السيرة الذاتية

 

في  سنة 2001م كان أول أيام دخولي إلى حوزة النجف الأشرف على مُشْرِّفها آلاف التحية والسلام ، سكنت في فندق الحوراء زينب الذي كان عبارة عن سكن لطلبة الحوزة في شارع الرسول.

الفندق كان يفتقر لأبسط المقومات ، لا يوجد فيه ثلاجة ولا طباخ ولا مبردة ، فضلا عن عدم وجود غسالة ولا مولدة ، وكل غرفة صغيرة فيها ثلاثة أو أربعة طلبة ، وكل طالب في نهاية الشهر عليه أن يدفع الإيجار لصاحب الفندق بمفرده ، والذي لا يمكنه دفع الإيجار عليه أن يغادر لكي يأتي طالب آخر مكانه . كان وقت دفع الإيجار أشبه ما يكون بالمحنة التي يتطلب تخطيها ، ومن الطلبة من يضطر للاقتراض حتى يسدد الإيجار ، ومنهم من يطلب من صاحب الفنادق التأجيل للشهر القادم فيؤجله على مضض التصبر والتفضل.

وما أن تنتهي محنة الإيجار حتى يلوح عناء آخر لا يقل عن معضلة الإيجار وهو أجرة العودة لمحافظتك ومن ثم للنجف مرة أخرى.

وقبل الدخول إلى الفندق يوجد شرط لا بد للطالب أن يعرفه وهو أن في أيام الزيارات عليه أن يترك الغرفة حتى تؤجر للزوار ، ولكن أصحاب الفندق تساهلوا مع الطلبة بترك كتبهم وأغراضهم في الغرفة ، مما يعني عليك أن تغادر بمفردك وتبحث لك عن مبيت أيام الزيارات ، قرب الأمير عليه السلام أو في مقبرة وادي السلام أو بحر النجف أو في ساحة صافي صفا أو أي مكان آخر ، وعند خلو الفندق من الزوار يمكنك أن تعود إليه مرة أخرى.

كنا نحن الثلاثة نضع الطحين في المخبز الذي جئنا به من محافظاتنا ، وفي كل وجبة من الوجبات يذهب واحد منا للمخبز الذي يقع بالقرب منا ــ في فرع مكتبة العلامة الأميني رحمه الله ــ ويأتي بثلاثة لكل واحد خبزة لا غير ، لأن كمية الطحين محدودة ولا تسمح بأكثر من ذلك ، وعليك أن تتحمل حتى وقت الوجبة الأخرى ، وفي بعض الليالي تبيت جائعاً وعند الصباح خبزة واحدة متناهية في الصغر والخفة ، مع كوب حليب أو شاي ، ومن ثم تبدأ يوماً جديداً لا تعرف ماذا يخبئ لك من المصاعب ، وهل يُقدر لك أن تشرب فيه الماء البارد أو لا ، لأن البرادات في المساجد التي ندرس فيها ماؤها حار بسبب الزخم على برادات قليلة مع انقطاع الكهرباء الذي يغلب على أكثر ساعات اليوم ، وحتى برادات الحرم المقدس أغلب الأوقات لا يوجد فيها الماء البارد بسبب الزخم عليها ، ولربما يتبرع أحد منا في آخر الليل ويأتي بالماء البارد مشكوراً ، لأنه في هذا الوقت ووقت الفجر فقط يمكن الظفر بالماء البارد ، وإن كنا نتفاجأ في بعض الأحيان ، ونرى في الفندق ترمزا واحدا فيه ثلج سرعان ما يختفي.

ولا تدري هل أن يومك الذي أنت فيه تقضيه كسابقه بعيداً عن مديرية الأمن أو أن الوقت حان لدخولها ، كما سبقنا أصدقاؤنا ؟! لأن الاعتقال حينئذٍ من الأمور المتوقعة في كل لحظة ، ولا يغيب عني مشهد سيارات الأمن والشرطة بين الفينة والأخرى عند شارع الرسول وهم يزجون بطلبة الحوزة في سياراتهم بالجملة.   

لا يوجد في قاموس حياتنا شراء الكتاب ولا يخطر على بالنا أصلاً سوى الكتب الدراسية لا غير ، وإذا احتجنا لمطالعة كتاب أو شرح إما أن نذهب لمكتبة السيد الحكيم (رحمه الله) أو مكتبة العلامة الأميني (رحمه الله) التي تقع خلف الفندق بخطوات ، وكان أفضل الأوقات للمطالعة فيها بالنسبة لنا هو وقت الظهر ، لأن حرارة الغرفة لا تطاق والمروحة التي فيها لا تزيد حرارة الجو إلا سوءاً .

ومع هذه المأساة كنا نتوقع في أي لحظة من ساعات الليل أو النهار مداهمة الأمن وطلب هوياتنا وإسماعنا السب والكلام الفاحش ، كما كانوا يفعلون في المدارس الدينية يجمعون الطلبة في ساحة المدرسة ويسمعونهم شتى كلمات الانتقاص وبذاءة اللسان التي هي من عادة هذا السلك الصدامي.

