تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (8)
الاستدلال بالأخبار على تجسم الأعمال
توجد عدة أخبار استدلوا بها على تجسم الأعمال من ضمنها ما روي عن الإمام الصادق عليه السلام : (إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه ، كلما رأى المؤمن هولا من أحوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل ، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حسابا يسيرا ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك ، فيقول من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا خلقني الله عز وجل منه لأبشرك)([1]).
وجه ما استدلوا به : أن الأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تتجسم نورا يوجب السرور والابتهاج ، والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تتجسم ظلمة توجب الآلام.
ويرد عليه : الخبر لا يدل على أن السرور هو عين عمله الذي تجسم ، مما يعني ذلك أن الله تعالى خلقه ولا شأن له بتجسم ذات العمل ، وعلى أقل تقدير لا يمكن استبعاد هذا المعنى ، وحينها يكون الخبر مجمل الدلالة ولا يمكن الاستدلال به على تجسم الأعمال ، يقول العلامة المجلسي : (يحتمل أن يكون الحمل في قوله أنا السرور على المجاز فإنه لما خلق بسببه فكأنه عينه كما يرشد إليه قوله : (خلقني الله منه) ومن للسببية أو للابتداء ، والحاصل أنه يمكن حمل الآيات والأخبار على أن الله تعالى يخلق بإزاء الأعمال الحسنة صورا حسنة ليظهر حسنها للناس ، وبإزاء الأعمال السيئة صورا قبيحة ليظهر قبحها معاينة ، ولا حاجة إلى القول بأمر مخالف لطور العقل لا يستقيم إلا بتأويل في المعاد ، وجعله في الأجساد المثالية ، وإرجاعه إلى الأمور الخيالية كما يشعر به تشبيههم الدنيا والآخرة بنشأتي النوم واليقظة ، وأن الأعراض في اليقظة أجسام في المنام ، وهذا مستلزم لإنكار الدين والخروج عن الإسلام([2]) . وكثير من أصحابنا المتأخرين يتبعون الفلاسفة القدماء والمتأخرين ، والمشائين والإشراقيين في بعض مذاهبهم ، ذاهلين عما يستلزمه من مخالفة ضروريات الدين والله الموفق للاستقامة على الحق واليقين)([3]).
ومن الأخبار التي استدلوا بها على تجسم الأعمال :
روي عن قيس بن عاصم : وفدت مع جماعة من بني تميم إلى النبي صلى الله عليه وآله فدخلت عليه وعنده الصلصال بن الدلهمس فقلت : يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فإنا قوم نعير بالبرية . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : يا قيس إن مع العز ذلا ، وإن مع الحياة موتا ، وإن مع الدنيا آخرة ، وإن لكل شيء حسيبا وعلى كل شيء رقيبا ، وإن لكل حسنة ثوابا ، ولكل سيئة عقابا ، ولكل أجل كتابا ، وإنه لابد لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت فإن كان كريما أكرمك وإن كان لئيما أسلمك . ثم لا يحشر إلا معك ، ولا تبعث إلا معه ، ولا تسأل إلا عنه ، ولا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح آنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك([4]).
عن أمير المؤمنين عليه السلام : (أعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم)([5]).
عن الإمام السجاد عليه السلام : (من كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده)([6]).
روى البرقي في المحاسن : عن أبي بصير ، عن أحدهما عليهما السلام قال : إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستة صور ، فيهن صورة هي أحسنهن وجها ، وأبهاهن هيئة ، وأطيبهن ريحا ، وأنظفهن صورة ، قال : فيقف صورة عن يمينه ، وأخرى عن يساره ، وأخرى بين يديه ، وأخرى خلفه ، وأخرى عند رجليه ، ويقف التي هي أحسنهن فوق رأسه ، فإن أتى عن يمينه ، منعته التي عن يمينه ، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات الست قال : فتقول أحسنهن صورة : من أنتم جزاكم الله عني خيرا ؟ – فتقول التي عن يمين العبد : أنا الصلاة ، وتقول التي عن يساره : أنا الزكاة ، وتقول التي بين يديه : أنا الصيام ، وتقول التي خلفه : أنا الحج والعمرة ، وتقول التي عند رجليه : أنا بر من وصلت من إخوانك ، ثم يقلن : من أنت ؟ – فأنت أحسننا وجها ، وأطيبنا ريحا ، وأبهانا هيئة ، فتقول : أنا الولاية لآل محمد (صلوات الله عليه وعليهم)([7]).
