الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (24) الإنسان الكامل
الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (24)
الإنسان الكامل
ذكر ابن أبي جمهور في المجلي مصطلح الإنسان الكامل وخصائصه في مواضع متفرقة ؛ فمن ضمن ما ذكره : (قالوا : وكذلك إذا أراد أن يشاهد نفسه في المرآة الكاملة الذاتية الجامعة يشاهدها في الإنسان الكامل بالفعل وفي غير الكامل بالقوة لأنه مظهر الذات الجامعة لا غير)([1]).
ومن ضمنه : (ولذلك قيل: إن الإنسان الكامل لابد أن يسري في جميع الموجودات كسريان الحق فيها، وذلك في السفر الثالث الذي من الحق إلى الخلق بالحق وعند هذا السفر يتم كماله وبه يحصل له حق اليقين من المراتب الثلاثة، ومن هنا تبين أن الآخرية عين الأولية)([2]).
ونقل أيضا كلام ابن العربي في سريان الإنسان الكامل : (قال الشيخ في الفتوحات: إن الكامل الذي أراد الله أن يكون قطب العالم وخليفة الله فيه إذا وصل إلى العناصر متنزلاً إلى السفر الثالث ينبغي أن يشاهد جميع ما يريد أن يدخل في الوجود من الأفراد الإنسانية إلى يوم القيامة، وبذلك الشهود أيضاً لا يستحق المقام حتى يعلم مراتبهم أيضاً ، فسبحان من دبر كل شيء بحكمته وأتقن كل ما صنع برحمته)([3]).
إن مصطلح (الإنسان الكامل) وما قيل فيه من خصائص ومزايا ترجع جذوره إلى قدماء الصوفية مثل الحلاج ، يقول ماجد فخري : (يعود مفهوم الإنسان الكامل الذي خلقه الله على صورته ومثاله إلى الحلاج)([4]).
وذكر أبو العلاء عفيفي أن الحلاج كان له الأثر الكبير في وضع معتقد : (الإنسان الكامل) الذي عُرف عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي : (كان للحسين بن منصور الحلاج أعظم من استشهد في الطريق الصوفي في أوائل القرن الرابع الهجري أكبر الأثر في وضع أساس النظرية الفلسفية الصوفية التي عرفت عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي بنظرية الإنسان الكامل ، وقُدِّر لها أن تلعب دوراً هاماً في تاريخ التصوف الإسلامي منذ عهدهما . فالحلاج أول من تنبه إلى المغزى الفلسفي الذي تضمنه الأثر اليهودي المشهور القائل بأن الله تعالى خلق آدم على صورته ، أي على الصورة الإلهية ، وبنى على هذا الأثر نظريته في الحلول مفرِّقاً بين ناحيتين مختلفتين في الطبيعة الإنسانية هما اللاهوت والناسوت . وهما في نظره طبيعتان لا تتخذان أبداً ، بل تمتزج إحداهما بالأخرى كما تمتزج الخمر بالماء . وهكذا اعترف الحلاج لأول مرة في تاريخ الإسلام بتلك الفكرة التي أحدثت فيما بعد انقلاباً بعيد المدى في الفلسفة الصوفية : أعني فكرة تأليه الإنسان واعتباره نوعاً خاصاً من الخلق لا يدانيه في لاهوتيته نوع آخر .أخذ ابن عربي هذه الفكرة الحلاجية ، ولكنه اعتبر اللاهوت والناسوت مجرد وجهين لا طبيعتين منفصلتين لحقيقة واحدة ، إذا نظرنا إلى صورتها الخارجية سميناها ناسوتاً ، وإن نظرنا إلى باطنها وحقيقتها سميناها لاهوتاً . فصفتا اللاهوت والناسوت بهذا المعنى صفتان متحققتان ، لا في الإنسان وحده ، بل في كل موجود من الموجودات ، مرادفتان لصفتي الباطن والظاهر أو لكلمتي الجوهر والعرض . والحق الذي يتجلى في جميع صور الوجود يتجلى في الإنسان في أعلى صور الوجود وأكملها . ولذا ظهرت فيه هاتان الصفتان ظهوراً لا يدانيه فيه موجود آخر . على هذا الأساس بنى ابن عربي نظريته في الإنسان ومنزلته من الله والخلق)([5]).
والإنسان الكامل لدى الصوفية غير مختص بالأنبياء وإنما يعم الأنبياء والأولياء ، يقول عبد الرزاق الكاشاني (ت:730هـ) في اصطلاحات الصوفية : (الشيخ : هو الإنسان الكامل في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة ، البالغ إلى حد التكميل فيها ؛ لعلمه بآفات النفوس وأمراضها وأدوائها ، ومعرفته بذواتها ، وقدرته على شفائها والقيام بهداها ، إن استعدت ووفقت لاهتدائها)([6]).
