(32) س : هل ترك الزواج في بداية السير والسلوك كما يقولون من أفكار الصوفية؟
ج : من مبتدعات الصوفية المنتشرة حتى في الأوساط العرفانية الشيعية الإعراض عن الزواج في بداية الطريق لمن أمن الوقوع في الحرام ، ويحسبون ذلك مما يُعين على السير والسلوك ، وكلاهما لا دليل عليهما من الشرع ، إذا لا دليل من الشرع يحث على الإعراض عن الزواج ، ولا دليل على أن الإعراض عنه يُعين في التقرب إلى الله تعالى ، نقل أبو طالب المكي قول الجنيد في ترك المريد المبتدئ للزواج : (كان الجنيد يقول : أحب للمريد المبتدئ أن لا يشغل قلبه بهذه الثلاث وإلا تغير حاله التكسب وطلب الحديث والتزوج)([1]).
وهو نظير ما ذكره الغزالي من شرط للمريد في الابتداء : (فشرط المريد العزبة في الابتداء إلى أن يقوى في المعرفة . هذا إذا لم تغلبه الشهوة . فإن غلبته الشهوة فليكسرها بالجوع الطويل ، والصوم الدائم . فإن لم تنقمع الشهوة بذلك ، وكان بحيث لا يقدر على حفظ العين مثلا ، وإن قدر على حفظ الفرج ، فالنكاح له أولى ، لتسكن الشهوة . وإلا فمهما لم يحفظ عينه ، لم يحفظ عليه فكره ، ويتفرق عليه همه ، وربما وقع في بلية لا يطيقها ، وزنا العين من كبار الصغائر ، وهو يؤدى على القرب إلى الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج)([2]).
ومن الصوفية من يرى ضرورة ترك الزواج سواء للمبتدئ وغيره كما نقل أبو طالب المكي عن الداراني : (قال أبو سليمان الداراني : إذا طلب الرجل الحديث أو تزوج أو سافر في طلب المعاش فقد ركن إلى الدنيا)([3]).
وأيضا نقل السهروردي في عوارف المعارف عن الداراني قوله : (ما رأيت أحدا من أصحابنا تزوج فثبت على مرتبته)([4]).
ونقل الشعراني قول القيسي : (لا يبلغ الرجل إلى منازل الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة وأولاده كأنهم أيتام ويأوي إلى منازل الكلاب)([5]).
وكان سفيان الثوري يقول : (من تزوج فقد أدخل الدنيا بيته)([6]).
وكأن هؤلاء لم يقرؤوا القرآن ولم يسمعوا به ولم يروا قوله تعالى في الحث على الزاج : [وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ]([7]).
[فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً]([8]).
وقد جعل الله عز وجل الزواج لحصول السكون والاطمئنان : [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]([9]).
وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وآله المعرضين عن الزواج في أخبار كثيرة من ضمنها : (من أحب أن يكون على فطرتي فليستن بسنتي ، وإن من سنتي النكاح)([10]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام : (جاءت امرأة عثمان بن مظعون إلى النبي صلى الله عليه وآله فقالت : يا رسول الله إن عثمان يصوم النهار ويقوم الليل فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله مغضبا يحمل نعليه حتى جاء إلى عثمان فوجده يصلي ، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال له : يا عثمان لم يرسلني الله تعالى بالرهبانية ولكن بعثني بالحنيفة السهلة السمحة ، أصوم واصلي وألمس أهلي ، فمن أحب فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح)([11]).
وعنه عليه السلام : إن ثلاث نسوة أتين رسول الله صلى الله عليه وآله فقالت إحداهن : إن زوجي لا يأكل اللحم ، وقالت الأخرى : إن زوجي لا يشم الطيب ، وقالت الأخرى : إن زوجي لا يقرب النساء ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وآله يجر رداءه ، حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : ما بال أقوام من أصحابي لا يأكلون اللحم ولا يشمون الطيب ولا
يأتون النساء ، أما إني آكل اللحم وأشم الطيب وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني([12]).
وكل شيء مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله ولا دليل عليه من الشرع لم يكن من شأنه التقرب به إلى الله عز وجل بل يكون موجبا لفساد دين المرء وإن تصور فيه سلامة دينه ، ولا يخفى أن ترك التزويج مخالف لفطرة الإنسان التي جُبل عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) قوت القلوب،ج1،ص468.
[2] ) إحياء علوم الدين،ج8،ص185.
[3] ) قوت القلوب،ج1،ص244.
[4] ) عوارف المعارف،ج1،ص181.
[5] ) الطبقات الكبرى،ج1،ص88.
[6] ) تنبيه المغترين،ص55.
[7] ) سورة النور:32.
[8] ) سورة النساء:3.
[9] ) سورة الروم:21.
[10] ) أصول الكافي،ج5،ص496.
[11] ) أصول الكافي،ج5،ص494
[12] ) أصول الكافي،ج5،ص496.