تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (12)
انقلاب العرض إلى جوهر
إن من الأمور المسلَّمة التي تتنافى مع تجسم الأعمال هو انقلاب العرض إلى جوهر ، وممن أشار إليه الشيخ الطبرسي في مجمع البيان : (اختلف في كيفية وجود العمل محضرا فقيل : تجد صحائف الحسنات والسيئات ، عن أبي مسلم وغيره ، وهو اختيار القاضي . وقيل : ترى جزاء عملها من الثواب والعقاب . فأما أعمالهم فهي أعراض قد بطلت ، ولا يجوز عليها الإعادة ، فيستحيل أن ترى محضرة)([1]).
ويقول العلامة المجلسي استحالة انقلاب العرض إلى جوهر غير مختص بنشأة الدنيا وإنما يعم النشأة الأخرى([2]) ومن خلاله دلل على إشكاله على تجسم الأعمال : (القول باستحالة انقلاب الجوهر عرضا والعرض جوهرا في تلك النشأة مع القول بإمكانها في النشأة الآخرة قريب من السفسطة إذا النشأة الآخرة ليست إلا مثل تلك النشأة ، وتخلل الموت والإحياء بينهما لا يصلح أن يصير منشأ لأمثال ذلك ، والقياس على حال النوم واليقظة أشد سفسطة إذ ما يظهر في النوم إنما يظهر في الوجود العلمي ، وما يظهر في الخارج فإنما يظهر بالوجود العيني ، ولا استبعاد كثيرا في اختلاف الحقائق بحسب الوجودين ، وأما النشأتان فهما من الوجود العيني ولا اختلاف بينهما إلا بما ذكرنا ، وقد عرفت أنه لا يصلح لاختلاف الحكم العقلي في ذلك ، وأما الآيات والأخبار فهي غير صريحة في ذلك ، إذ يمكن حملها على أن الله تعالى يخلق هذه بإزاء تلك أو هي جزاؤها ، ومثل هذا المجاز شائع ، وبهذا الوجه وقع التصريح في كثير من الأخبار والآيات ، والله يعلم وحججه عليهم السلام)([3]).
وقد استُدل على عدم انقلاب العرض إلى جوهر بما روي عن الإمام الصادق عليه السلام بأن الأعمال لا وزن لها : حيث روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج في سؤال الزنديق للإمام عليه السلام :
أوليس توزن الأعمال ؟
قال : لا إن الأعمال ليست بأجسام ، وإنما هي صفة ما عملوا ، وإنما يحتاج إلى وزن الشيء من جهل عدد الأشياء ، ولا يعرف ثقلها أو خفتها ، وأن الله لا يخفى عليه شيء .
قال : فما معنى الميزان ؟
قال عليه السلام : العدل .
قال : فما معناه في كتابه : ( فمن ثقلت موازينه ) ؟
قال : فمن رجح عمله([4]).
والنهاوندي (ت:1371هـ) يقول بناءً على تجسم الأعمال لا بد من تأويل الرواية أو حملها على التقية : (بناء على ما هو الحق من تجسم الأعمال في الآخرة ، وإمكان تأثير حسن العمل ثقلا فيه ، وكون الحكمة في الوزن تهويل العاصي وتفضيحة ، وتبشير الميطع وازدياد فرحة ، وإظهار غاية العدل . ففي الرواية وجوه من الإشكال ، فلا بد من تأويلها إن أمكن ، وإلا فطرحها أو حملها على التقية)([5]).
والسيد الطباطبائي ذكر ما أشار إليه النهاوندي ولكن عبَّر عنه بـ : (قال بعضهم) من غير التصريح باسمه . ثم أول الرواية كما ذكر النهاوندي لأنها لا تنسجم مع تجسم الأعمال حيث يقول : (قد تقدم البحث عن معنى تجسم الأعمال وليس من الممتنع أن يتمثل الأعمال عند الحساب ، والعدل الإلهي القاضي فيها في صورة ميزان توزن به أمتعة الأعمال وسلعها لكن الرواية لا تنفي ذلك وإنما تنفي كون الأعمال أجساما دنيوية محكومة بالجاذبية الأرضية التي تظهر فيها في صورة الثقل والخفة)([6]).
