إلى طالب اللغة العربية سواءٌ كان في الحوزة أم الكلية

إلى طالب اللغة العربية سواءٌ كان في الحوزة أم الكلية..

مما يؤسف له أن بعض طلبة المقدمات في الحوزة لا يعيرون أهميةً لعلوم اللغة العربية ، ويعتبرونها مرحلةً عابرةً لا تستحقُ الكثير من الجهد والتحصيل فما هي إلا فترةٌ عارضةٌ تمر ثم تكون في طي النسيان لمرحلةٍ أسمى تمثلُ الركيزة الأساس في الحوزة مبتنيةً على الفقه والأصول . ولا يُنفى ذلك ولكن التفريط في المقدمات لا سيما علوم العربية يعني التفريط بأدوات يظهر أثرها البليغ والوشيك على مستوى الطالب وتشييد قوامه العلمي والمعرفي في المستقبل القريب.

وطالب اللغة العربية في الأكاديمية إذا كان جل همه النجاح والتخرج بعيدا عن المعرفة والتعليم يتخرجُ وهو لا يتقنُ أبجدياتها ، ومن ثم يمارسُ تخصصه في الجانب التدريسي وهو على هذا المستوى ، تصوروا متخصصا ضعيفا في تخصصه ولم تكن له رغبة فيه على أي مستوى سيخرجُ طلابه؟!

ما زلتُ أتذكرُ في أيام الدراسة الأكاديمية بعض المدرسين الذين درسونا اللغة العربية في مراحل متفاوتة كان يتفانى في إلقاء المادة وكأنها متشربةٌ في أجزاء وجوده ، وإذا ما بدأ بإلقاء قصيدة ما يذوب فيها ويجعلنا نتفاعل معه وكأننا ننقطع عما حولنا ونشعر بجمال اللغة العربية فيشدُ من عزيمتنا تجاه المادة حتى نعدها ذات قيمة تستحق الاهتمام والإكبار وما ذاك إلا بسبب حبه وصبابته نحو تخصصه.

وأستاذ علوم العربية في الحوزة مثل الأستاذ في الدراسة الأكاديمية قد يرغبك في المادة ويرفع من مستواك وقد ينفرك من المادة مما ينعكس سلبا على مستواك.

إن الطالب في هذه المرحلة سواء المقدمات في الحوزة أم الكلية يتطلب منه أن يعد علوم العربية روضة من رياض الأنس والمعرفة ويغتنمها فرصة لمطالعة الكتب المختلفة في النحو والصرف والبلاغة ومعاجم اللغة ــ ككتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي عليه الرحمة([1]) وصحاح الجوهري ــ وحتى الروايات الأدبية وسيجدُ نفسه أمام عالمٍ خلابٍ يموجُ بجمال التصوير وفنون التعبير ، مضافا لمطالعة كتب طرائف النحاة وأخبارهم لأنه حينئذٍ يعلقُ في ذهنه من النكات والمطالب النحوية ما ليس بالشيء القليل ولا زواله من السهل اليسير ؛ أتذكر قرأت قديما :

أن سائلا  طرق باب نحويٍ.

فقال النحوي من ؟

أجابه سائل.

فقال له النحوي : انصرف.

فقال له : اسمي أحمد لا ينصرف.

ومنذ ذلك الوقت علق في ذهني أن (أحمد) ممنوع من الصرف!

ومما يرغبه في المادة هو أن لا يقتصر على المناهج المقررة فيطالع مع كتاب القطر كتب ابن هشام الأخرى مثل (مغني اللبيب) و (شرح الإعراب عن قواعد الإعراب) وعند دراسة ألفية ابن مالك بشرح ابن الناظم أو شرح ابن  عقيل يطالع (أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك) ــ وهو أيضا لابن هشام ــ و (منهج السالك إلى ألفية ابن مالك) المعروف بشرح الأشموني.. فمن الخطأ الفظيع ينتهي الطالب من دراسة القطر وألفية ابن مالك وهو لم يراجع على طوال هذه الفترة مغني اللبيب ولا كتاب سيبويه ولم يرَ كافية ابن الحاجب ولا شافيته([2]).

