مخاض المعرفة في تتمة دعاء عرفة (8)
دعوى مشابهة تتمة دعاء عرفة للمذاق الصوفي
من الواضح جدا أن أغلب فقرات التتمة لم تكن تشابه المذاق الصوفي . بل كل فقراتها لم تشابه المذاق الصوفي إلا فقرتين ادعي فيهما المشابهة ، ونحو ثلاث فقرات يوجد فيها شيء من الإجمال ولم يكن المعنى بمكان من الوضوح فإثارة الإشكال عليها ليس في محله . وقد روي عن الإمام الرضا عليه السلام : (من رد متشابه القرآن إلى محكمة هدى إلى صراط مستقيم ثم قال : إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن فردوا متشابهها إلى محكمها ولا تتبعوا متشابهها دون محكمها فتضلوا)([1]).
وأما بالنسبة للفقرتين:
الأولى : (إلهي حققني بحقائق أهل القرب واسلك بي مسلك أهل الجذب).
الأخرى : (واجذبني بمنك حتى أقبل عليك).
بسبب الفقرتين الأخيرتين اللتين ورد فيهما : (اجذبني) و (الجذب) توهم بعضهم أن المقطع الأخير من دعاء عرفة كان على مذاق الصوفية مع إن مادة جذب واشتقاقها وتصريفاتها متسالم عليه في اللغة وشائع إلى حد لا خفاء فيه.
إن أقدم المعاجم اللغوية تطرقت لهذه المادة واستعمالاتها فعلى سبيل المثال ذكر الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) في كتاب العين : (جذب : الجذب مدك الشيء ، ومنه التجاذب ، وانجذبوا في سيرهم ، وانجذب بهم سير .وإذا خطب الرجل امرأة فردته ، قيل : جذبته وجبذته ، كأنه من قولك : جاذبته فجذبته أي غلبته ، فبان منها مغلوبا .والجذب : جمار النخل ، الواحدة جذبة ، وهي الشحمة تكون في رأس النخلة تكشط عنها فتؤكل .والجذبة : البعد ، وفلان منا جذبة أي بعيد)([2]).
ويقول أبو منصور الأزهري (ت:370هـ) : (جذب : قال الليث : الجذب : مدك الشيء . والجبذ : لغة تميم : قال : وإذا خطب الرجل امرأة فردته ، قيل : جذبته ، وجبذته . قال : وكأنه من قولك جاذبته فجذبته ، أي غلبته ، فبان منها مغلوبا . قال : ويقال : انجذب الرجل في سيره ، وقد انجذب به السير .وقال الأصمعي : جذب الشهر يجذب جذبا ، إذا مضى عامته ويقال للصبي ، أو السخلة إذا فصل : قد جذب . وقال أبو النجم : (ثم جذبناه فطاما نفصله) ويقال للناقة إذا غرزت وذهب لبنها : قد جذبت ، فهي جاذب والجمع : جواذب .قال الهذلي :
بطعن كرمح الشول أمست غوارِزا … جواذبها تأْبى على المتغبر
ويقال للرجل إذا كرِع في الإناء نفسا أو نفسين : جذب نفسا أو نفسين . عمرو ، عن أبيه ، يقال : ما اغنى عني جذبانا ، وهو زمام النعل ولا ضمنا ، وهو الشسع .ابن شميل : بيننا وبين بني فلان نبذة وجذبة ، أي هم منا قريب . والجذب : جمار النخل ، والواحدة جذبة)([3]).
والصاحب بن عباد (ت:385هـ) ذكر ما جاء به الخليل : (جذب : الجذب : مَدُّكَ الشيء ، ومنه التجاذب . وانجذب بهم السير . وإذا خطب الرجل المرأة فردته فقد جذبته ..)([4]).
ويقول ابن حماد الجوهري (ت:393هـ) : (الجذب : المد . يقال جذبه ، وجبذه على القلب ، واجتذبه أيضا . يقال للرجل إذا كرع في الإناء : جذب منه نفسا أو نفسين . وبيني وبين المنزل جذبة ، أي قطعة ، يعنى بعد . ويقال جذبة من غزل ، للمجذوب منه مرة . وجذبت المهر عن أمه ، أي فطمته،قال الشاعر : ثم جذبناه فطاما نفصله. أبو عمرو : الجذب : انقطاع الريق . ويقال للناقة إذا قل لبنها : قد جذبت ، فهي جاذب ، والجمع جواذب وجذاب أيضا ، مثل نائم ونيام . وجذب الشهر : مضى عامته . وجاذبته الشيء ، إذا نازعته إياه . والتجاذب : التنازع . والانجذاب : سرعة السير .والجذب بالتحريك : الجمار ، وهو شحم النخل ، الواحدة جذبة)([5]).