والشيخ جعفر السبحاني قرر إشكال انقلاب العرض إلى جوهر الذي يتنافى مع تجسم الأعمال وحاول الرد عليه إلا أن ما ذكره غير خاف المناقشة فيه بحسب ما تقدم بيانه معتضدا بالخبر المتقدم عن الإمام الصادق عليه السلام ، والذي أقر النهاوندي بتنافيه مع تجسم الأعمال ، فلا يمكن الركون إليه في الاستدلال على انقلاب العرض إلى جوهر . وبعبارة أخرى أدلة إمكان العرض إلى جوهر مدخولة ولا تصمد أمام النقاش ، ولذا هي تبقى مجرد دعوى لا يسعفها البرهان . وهذا نص ما ذكره من تقرير الإشكال ورده : يظهر أن المخالفين للنظرية يتمسكون بأمرين ، هما :
1 . إن الأعمال من مقولة العرض وهي تفنى بعد صدورها أو بعد الموت ، فلم يبق شيء حتى يتجسم بشكل آخر في عالم الآخرة .
2 . إن نظرية التجسم معناها انقلاب العرض إلى الجوهر ، وهو محال .
التحقيق في الأمر : والحق أن كلا الإشكالين غير واردين على النظرية ، وذلك لأن الإشكال الأول لا أساس له من الصحة ، وهو باطل قطعاً ، لأن البراهين العقلية قائمة على أساس أن من طرأ عليه الوجود ولبس لباس الوجود لا يعدم أصلا ، وأنه يبقى في المرحلة والظرف الذي تحقّق فيه ، وأن عدمه بعد انقضاء زمانه عدم نسبي لا عدم مطلق ، فكل شيء موجود في ظرفه لا يمكن أن يطرأ العدم عليه . هذا هو الدليل العقلي الحاسم ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : [وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ]([7]) ومن هنا نعلم أن الإشكال الأول القائل : إن أعمال الإنسان التي يقوم بها تنعدم ويستحيل إعادة المعدوم ، لا أساس له من الصحة . كذلك الكلام في الإشكال الثاني – انقلاب العرض جوهراً – فإنه غير صحيح أيضا ، وذلك لأننا وإن كنا نتبنى نظرية المعاد الجسماني ولكن ليس ذلك بمعنى سيادة القوانين الدنيوية جميعها على النشأة الأُخرى ، بل إن الاختلاف بين النشأتين قد يورث الاختلاف بينهما في بعض القوانين ، يقول سبحانه : [يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ]([8]) أضف إلى ذلك أن هناك الكثير من الآيات التي يستفاد منها أن للنظام الأُخروي قوانينه الخاصة به . نعم هنا بعض الأُصول العقلية التي لا تختص بالعالم الدنيوي ، بل تعم النشأتين من قبيل استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين ، ولكن ذلك لا يمنع من وجود سلسلة من القوانين العقلية غير المحضة ، أن تكون سائدة وفقاً للنظام السائد في الحياة الدنيا ولكنها تتغير وفقاً لعالم الآخرة ، من قبيل تبدل العرض جوهراً ، فإن كون العرض غير قائم إلا بالموضوع في هذه النشأة لا يكون دليلا على كونه كذلك في النشأة الأخرى ، إذ من الممكن وبسبب تغاير النشأتين أن يكون العرض قائما بنفسه في النشأة الأُخرى متبدلا ، متجلياً بصورة النار والأغلال والسلاسل أو يكون العمل الصالح كالصلاة والصوم قائماً بنفسه في النشأة الأُخرى متجلياً بصورة الحور والجنان والعيون . وما ذكرناه لا يختص بمسألة تجسم الأعمال ، بل يجري في الصراط والميزان والأعراف ، وما شاكلها ، فلا ينبغي في تفسيرها قياسها على قوانين النظام الدنيوي . وبعبارة مختصرة : إنه لا منافاة بين العقل وبين نظرية تجسم الأعمال([9]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) مجمع البيان،ج2،ص276.
[2] ) الشيخ جعفر السبحاني وافق العلامة المجلسي بأن بعض القوانين تعم النشأتين وغير مختصة بعالم الدنيا فحسب : (للنظام الأُخروي قوانينه الخاصة به . نعم هنا بعض الأُصول العقلية التي لا تختص بالعالم الدنيوي ، بل تعم النشأتين من قبيل استحالة اجتماع النقيضين وارتفاعهما ، واجتماع الضدين ، ولكن ذلك لا يمنع من وجود سلسلة من القوانين العقلية غير المحضة ، أن تكون سائدة وفقاً للنظام السائد في الحياة الدنيا ولكنها تتغير وفقاً لعالم الآخرة).الفكر الخالد،ج2،ص348.
[3] ) بحار الأنوار،ج7،ص229.
[4] ) الاحتجاج،ج2،ص98.
[5] ) نفحات الرحمن في تفسير القرآن،ج2،ص577.
[6] ) الميزان،ج8،ص16.
[7] ) سورة يونس:61.
[8] ) سورة إبراهيم:48.
[9] ) الفكر الخالد في بيان العقائد،ج2،ص347.