أيام صعبة جداً ما كانت تمضي لولا جوار أمير المؤمنين عليه السلام وشغف المعرفة والاطلاع ، ونصبر حالنا بأحاديث طلب العلم وما ورد فيه من الفضل والثناء ، وسيرة العلماء الذين سبقونا في هذا الطريق ، والذي لكل واحد منهم ألف قصة وألف حكاية ، وصبروا من أجل مواصلة المسيرة العلمية ، وتشكيلِ كيان مستقل من شأنه نشر علوم أهل البيت عليهم السلام ، ويكون عقبة كؤودا بوجه أهل البدع والضلال إذ عدم الوقوف بوجه هؤلاء وكشف زيفهم وخداعهم ينمحق الدين تحت مسميات مختلفة ولا يبقى له باقية ، وقلما تجد في ذلك الزمان طالباً ميسور الحال ولا يعاني شظف العيش ، وبكل تأكيد في وقتنا الحاضر لم يختلف حال طلبة الحوزة كثيراً عن تلك السنين وإن كان هو أفضل في بعض الجوانب .    

وفي نفس الوقت كنا نعرف هذا هو مصير وبدايات كل طالب في الحوزة ليس لديه سكن في المدارس الدينية ولا راتب أو مساعدة شهرية من مكاتب العلماء لأن الطالب الجديد من يعرفه ؟! حتى يسكنه في المدارس أو يجري له مساعدة ولذا عليه أن يقضي من الشهور أو السنين حتى يكون له سكن في المدارس يرفع عنه ثقل الإيجار ومن ثم يكون حاله نحو الأحسن شيئاً فشيئاً .

وإذا لم تخنِ الذاكرة في ذلك الوقت كان مكتب السيد الحكيم يجري امتحانات ويرتب مساعدة للطلبة الناجحين ومن لم يوفق في الامتحان عليه انتظار موعد الامتحان الآخر ، وهذا يعني أن تبقى في الفندق نحو سنة كاملة حتى تكمل بعض المواد ويتسنى لك الامتحان فيها .

ولكن مع وجود المصاعب الكثيرة كانت أيام جميلة مفعمة بالسرور ، كيف لا وأنت تغدو وتروح صباحاً ومساءً وأمام ناظريك صاحب القبة البيضاء في النجف ، وقد وضعت خطاك في طريق العلماء الذين شيدوا آفاق المذهب وارتفعت على كفاحهم وتضحياتهم كما كان لأصحاب الأئمة عليهم السلام الدور الكبير في حفظ حديثهم وتراثهم ولذا روي عن الإمام الصادق عليه السلام : (بشر المخبتين بالجنة ، بريد بن معاوية العجلي ، وأبو بصير ليث بن البختري المرادي ، ومحمد بن مسلم ، وزرارة أربعة نجباء ، أمناء الله على حلاله وحرامه لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوة واندرست).اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)،ص398

وعنه عليه السلام : (لولا زرارة لظننت أن أحاديث أبي عليه السلام ستذهب).اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)،ص345

وفي هذه السنة (2001م) أنا أفضل بكثير لأنني تعرفت على من يرشدني لأماكن سكن الطلبة وأماكن الدراسة ونحو ذلك ، وإلا في السنين السابقة حاولت الدخول للحوزة سنة 1997م أو السنة التي قبلها لم أتذكر على وجه التحديد كنت في وقتها بالثالث متوسط ، ولكن المحاولات لم تفلح حتى أتذكر قلت للسيد حسين بحر العلوم رحمه الله : وكان جالساً في غرفة جامع الطوسي لانتظار وقت صلاة الظهر : سيدنا أريد أدرس حوزة بس ما عندي سكن ؟ فقال لي : لا أمتلك سوى بيتي إذا تريد تتفضل بالبيت أهلاً وسهلاً بيك.

وفي وقتها كان السيد محمد كلانتر رحمه الله مؤسس جامعة النجف الدينية هو المسؤول المباشر عن قبول الطلبة ، وكنت سمعت عنه أنه لا يقبل في الجامعة إلا أبناء العوائل العلمية أو الذين يوثقون له من قِبل أشخاص معروفين ، وله الحق في ذلك لأنه في ظل حكومة صدام وخاصة في الحوزة التي زرع صدام اللعين رجالاته فيها لا مجال للثقة والاطمئنان إلا للأشخاص الذين تعرفهم ، وفي غير ذلك تكون الثقة والاطمئنان ضرباً من الحماقة وحتى الجنون ، ومع ذلك قلت أذهب للسيد وأقول له أفضل من عدم الذهاب الذي لا يرجى منه خير ، وأيضا لكي ألتقي بالسيد الذي سمعت عنه الكثير ، وفعلا ذهبت للسيد وكان جالساً في غرفته المعروفة بالجامعة وبعد السلام عليه قلت له سيدنا أريد ادخل للحوزة قال لي : أدخل للحوزة . قلت له سيدنا : أين الحوزة ؟ قال باللغة الدارجة : روح يم الإمام اسأل وهم يدلونك.

