تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (15)
أقوال الفلاسفة والعرفاء بتجسم الأعمال
إن عرفاء العامة تبنوا (تجسم الأعمال) قبل عرفاء الشيعة ، وعند نقل كلمات الفلاسفة والعرفاء من كلا الطرفين يتبين لك ذلك ، وإليك كلماتهم بهذا الصدد :
يقول الفرغاني (ت:700هـ) متبنياً لتجسم الأعمال عند شرحه لتائية ابن الفارض (ت:632هـ) حيث يقول : (بوساطة التشكلات والاتصالات والهيئات الحاصلة من هذه الأشخاص الإنسانية من أفعالها وأقوالها تظهر من حضرة جمعية الخالق الموجد تعالى وتقدس في الأفلاك صور محسوسة وآثار ، مع أن هذه الهيئات والتشكّلات الفعلية والقولية أعراض في هذه النشأة الدنيوية ، ولكن تتصوّر وتتجسد في ذلك العالم وتظهر في النشأة البرزخية والحشرية والجنانية والجهنمية ، فيتلبّس الإنسان بها في تلك النشأة ويتلذذ ويتألم ، إلا أن روحانية تلك الصور وهي النيات المقرونة بها هي التي تقيم وتبقي صورها في تلك النشأة ، فكل ما كانت النية فيه أخلص كان تعيّن الصورة في محل أرفع وأعلى من درجات الجنة والكثيب وسوقهما ، حتى أنه إذا اتفق صدور فعل أو قول مقرون بنية في أعلى مراتب الإخلاص تفضي إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر)([1])
يقول السيد حيدر الآملي ــ من أعلام صوفية الشيعة في القرن الثامن الهجري ــ وهو بصدد إثبات تجسم الأعمال : (ومن هنا تبيّن حقيقة تجسم الأعمال وما جاء في القرآن من باطن الأعمال)([2]). ثم ذكر بعض الآيات التي استدل بها القائلون على التجسم مما تقدم الإشارة إليها ورد وجه الاستدلال فيها تحت عنوان : (الاستدلال بالآيات على تجسم الأعمال).
ويقول الشيخ البهائي (ت:1031هـ) : (حقيقة ما قاله العارفون من أن الأعمال الصالحة هي التي تظهر في صور الحور والقصور والأنهار وأن الأعمال السيئة هي التي تظهر في صور العقارب والحيات والنار ، واطلعت على أن قوله تعالى : [وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ]([3]). وارد على الحقيقة لا المجاز من إرادة الاستقبال في اسم الفاعل ، فإن أخلاقهم الرذيلة ، وأعمالهم السيئة ، وعقائدهم الباطلة الظاهرة في هذه النشأة في هذه الصور هي التي تظهر في تلك النشأة صورة جهنم ، وكذا عرفت حقيقة قوله تعالى : [إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا]([4]). وكذا قول النبي صلى الله عليه وآله : الذي يأكل في آنية الذهب إنما يجرجر في جوفه نار جهنم وقوله الظلم ظلمات يوم القيامة إلى غير ذلك)([5]).
ويقول أيضا في الخبر المروي عن الإمام الصادق عليه السلام : (أنا السرور الذي كنت أدخلته)([6]) ما نصه : (فيه دلالة على تجسم الأعمال في النشأة الأخروية . وقد ورد في بعض الأخبار تجسم الاعتقادات أيضا . فالأعمال الصالحة والاعتقادات الصحيحة تظهر صورا نورانية مستحسنة موجبة لصاحبها كمال السرور والابتهاج ، والأعمال السيئة والاعتقادات الباطلة تظهر صورا ظلمانية مستقبحة توجب غاية الحزن والتألم كما قال جماعة من المفسرين عند قوله تعالى : [يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا]([7]).ويرشد إليه قوله تعالى : [يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ][فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ][وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ]([8]) ومن جعل التقدير : (ليروا جزاء أعمالهم) ولم يرجع ضمير : [يَرَهُ] إلى : (العمل) فقد أبعد)([9]).
يقول ملا صدرا (ت:1050هـ) : (مما يدل على أن صورة الإنسان في الآخرة نتيجة عمله وغاية فعله في الدنيا قوله تعالى في حق ابن نوح عليه السلام : [إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ]([10]) على قراءة فتح الميم ومما يدل على أن نفس العمل يعني الملكة الحاصلة منه نفس الجزاء وقوله تعالى : [وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ] قوله تعالى : [إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ]([11]) لم يقل بما كنتم تعملون تنبيها على هذا المطلب)([12]).
وقد تمت الإشارة إلى كلمات الملا الكثيرة التي تدل على تبنيه لتجسم الأعمال في مواضع متفرقة([13]).