وللأستاذ دور كبير في إرشاد الطالب للمصادر وحثه عليها.أو من خلال المباحثة مع الطلبة لأنه يجد عند أحدهم من الشروح والكتب ما ليست عند مباحث آخر.أتذكر قبل خمس عشرة سنة كنا ندرس شرح ابن الناظم على ألفية ابن مالك وفي وقت الظهر بعد الدرس دار بيننا نقاشٌ حادٌ في لام الاستغراق اشترك فيه مجموعة طلبة كانت إحدى ثمرات النقاش هو أني تعرفت حينها على كتاب:(النحو الوافي) واقتنيته أنا وصديق لي كان حاضرا في الملحمة التي دارت حول لام الاستغراق من مكتبات الحويش عصر ذلك اليوم.

ومن الواضح أن التعرف على المصادر ومطالعتها من الأمور التي تجعل الطالب مشتغلاً بدرسه وتقتل وقت فراغه فيما إذا تسلط عليه.ومما يهون الأمر هو وفرة الكتب في زماننا ، واقتناؤها سهل المنال؛فمن لم يظفر بالكتاب تملكاً أو استعارةً يمكنه الاطلاع عليه من خلال المكتبات الإلكترونية والمواقع؛فلم تعِد حجة تعذر الكتاب مقبولة في زماننا ، ولا توجد حتى حاجة ملحة في مماكسة[3] البائع كما فعلنا أنا وذلك الصديق حين شراء النحو الوافي !

فكل هذه الأمور تشده لعلوم العربية وترغبه فيها مما تجعل الطالب يبذل فيها جهدا  للمعرفة والاطلاع لا أن يقضيها على مضضٍ حتى تنتهي من غير ثمرة معتد بها.

ولا بد له من الاهتمام بالبلاغة والصرف كالاهتمام بالنحو ، ولا يكتفي من الصرف بما هو مذكور في كتب النحو لأن المذكور فيها نزرٌ يسيرٌ من باب الاستطراد لا يشفي العلة ولا يروي الغلة.

ولكن عليه أن لا ينهمك في العربية بعد مرحلة المقدمات حتى لا يفرط في الدروس الأخرى ، وإذا أراد التخصص فيها فبعد دخول البحث الخارج؛لأن قوام طالب الحوزة ليس في العربية فحسب والاقتصار عليها يؤثر سلبا على مستواه المعرفي الذي قوامه إجمالا يكمن  في : مراحلها المختلفة ، وسعة الاطلاع وراء المناهج المقررة ؛ فلا المناهج المقررة تكفي في رسم الأفق المعرفي للطالب ولا سعة الاطلاع تكفي من غير الدراسة فما بالك فيما لو اقتصر على العربية مفرطا في دروسه الأخرى من غير درايةٍ ونظرٍ فيما هو موجودٌ في كتب التفسير وعلوم القرآن ومصادر الحديث وشروحه ومصادر خطب نهج البلاغة وأسانيدها([4]) إلى غير ذلك من حقول الإلمام والتعمق.

ثم علينا أن لا نغفل أن وظيفة الطالب في الحوزة هي نشر الدين والدعوةُ لنور الثقلين القرآن الكريم والعترة الطاهرة فيتخذُ علوم العربية وسيلةً لذلك وأداةً من أدوات سبل الوصول ، لا أن يعتكفُ على الوسيلة متشاغلاً بها عن الغاية.

ولا أقولُ كل من برع في علوم العربية انتفع بها في الذب عن الدين؛لأن منهم كما ذكرتُ آنفا عكف على العربية دراسةً وتدريساً ولا هم له سواها حتى أضاع الهدف الأساسي الذي جاء من أجله ولم يستثمر أدواتها في مجال نصرة الدين والمذهب وإن كان له أجر القربة سواء حين الدراسة أم التدريس وتعليم الطلبة.

ومنهم من لا يمتلكُ الاطلاع الكافي على الأمور الاعتقادية حتى يتسنى له الخوض فيها،ومنهم من لم يمرنُ نفسه على الكتابة وبقي مقتصرا على التدريس لأن الكتابة فن كالتدريس إلا أنه من نوع آخر.

وأنا أقل من أن أبدي توجيهاً أو تنبيهاً في هذا المجال ولكنها مجرد خاطرة لاحت في الأفق وأخذها القلمُ مسترسلا من غير توقف أرجو أن تكون تنبيها ممن لا يجدُ تنبيها وحافزا في مجال دراسته فلربما يمضي الوقت وتمر الفرصة ويصبح التدارك مما لا سبيل إليه لأن الوقت المناسب له دور في التحصيل يخصبُ مرادهُ ويجدبُ حصادهُ في غير أوانه.