يقول الفيروز آبادي (ت:817هـ) : (جذبه يجذبه : مده ، كاجتذبه ، والشيء : حوله عن موضعه ، كجاذبه ، وقد انجذب وتجاذب ، والناقة : قل لبنها ، فهي جاذب وجاذبة وجذوب ، ج : جواذب وجذاب ، كنيام ، والشهر : مضى عامته ، والمهر : فطمه ، وفلانا يجذبه ، بالضم : غلبه في المجاذبة . وجذاب ، كقطام : المنية . وسير جذب : سريع . وبينه وبين المنزل جذبة : قطعة بعيدة . والجذب ، محركة : جمار النخل ، أو الخشن منه ، كالجذاب ، بالكسر ، الواحدة بهاء . وجذب النخلة يجذبها : قطع جذبها ، ومن الماء نفسا : كرع فيه . والجواذب ، بالضم : طعام يتخذ من سكر ورز ولحم)([6]).
كما أن مادة (جذب) وما اشتق منها ورد في النصوص الدينية :
دعائم الإسلام :
روى القاضي النعمان (ت:363هـ) عن الإمام الصادق عليه السلام : (إن الله تبارك وتعالى ربما أمر ملك الموت فردد نفس المؤمن ليخرجها من أهون المواضع عليه ، ويرى الناس أنه قد شدد عليه ، وإن الله ربما أمر ملك الموت بالتشديد على الكافر فيجذب نفسه جذبة واحدة كما يجذب السفود من الصوف المبلول ، ويرى الناس أنه هون عليه)([7]).
كامل الزيارات :
روى ابن قولويه القمي (ت:368هـ) عن الإمام الباقر عليه السلام : (كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا دخل الحسين عليه السلام جذبه إليه ثم يقول لأمير المؤمنين عليه السلام : أمسكه ، ثم يقع عليه فيقبله ويبكي يقول : يا أبه لم تبكي ، فيقول : يا بني اقبل موضع السيوف منك وابكي)([8]).
ثواب الأعمال :
روى الشيخ الصدوق (ت:381هـ) عن أمير المؤمنين عليه السلام : (ما أحد من ولد آدم إلا وناصيته بيد ملك ، فإن تكبر جذبه بناصيته إلى الأرض ، وقال له : تواضع وضعك الله ، وإن تواضع جذبه بناصيته ، ثم قال له : ارفع رأسك رفعك الله ، ولا وضعك بتواضعك لله)([9]).
نهج البلاغة :
روى الشريف الرضي (ت:406هـ) عن أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة المعروفة بالغراء وصفه عليه السلام للموت : (جذبة مكربة وسوقة متعبة)([10]).
وروى الآمدي (من علماء القرن الخامس الهجري ) عن أمير المؤمنين عليه السلام (التوفيق من جذبات الرب)([11]).
ومما تقدم يتبين أن أصل الاستعمال لتلك المفردة واشتقاقها وارد في اللغة والنصوص الدينية ولا مجال للتردد فيه.
ولكن يؤاخذ على ما تقدم أن أساس الإشكال لم يكن على أصل المادة المستعملة في الدعاء وإنما على المعنى المتضمن لتلك المادة والذي قد يُفهم منه أنه استعمال على وفق المذاق الصوفي.
ويمكن الإجابة ضمن خمسة أمور :
الأمر الأول : إن للصوفية عدة مفردات شاعت في أوساطهم وعُرفوا بها ومن ثم صُنفت ضمن اصطلاحاتهم ، ولم يكن المحذور في استعمال المفردة وإنما على المعنى المتضمن لها ؛ لأن الصوفية حرفوا المفاهيم الإسلامية عن محتواها السليم وألبسوها معنًى غير صحيح مثل الزهد والعبادة والرياضة وغيرها من المفردات الصحيحة حتى يكاد يجزم أن كل مفهوم إسلامي سليم فسروه بشكل خاطئ وأدخلوا عليه بدعاً لم تكن مرادة للدين.
ومن هنا لا يمنع أن نجد استعمال المفردات بمعاني سديدة جاءت في كلام الأئمة عليهم السلام واستعملها الصوفية بمعان أخرى مغايرة لها مما يعني الاشتراك في الاستعمال والافتراق في المعنى.
الأمر الثاني :
إن بعض تعبيرات الصوفية كانت مقتبسة من كلام الأئمة عليهم السلام بل منهم من كان يتكلم بكلام الأئمة عليهم السلام وينسبها لنفسه كالحسن البصري فقد روي عن أبي يحيى الواسطي قال : (لما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام البصرة اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح فكان كلما لفظ أمير المؤمنين بكلمة كتبها فقال أمير المؤمنين بأعلى صوته ما تصنع ؟ فقال نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم فقال أمير المؤمنين : أما إن لكل قوم سامري وهذا سامري هذه الأمة أما إنه لا يقول لا مساس ولكن يقول لا قتال)([12]).