والفيض الكاشاني (ت:1091هـ) يسوق كلام فيثاغورس مؤيدا له ومتبنيا لتجسم الأعمال : (وفي كلام فيثاغورس وهو من أعاظم الحكماء الأقدمين : (إنك ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك ، وسيظهر لك من كل حركه فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية وجسمانية ، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادةً لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ؛ وإن كانت الحركة عقليّة صارت ملكا ، تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله ودار كرامته)([14]).
وممن يقول بتجسم الأعمال القاضي سعيد القمي (ت:1107هـ) : (الأعمال الصالحة والأقوال الصادقة والمعارف الحقة من جنس الأمور العالية ، والجنسية علة الضم ؛ وأن للنفوس الجزئية اقتدارا على تصوير المادة بحسب الوراثة المعنوية ؛ وأن أذكار المدبّرات العلوية تنتج فيما عندنا صورا مادية ؛ ودريت أيضا أن العبادات الشرعية الصادرة من النفوس الجزئية هي حكايات للحقائق الإلهية وأمثلة للمقامات الربوبية ؛ وأن الأعمال الصالحة ترتفع إلى أعلى عليين وتخرق السماوات إلى أن تصل إلى الملائكة المقربين ؛ فإذا رفعت إلى ما فوق السماوات التي هي أرض الجنة ومقام الطينة العرشية وأصل الجنانية ، تتعلق تلك الصور الحاكية والأمثلة النورية إلى المواد الموروثة التي لكل نفس جزئية حظ منها ، كما ورد أن طينة المؤمن من عليين ؛ فتصير قصورا من الياقوت والزبرجد وسائر الجواهر ما كان منها يناسب المعادن ؛ وينمو ما كان منها يناسب النبات في تلك القيعان الجنانية كالتسبيحات الأربع ونظائرها ؛ فتحصل جنات من أعناب ونخيل وفواكه مما يشتهون ويحيى منها ما كان يوافق طبيعة الحياة ؛ فتصير ناقة لركوب أهل الجنة وطيرا مشويا وغير ذلك ؛ وتصير إنسانا ما كان من تلك الأعمال والأذكار يناسب الإنسان كالحور والغلمان ؛ وتتراءى بتلك الصورة الشريفة ما كان من سنخ الإنسان كالقرآن وأبعاضه وبعض الأعمال الشريفة . ومن هذا يفهم سر الخبر المروي من أن في الجنة سوقا تباع فيه الصور ؛ فتبصر)([15])([16])
ونقل القاضي سعيد القمي حكاية عن الشيخ البهائي وقوله بتجسم الأعمال : (قد وصل إلينا ممن يوثق به عن أستاذ أساتيذنا بهاء الملة والدين العاملي – عامله اللّه بلطفه الخفي والجلي – أنه ذهب يوما إلى زيارة بعض أرباب الحال وهو يأوي إلى مقبرة من مقابر أصفهان . فلما جلس عنده ذكر ذلك العارف للشيخ الأستاذ أنه رأى قبل ذلك اليوم أمرا غريبا في تلك المقبرة : قال : رأيت جماعة جاؤوا بجنازة إلى هذه المقبرة ودفنوا ميتهم في موضع كذا ورجعوا . فلما مضت ساعة شممت رائحة طيبة لم تكن من روائح هذه النشأة ؛ فتحيّرت من ذلك ونظرت متفحّصا يمنة ويسرة لأعلم من أين جاءت تلك الرائحة الطيبة ؛ فإذا شاب حسن الهيأة جميل الوجه في زي الملوك يمشي نحو ذلك القبر إلى أن وصل إليه خلف فصيل كان هناك ، فتعجبت كثيرا فلما جلس عند القبر افتقدته وكأنه نزل إلى القبر . ثم لم يمض من ذلك زمان إذ فاجأتني رائحة خبيثة أخبث ما يكون ، فنظرت فإذا كلب يمشي على أثر الشاب إلى أن وصل إلى القبر واستتر هناك ؛ فبقيت متعجبا إذ خرج الشاب الذي جاء أولا وهو رث الهيأة مجروح الجثة ؛ فأخذ في الطريق الذي جاء منه ؛ فتبعته والتمست منه حقيقة الحال . فقال : إني كنت مأمورا أن أصحب هذا الميت في قبره لأني كنت عمله الصالح ؛ وقد جاء هذا الكلب الذي رأيته وإنه عمل غير صالح ؛ فأردت أن أخرجه من قبره وفاء لحق الصحبة وأداء لدين الأخوة ؛ فنهشني وخرجني ودفعني وصيرني إلى ما ترى فلم أملك الوقوف هناك ؛ فخرجت وتركته يصحبه هو . فلما أتى العارف المكاشف بتمام القصة قال شيخنا قدس سره : قد صدقت فيما قلت وحقا قلت ؛ فنحن قائلون بتجسد الأعمال وتصوّرها بالصور المناسبة بحسب الأحوال وصدقه البرهان والدليل وأذعنه كشف أرباب الحال وأبناء هذا السبيل)([17])
وهذه الحادثة على فرض صحتها تدل على نوع من أنواع الجزاء على الأعمال ، أي أن الله تعالى من جزائه على الأعمال أن يخلق هذه المخلوقات بالصورة الحسنة والقبيحة ليكافئ بها الإنسان ، لا أن هذه الصورة تكونت منذ زمان صدور الفعل الذي هو محل الكلام والاستدلال ؛ ففرض تكونها منذ زمن صدور الفعل هو نفس الادعاء وليس بشي من الاستدلال عليه.ثم إذا كان لكل فعل يخلق شيئا في نشأة الآخرة كيف اجتمعت تلك الموجودات (الجواهر) وصارت في موجود وصورة واحد.