وهذه واحدة من الطرائف المحزنة التي تلقيتها بألم في هذا الطريق وأقول (لعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور).     

 وما كانت فكرة دخول الحوزة تغادرني في يوم من الأيام حتى قبل السنة التي التقيت بها السيد حسين بحر العلوم والسيد الكلانتر (رحمهما الله) ولكن بسبب صغر السن كنت أنتظر حتى تمر بعض السنين ،  وفي ذلك الوقت كنت أرى أن مستقبلي لا يكون إلا في هذا المجال ، وفي أيام شهر رمضان أسأل الخطباء الذين يقيمون المجالس ممن يدرسون في النجف عن كيفية الدخول للحوزة ، وأعيش ذكرياتها مع مطالعة الكتب الدينية التي مهما قرأت منها أحس نفسي على حافة الأفكار والبحوث ، ولم يتسن لي معرفة مستنداتها وعلى أي ركيزة كانت أساسياتها والرؤى التي تنطلق منها ، وإن كنت لا أخلو من تضخم الأنا في بعض الأحيان الذي يوعز لي بالثقافة والاطلاع!

و شغف الاطلاع هذا أثر كثيراً على دراستي الأكاديمية ، كما أن رغبتي كانت في دراسة أخرى ، وبقائي في الدراسة الأكاديمية لتجنب الخدمة العسكرية ليس إلا ، والحمد لله تجنبتها وما ارتديت البدلة العسكرية لحظة واحدة ، وإن كنت قد تعرضت لظروف أصعب وأشد منها بكثير .

وبسبب الدراسة في الحوزة أعرضت عن وظيفة كانت متاحة لي بكل بسهولة في وزارة النفط وبحمد الله لم أندم على ذلك ولم أنتظر أن تتاح لي فرصة مماثلة لها حيث في السنين الأولى من سقوط صدام التقيت بصديق كان معي في الثالث متوسط ، كان متديناً ومن أعز أصدقائي بعد أن نجحنا من الثالث افترقنا ولم أره بعدها إلا مصادفة ، قال لي الحمد لله أني رأيتك ، غداً صباحاً أنا ومعي اثنان نذهب إلى بغداد نعرف شخصاً يُعيننا في النفط وأنت ستكون معنا وهذه فرصة لن تتكرر ، إلا أنه استغرب من الرفض ، وأخذ يصر حتى يأس ، لأنها لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة التي رفضت فيها التعين وإنما رفضت التعيين في وزارات أخرى أيضاً.

 وبكل تأكيد يوجد من القراء من يؤاخذني على هذا الرفض ، ولكن الناس فيما يعشقون مذاهب ، منهم من يقدم طلب العلم على المال ، ومنهم من يقدم المال ، ومنهم من يرى أن الأمر لا يستوجب رفض كهذا ، كل بحسب فكره وطموحه ، ومقدار ما يراه في نظره لمذهب أهل البيت عليهم السلام من استحقاق للتضحية والتفاني ، وقصر العمر  في سبيله ، وتعلم معارف الأئمة الأطهار صلوات الله وسلامه عليهم.     

وبعد أشهر قليلة شاءت الأقدار أن أراه مرة أخرى ولربما كانت هي المرة الأخيرة وقال لي معاتباً ألم أقل لك أن تأتي معنا ، تعينا في النفط ولو كنت معنا لتعينت ، ولو أني تعينت في وقتها لكنت الآن بنفس المستوى والتفكير آنذاك الذي غيرت منه سنون الحوزة الكثير وفتقت لي رؤى في المعارف الدينية لم أبصرها من ذي قبل ، ووضعت بين يدي آليات وبصائر للخوض في أبواب أصول الدين وفروعه.

هذه بعض الذكريات والنزر اليسير من المصاعب التي تلقيتها في هذا الطريق ولولا أني مشغول باللمسات الأخيرة من كتاب (المتفق عليه من مناقب الزهراء في مصادر الفريقين) وكتاب (التصوف والعرفان) و (التجويد في منظار الشرع)  لكتبت فيها قصةً على منوال (أمنيات القراءة في سن السابع عشر عاما) التي يمكن تنزيلها من النت.

والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على خير خلقه أجمعين محمد وآله الطيبين الطاهرين .

اللهم لا تحرمنا من ظلال أمير المؤمنين صلواتك عليه ما بقي الليل والنهار..

هشام كاظم

النجف الأشرف

27 ذو الحجة 1441هـ الموافق 17/آب/2020م

هذا المقال كتبته نحو سنتين والآن هذه الكتب مطبوعة بفضل الله وكرمه وصدر بعدها:(الإمداد الغيبي في الدعاء) (التيار الفلسفي في حوزة قم المقدسة) (ذكريات مع كتاب الحكمة المتعالية) (تربية الأبناء في سلوك الآباء) (الإمام الحسين ما بين الإمامة والشهادة)

للتواصل من خلال الفيس بوك

https://www.facebook.com/rqesad/