ويقول أبو العلاء عفيفي أن المراد بالإنسان الكامل يشمل الأنبياء والأولياء عند ابن عربي : (الإنسان الكامل وإن كان مرادفاً للجنس البشري في معظم أقوال ابن عربي ، لا يصدق في الحقيقة إلا على أعلى مراتب الإنسان وهي مرتبة الأنبياء والأولياء . وأكمل هؤلاء على الإطلاق هو النبي محمد لا محمد النبي المبعوث ، بل الحقيقة المحمدية أو الروح المحمدي ، فإنه هو المظهر الكامل للذات الإلهية والأسماء والصفات . ومن هنا كانت طبيعته ثلاثية فردية . فهو الفرد الأول الذي تجلى الحق فيه ، وأول الأفراد الثلاثة)([7]).
والسيد الطباطبائي عقد رسالة (الولاية) في الإنسان الكامل ولم يخصص كمالاته وخصائصه في الأنبياء والأئمة عليهم السلام دون سواهم حيث يقول : (الإنسان في سيره إلى الحق سبحانه لا بد أن يعبر من جميع مراتب الأفعال والأسماء والذوات ، حتى ينال التوحيدات الثلاثة .وحيث إنه لا ينال مرتبة من مراتب كماله إلا بفنائه وبقاء ذلك الكمال في المحل ، فهو في كل مرتبة واقف على مجرى جميع أنواع الفيوضات المترشحة من تلك المرتبة إلى ما دونها متحقق به ، حتى ينال توحيد الذات ، ولا يبقى له اسم ولا رسم ، والملك يومئذ للّه)([8]).
وأيضا جوادي آملي يقول : (لقب الشيخ يُطلق على الإنسان الكامل الذي وصل في علوم الشريعة والطريقة والحقيقة إلى حد تكميل الآخرين)([9]).
والإنسان الكامل لدى ابن عربي وغيره من الصوفية يصطلح عليه بعدة مصطلحات ويعبرون عنه بعدة تعبيرات مثل : (القطب)([10]) و (الولي)([11]).
وعندما تلاحظ ما ذكره جوادي آملي تجده عين ما قال به عبد الرزاق الكاشاني ، ولم يكن هذا بالشيء الغريب لأن عرفاء الشيعة ينقلون ويأخذون ممن سبقهم من العرفاء ، إلا أن الشيء الملاحظ أن عرفاء الشيعة المشهورين في السنين المتأخرة كل واحد منهم لديه بحث مستقل في الإنسان الكامل مثل السيد الطباطبائي([12]) والشيخ مرتضى مطهري والشيخ جوادي آملي وحسن زاده آملي وغيرهم ويوجد فيهم من يعنون كتابه بالمرادف للإنسان الكامل كالولاية والخلافة ونحو ذلك ، وعامة الناس وحتى الكثير من الخواص عندما يطالعون هذه الكتاب يحسبونها من البحوث القرآنية أو الكتب الأخلاقية ولم يعرفوا أنها تتحدث عن المعتقدات القديمة لدى الصوفية وسطعت بشكل بارز عند ابن عربي ، وأن عبد الكريم الجيلي الذي هو من صوفية القرن الثامن الهجري كتب فيه كتاباً مستقلاً بعنوان : (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل).
إن عرفاء العامة والشيعة كتبوا في (الإنسان الكامل) وهذا المصطلح وما كتبوا فيه عند السيد شهاب الدين المرعشي هو مزخرف تأويلات ، ومن الكشف الخيالي والأحلام والأوهام حيث يقول في تعليقه على شرح إحقاق الحق : (وسعوا فلسفة التصوف بمقالات مبنية على مزخرف التأويلات والكشف الخيالي والأحلام والأوهام ، فألفوا الكتب المتظافرة الكثيرة ككتاب التعرف ، والدلالة ، والفصوص ، وشروحه ، والنفحات ، والرشحات ، والمكاشفات ، والإنسان الكامل ، والعوارف ، والمعارف ، والتأويلات ونحوها من الزبر والأسفار المحشوة بحكايات مكذوبة ، وقضايا لا مفهوم لها البتة ، حتى ولا في مخيلة قائليها كما أن قارئيها أو سامعيها لا يتصورون لها معنى مطلقا وإن كان بعضهم يتظاهر بحالة الفهم ويقول بأن للقوم اصطلاحات لا تدرك إلا بالذوق الذي لا يعرفه إلا من شرب من شرابهم وسكر من دنهم وراحهم)([13]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) مجلي مرآة المنجي،ج2،ص662.