ويقول الفيض الكاشاني : (إن أكثر ما يتكلم به الحسن مما يعظ به في مواعظه ويأتي به في مجالسه في معرض الإفادة كان من كلام أمير المؤمنين عليه السلام فإنه كان يجلس في مجالس خطبه ومواعظه وكان يكتبها ويحفظها ثم يسردها على الناس ويريها كأنه من كلام نفسه حتى قال علماء العامة : إن كلام الحسن يشبه كلام الأنبياء وإنما كان من كلام من كان يفتخر به الأنبياء)([13]).
وعلى هذا ما يرد في كلام الأئمة وأدعيتهم مشابها لمذاق الصوفية من حيث اللفظ يكون من المتوقع جدا أن يكون الأصل فيه منهم صلوات الله وسلامه عليهم.
الأمر الثالث :
عندما نتردد بنسبة بعض فقرات دعاء عرفة للإمام الحسين ونصنفها على إنشاءات الصوفية يستوجب أولاً النظر لتلك الفقرات هل فيها مخالفة للضرورات الدينية والمفاهيم الإسلامية بصورة عامة أم لا ؟ فإذا لم يكن فيها مخالفة يكون حينها من التحكم والقول بلا دليل عدها من كلمات الصوفية حيث التشابه لم يكن علامة على الوضع من قِبل الصوفية ، لأنه يوجد في كلام الأئمة عليهم السلام من العبارات ما لا يشابه سائر كلامهم ، يقول الميرزا النوري : ( يوجد في جملة من أدعيتهم ومناجاتهم وخطبهم عليهم السلام من العبارات الخاصة ، والكلمات المختصة ، ما لا يوجد في سائر كلماتهم ، فارجع البصر إلى المناجاة الإنجيلية الكبرى والوسطى([14]) ، وآخر دعاء كميل ، والمناجاة الخمسة عشر ، التي عدها صاحب الوسائل في الصحيفة الثانية من أدعية السجاد عليه السلام ، ونسبها إليه من غير تردد)([15]).
الأمر الرابع : إن القول بمشابهة بعض الفقرات لمذاق الصوفية لم يكن بالأمر القطعي المسلًّم التحقق والوقوع ، وإنما هو بحد ذاته نظرة اجتهادية ذوقية لم تكن محل اتفاق نظر الجميع.
الأمر الخامس : إن ما جاء في الفقرتين المشار إليهما من تعبير : (الجذب) و (اجذبني) لو كان بدلا عنهما مفردتين أخرتين قد لا يدعى المشابهة لمذاق الصوفية مما يعني ذلك أن القول بأن أساس الإشكال لم يكن حول مادة الجذب واشتقاقهما وإنما على المعنى المتضمن لهما لا أصل له من الصحة.
وقد يُقال كلام أئمة أهل البيت عليهم السلام له نسق خاص في المعنى والتعبير لا يشبه كلام الصوفية ولا يرقى إليه فكيف تقولون مشابهته بكلام الصوفية لا يعني شيئا وليس فيه ما يشير للوضع.
والجواب على ذلك في أمرين :
الأول : لا بد أولاً من إثبات أصل التشابه لأنه قد يكون مجرد ادعاء حاصل بسبب توهم أو شبهة لا واقع لها ، ويكفي حينها مجرد التشكيك بأصل المشابهة في نفي الإشكال من أساسه.وبعبارة أخرى : إن مشابهة كلام الأئمة عليهم السلام لكلام الصوفية قد يكون لا حقيقة له بمعنى مجرد ادعاء لا واقع له نظير التشكيك في البديهي الذي لا يضر التشكيك ببداهته.
الآخر : إن المشابهة قد تكون ببعض المفردات وهذا لا يعد من المشابهة كما يتصور البعض ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) عيون أخبار الرضا،ج1،ص261.
[2] ) العين،ج6،ص94.
[3] ) تهذيب اللغة،ج11،ص13.
[4] ) المحيط في اللغة،ج7،ص69.
[5] ) الصحاح،ج1،ص97.
[6] ) القاموس المحيط،ج1،ص44.
[7] ) دعائم الإسلام،ج1،ص249.
[8] ) كامل الزيارات،ص146.
[9] ) ثواب الأعمال،ص176.
[10] ) نهج البلاغة،ج1،ص144.
[11] ) غرر الحكم ودرر الكلم،ص37.
[12] ) الاحتجاج،ج1،ص251.
[13] ) المحجة البيضاء،ج1،ص87.
[14] ) العلامة المجلسي في البحار لم يفرق بينهما ونقلهما من غير فاصل بينهما حيث يقول : (المناجاة الإنجيلية : لمولانا علي بن الحسين عليه السلام ، وقد وجدتها في بعض مرويات أصحابنا رضي الله عنه في كتاب أنيس العابدين من مؤلفات بعض قدمائنا عنه عليه السلام).بحار الأنوار،ج91،ص153.والطابع العام على هذه المناجاة لا يشبه ما عند الصوفية ،في نهايتها نحو فقرتين أو ثلاث فقرات ــ متفرقة ــ قد يثار فيها الكلام في المشابهة.
[15] ) خاتمة المستدرك،ج1،ص206.