هشام كاظم

النجف الأشرف 1443

[1] ) روى اليغموري (ت:673هـ) عن يونس : قلت للخليل : ما بال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنهم بنو أم واحدة وعلي بن أبي طالب عليه السلام كأنه ابن علة (العلة:الضرة) ؟ فقال : من أين لك هذا السؤال؟ قلت: أريد أن تجيبني! فقال: على أن تكتم عليَّ مادمت حيا ! قلت : أجل

فقال: تقدمهم إسلاماً وبذهم (البذ:الغلبة) شرفاً وفاقهم علماً ورجحهم حلماً وكثرهم زهدا وأنجدهم شجاعة ، فحسدوه ، والناس إلى أمثالهم وأشكالهم أميل منهم إلى من فاقهم وكثرهم ورجحهم.نور القبس،ص21

وعن سعيد بن أوس الأنصاري ، قال : سمعت الخليل بن أحمد يقول : أحث كلمة على طلب العلم قول علي ابن أبي طالب عليه السلام((قدر كل امرئ ما يحسن) .أمالي الطوسي،ص٥٢٤

وروى ابن فهد الحلي رحمه الله(ت:841 هـ)  عن الخليل : هو الذي قال في حق أمير المؤمنين عليه السلام حين سئل عنه قال : ما أقول في حق امرئ كتمت مناقبه أولياؤه خوفا ، وأعداؤه حسدا ثم ظهر من بين الكتمين ما ملأ الخافقين ، وقيل له أيضا : ما الدليل على أن عليا إمام الكل في الكل ؟ قال احتياج الكل إليه واستغناؤه عن الكل . المهذب البارع في شرح المختصر النافع،ج4،ص293

توفي الخليل عليه الرحمة في خلافة هارون وسبب وفاته غير مقنع يقول الذهبي في سبب وفاته :  كان سبب موت الخليل أنه قال أريد أن أعمل نوعا من الحساب تمضي به الجارية إلى الفامي (البقال) فلا يمكنه أن يظلمها ، فدخل المسجد وهو يعمل فكره ، فصدمتهُ سارية (تُطلق السارية على : الأسطوانة وعلى قوائم الدابة وعلى الجبل المرتفع وعلى السحابة التي تأتي ليلا) وهو غافل فانصرع فمات من ذلك ،  وقيل : بل صدمته السارية وتوفي بعدها،وهو يقطع بحرا من العروض. تاريخ الإسلام،ج10،ص174

ويقول الصفدي : دخل المسجد وهو يعمل فكره فصدمته سارية وهو غافل فانصرع ومات قيل سنة خمس وسبعين ومائة وقيل سنة سبعين وقيل سنة ستين ومائة.الوافي بالوفيات،ج13،ص241

وقال ابن خلكان : كان سبب موته أنه قال : أريد أن أقرب نوعا  من الحساب تمضي به الجارية إلى البياع فلا يمكنه ظلمها ، ودخل المسجد وهو يعمل فكره في ذلك،  فصدمته سارية وهو غافل عنها بفكره ، فانقلب على ظهره ، فكانت سبب موته، وقيل : بل كان يقطع بحرا من العروض.وفيات الأعيان،ج2،ص248

من غير المستبعد جدا أن يُقتل الخليل بسبب ولائه لأمير المؤمنين عليه السلام ويتهموا السارية بقتله ! كما قتلوا سعد بن عباده واتهموا الجن بقتله ! وكما قتلوا مالك بن النويرة واتهموه بالردة !

 

[2] ) شرح الكافية هو شرح  لكافية ابن الحاجب في النحو  ، وشرح   الشافية شرح لشافية ابن الحاجب أيضا في الصرف.

يقول الشريف الجرجاني (ت:816هـ) : إن شرح الكافية للعالم الكامل نجم الأئمة وفاضل الأمة محمد بن الحسن الرضي الأستراباذي تغمده الله بغفرانه وأسكنه بحبوحة جنانه كتاب جليل الخطر محمود الأثر يحتوى من أصول هذا الفن.خزانة الأدب،ص29.

وشرح عبد القادر البغدادي (ت:1093هـ) شواهد شرح الرضي على الكافية في كتاب (خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب) وشرح البغدادي أيضا شواهد الشافية.