والمهم في ذكري لما نقله القاضي القمي من تلك الحكاية هو لتشابهها مع بعض الأخبار وبيان أن هذا النمط من الأخبار لا صلة له بتجسم الأعمال بالمعنى المراد والمعهود لدى أصحابه كما أوضحت.
والشيخ النراقي (ت:1209هـ) يظهر من كلامه تبنيه لتجسم الأعمال حيث نقل كلام فيثاغورس وأخذ يشرحه كأنه من المسلمات حيث يقول : (قال : فيثاغورس الحكيم ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك وسيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية ، فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ، وإن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدي به في أخراك إلى جوار الله وكرامته)([18]).
وعقب الشيخ النراقي قائلا : (هذه الكلمات صريحة في أن مواد الأشخاص الأخروية هي التصورات الباطنية والنيات القلبية والملكات النفسية المتصورة بصور روحانية وجودها وجود إدراكي ، والإنسان إذا انقطع تعلقه عن هذه الدار وحان وقت مسافرته إلى دار القرار وخلص عن شواغل الدنيا الدنية وكشف عن بصره غشاوة الطبيعة ، فوقع بصره على وجه ذاته والتفت إلى صفحة باطنه وصحيفة نفسه ولوح قلبه)([19]).
وملا هادي السبزواري (ت:1289هـ) يرى أن تجسم الأعمال ثابت بالبرهان ومحقق عند أهل الكشف والعيان : (هو أمر ثابت بالبرهان محقق عند أهل الكشف والعيان ، مستفاد من أرباب الشرائع والأديان)([20]).
ويقول محمد حسين الطهراني : (إن أي عمل سوف لن يضمحل في عالم التكوين ، وأنه يمتلك صورا مختلفة في النشآت المختلفة ؛ وأن الجنة والنار ليستا إلا ظهورا لحقائق الأعمال)([21]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) شرح تائية ابن الفارض،ج2،ص115.
[2] ) أنوار الحقيقة،ص23.
[3] ) سورة التوبة:49.
[4] ) سورة النساء:10.
[5] ) الكشكول،ج2،ص192.
[6] ) نص الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام : (إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه ، كلما رأى المؤمن هولا من أحوال يوم القيامة قال له المثال : لا تفزع ولا تحزن وأبشر بالسرور والكرامة من الله عز وجل ، حتى يقف بين يدي الله عز وجل فيحاسبه حسابا يسيرا ويأمر به إلى الجنة والمثال أمامه فيقول له المؤمن : يرحمك الله نعم الخارج خرجت معي من قبري وما زلت تبشرني بالسرور والكرامة من الله حتى رأيت ذلك ، فيقول من أنت ؟ فيقول : أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا خلقني الله عز وجل منه لأبشرك) أصول الكافي،ج2،ص190.
[7] ) سورة آل عمران :30.
[8] ) سورة الزلزلة:6ـ7ـ8.
[9] ) الأربعون حديثا،ص402.
[10] ) سورة هود:46.
[11] ) سورة الطور:16.
[12] ) أسرار الآيات،ص205.
[13] ) انظر مثلا عنوان : (ذاتية العلاقة بين العمل والجزاء) و (الاستدلال بالسقيم على الصحيح) .
[14] ) المعارف،ص288.
[15] ) الاربعينيات،ص297.
[16] ) عن أمير المؤمنين عليه السلام قال النبي صلى الله عليه وآله : (إن في الجنة سوقا ما فيها شرى ولا بيع إلا الصور من الرجال والنساء ، من اشتهى صورة دخل فيها).جامع الأخبار،ص495.
[17] ) الأربعينيات،ص299.
[18] ) جامع السعادات،ج1،ص42.
[19] ) جامع السعادات،ج1،ص43.
[20] ) شرح المنظومة،ج5،ص352.
[21] ) معرفة المعاد،ج10،ص47.