عن أبي عبد الله عليه السلام قال : جاء جبرئيل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت واحبب من شئت فإنك مفارقة واعمل ما شئت فإنك مجزى به وافعل (واعمل) ما شئت فإنك ملاقيه([8]).
عن الإمام الصادق عليه السلام : (إذا وضع الميت في قبره مثل له شخص فقال له : يا هذا كنا ثلاثة كان رزقك فانقطع بانقطاع أجلك وكان أهلك فخلفوك وانصرفوا عنك وكنت عملك فبقيت معك أما إني كنت أهون الثلاثة عليك)([9]).
عن الإمام الصادق عليه السلام قال رسول الله صلى الله عليه وآله : (اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة)([10]).
عن الإمام الصادق عليه السلام : (من أكل مال أخيه ظلما ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة)([11]).
إن عمدة ما استدلوا به في هذه الأخبار ونحوها أن الإنسان يشاهد عمله في البرزخ وفي الآخرة ، وأن الإنسان سيلاقي عمله في الآخرة.
ولكن رد ذلك وعدم دلالته على تجسم الأعمال أمر واضح إذ ما يشاهده الإنسان في البرزخ والآخرة صورة خلقها الله عز وجل تمثل عمله ، ولم تكن تلك الصورة وليدة أعماله في الدنيا ، وعلى أقل تقدير الحمل على هذا المعنى غير بعيد وحينئذٍ تكون دلالتها مجملة غير واضحة على التجسم ، كما أن الأخبار التي تدل على ملاقاة الإنسان عمله في الآخرة الفهم المتبادر منها هو أن يلاقي جزاء أعماله ، أو أن يرى أعماله حقيقة إلا أن الجزاء لم يكن فيها.
وما استدلوا به في الأحاديث لم يكن بالشيء الجديد عما ذكروه في الآيات القرآنية وقد تقدم التفصيل فيها أكثر مما ذكرته هنا فلا موجب لإعادته وتكراره مرة أخرى.
ولكن مما ينبغي التأكيد عليه مرة أخرى وعدم إغفاله هو أمران :
الأول : إن حقيقة تجسم الأعمال هو أن الجزاء يستبطن ما تجسد به ، أي أن الجزاء يكون في ذات العمل ، وهذه الأخبار تدل على رؤية العمل . بل حتى لو سلمنا أن الأعمال أو صور الأعمال التي يراها الإنسان في البرزخ والآخرة كانت وليدة عمله في الدنيا إلا أن الأخبار لا دلالة فيها على أن الجزاء فيها ولا شيء بعدها.
الثاني : إن الأخبار التي جاء فيها رؤية الإنسان للصلاة والقرآن وللولاية ونحوها لم تقل أن عمله في الصلاة تجسد . وبعبارة أخرى لم تدل الأخبار على أن الصور أو الأعمال التي يراها هي ذات صلاته وذات قراءته للقرآن ونحوهما ، وإنما قالت القرآن يتمثل له أو يشاهده والقرآن هو غير قراءته للقرآن فلا تغفل عن ذلك.
ولا يخفى كما انه توجد آيات كثيرة تنفي تجسم الأعمال توجد أحاديث كثيرة أيضا تنفي تجسم الأعمال وتدل على أن الجزاء شيء آخر غير التجسم في ذات العمل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) أصول الكافي،ج2،ص190.
[2] ) لتنافيه مع المعاد الجسماني على أحد الوجهين كما يأتي بيانه إن شاء الله في عنوان : (تجسم الأعمال والمنافاة للمعاد الجسماني).
[3] ) بحار الأنوار،ج71،ص292.
[4] ) معاني الأخبار،ص233.
[5] ) نهج البلاغة،ج4،ص4.
[6] ) الكافي،ج8،ص73.
[7] ) المحاسن،ج1،ص288.
[8] ) الزهد،ص79.
[9] ) الكافي،ج3،ص241.
[10] ) أصول الكافي،ج2،ص233.
[11] ) أصول الكافي،ج2،ص333.