ويقول السيوطي : الرضي الإمام المشهور صاحب شرح الكافية لابن الحاجب الذي لم يؤلف عليها ــ بل ولا في غالب كتب النحو ــ مثلها جمعا وتحقيقا ، وحسن تعليل . وقد أكب الناس عليه ، وتداولوه واعتمده شيوخ هذا العصر فمن قبلهم ، في مصنفاتهم ودروسهم وله فيه أبحاث كثيرة  مع النحاة واختيارات جمة ومذاهب ينفرد بها ولقبه نجم الأئمة ، ولم أقف على اسمه ولا على شيء من ترجمته إلا أنه فرغ من تأليف هذا الشرح سنة ثلاث وثمانين وستمائة . وأخبرني في صاحبنا المؤرخ شمس الدين بن عزم بمكة ، أن وفاته سنة أربع وثمانين ، أو ست . الشك مني . وله شرح على الشافية.بغية الوعاة،ص567.

ويقول المحقق الخوانساري  تعقيبا على كلام السيوطي : والعجب من الحافظ السيوطى المعروف بالتتبع والمهارة ، كيف لم يزد في ترجمة مثل هذا الأسد الضرغام والعهد القمقام ، والحبر التمام ، والبحر الطمطام ، على ما ذكره في هذا المقام ، إلا أن يعتذر عن الإهمال في حقه ، والمسامحة في أمره ، بكونه من الشيعة الإمامية والعلماء الدينية الاثني عشرية ، وبالجملة فهو أحد نوادر الدهر وأعاجيب الزمان ، الذي به افتخار العجم على العرب ، ومباهاة الشيعة على سائر فرق الإسلام . وكان اسمه الشريف رضي الدين محمد بن الحسن الاسترآبادي ، نسبة إلى بلدة استراباد التي هي مدينة كبيرة بأرض طبرستان واقعة بين الري وخراسان ، وقد خرج منها جمع كثير من علمائنا الأعيان ، وكان قد توطن هذا الشيخ الجليل بأرض النجف الأشرف على مشرفها السلام ، وصنف شرحه المشهور على الكافية أيضا في تلك البقعة المباركة ، وذكر في خطبته اللطيفة (في مقدمة شرح الكافية) أن كلما وجد فيه من شيء لطيف ، وتحقيق شريف فهو من بركات تلك الحضرة المقدسة ، وإفاضات حضرة سيدنا أمير المؤمنين × وهو شرح لطيف ، وكتاب طريف فاق جميع مصنفات الفريقين في الاشتمال على التحقيق والتدقيق وإعمال الفكر العميق وينيف على ثلاثين ألف بيت ، والفضل ما شهدت به الأعداء. روضات الجنات،ج3،ص347

[3] ) المماكسة في المعاوضة طلب تنقيص العوض .

 

يقال: ماكسه مماكسة: استحطه الثمن اي طلب المشتري من البايع الحط من الثمن.

وفي مجمع البحرين : (مكس) في الحديث لا تماكس في أربعة أشياء

المماكسة في البيع انتقاص الثمن و استحطاطه، يقال ماكسه يماكسه مكاسا و مماكسة.

وفي المعجم الوسيط ( ماكسه ) في البيع مماكسة طلب منه أن ينقص الثمن ونابذه وحاجه

[4] ) أهم الكتب التي تطرقت إلى مصادر نهج البلاغة وأسانيده في أمهات كتب المسلمين هي أربعة:
1 ــ مصادر نهج البلاغة وأسانيده للسيد عبد الزهراء الحسيني.يقع في أربعة أجزاء.
2 ــ نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة للشيخ المحمودي.يقع في سبعة أجزاء
3 ــ مسند نهج البلاغة للسيد محمد حسين الجلالي.يقع في ثلاثة أجزاء
4 ــ إسناد ومدارك نهج البلاغة للشيخ محمد الدشتي.يقع في سبعة أجزاء.

فلا يتصور كل ما في (نهج البلاغة) هو مرسل وغير مسند وإنما الكثير من خطبه وقصار حكمه ورد مسندا في أمهات مصادرنا مثل كتاب الكافي ومصنفات الشيخ الصدوق والشيخ المفيد والشيخ الطوسي..

 

Comments (0)
Add Comment