ) سورة الكهف : 59.
[4] ) سورة آل عمران :30.
[5] ) التبيان،ج2،ص437.
[6] ) سورة آل عمران :30.