[2] ) مجلي مرآة المنجي،ج4،ص1503.
[3] ) مجلي مرآة المنجي،ج4،ص1504.غير موجود في الفتوحات وذكره ابن عربي في الفصوص شرح القيصري،ص119.
[4] ) تاريخ الفلسفة الإسلامية،ص343. روى الشيخ الصدوق في معنى الخبر عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا عليه السلام : يا ابن رسول الله إن الناس يروون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الله خلق آدم على صورته ، فقال : قاتلهم الله ، لقد حذفوا أول الحديث ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر برجلين يتسابان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبح الله وجهك ووجه من يشبهك ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك ، فإن الله عز وجل خلق آدم على صورته.التوحيد،ص153. فلم يكن معنى الخبر كما هو شائع لدى العامة والصوفية من إرجاع الضمير في : (صورته) إلى الله عز وجل وإنما المراد أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام على صورة الرجل في ذلك الخبر.
[5] ) التعليق على فصوص الحكم،ج1،ص35.
[6] ) اصطلاحات الصوفية،ص38.
[7] ) التعليق على فصوص الحكم،ج1،ص37.
[8] ) الولاية،ص61.
[9] ) نداء التوحيد،ص97.
[10] ) القطب : اصطلاحا: عند الصوفية (الإنسان الكامل) أو (الحقيقة المحمدية) والإنسان الكامل هو (القطب الحسي) كما أن (الحقيقة المحمدية) هي (القطب المعنوي).موسوعة المفاهيم الإسلامية،ج1،ص532.
[11] ) يقول أبو العلاء عفيفي : (قد يستعمل ابن عربي كلمة (الإنسان الكامل) مرادفة لكلمة (ولي) بهذا المعنى ، فالأنبياء أولياء لأنهم فوق معرفتهم الكاملة بالله يعلمون شيئاً من عالم الغيب . والرسل أولياء لأنهم يجمعون بين معرفتهم الكاملة با لله وبين العلم الخاص بالشرائع التي أرسلوا بها . والنبوة والرسالة تنقطعان لأنهما مقيدتان بالزمان والمكان ، أما الولاية فلا تنقطع أبداً ، لأن المعرفة الكاملة بالله لا تحد بزمان أو مكان ولا تتوقف على أي عامل عرضي .وهناك فرق آخر وهو أن العلم الشرعي يوحى به إلى الرسول على لسان المَلك ، أما العلم الباطن عند الولي سواء أكان رسولًا أو نبياً أو محض ولي ، فهو إرث يرثه الولي من خاتم الأولياء الذي يرثه بدوره من منبع الفيض الروحي).التعليق على فصوص الحكم،ج2،ص24.
[12] ) يمكن ملاحظة ذلك في رسالة : (الولاية) بشكل واضح في الفصل الخامس من الرسالة المذكورة ، وإليك بعض الفقرات التي تدل على أن ما ذكره يدور في فلك الصوفية لاسيما الإنسان الكامل ولا توجد مثل هذه الأفكار في الشرع ولا عند المتشرعة ، وهي أشبه ما تكون بالأوهام التي لا واقع لها :
ــــ (الإنسان في سيره إلى الحق سبحانه لا بد أن يعبر من جميع مراتب الأفعال والأسماء والذوات ، حتى ينال التوحيدات الثلاثة .وحيث إنه لا ينال مرتبة من مراتب كماله إلا بفنائه وبقاء ذلك الكمال في المحل ، فهو في كل مرتبة واقف على مجرى جميع أنواع الفيوضات المترشحة من تلك المرتبة إلى ما دونها متحقق به ، حتى ينال توحيد الذات ، ولا يبقى له اسم ولا رسم ، والملك يومئذ للّه).الولاية،ص61.
ـــ (مقامات الأولياء وخاصة أسرارهم مع اللّه سبحانه ، حيث إن ولاية أمرهم للّه سبحانه ، وقد فنت أسماؤهم ورسومهم فيه تعالى ، لا يمكن الإحاطة بها . وقد قال سبحانه : [وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً].وكفى لهم شرفا أن ولاية أمرهم للّه سبحانه ، وهو المربي لهم ، والمبشر لهم ، قال سبحانه : (أَلَا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ].الولاية،ص62
من الأمور الملاحظة في الرسالة هو أن بعض الآيات والأخبار جيء بها في موضع التدليل والاستشهاد وهي لا تدل على ما أُريد التدليل به عليه.
ـــ (الجلال والإكرام جامعان لصفات الجلال والجمال جميعا ، فلا يشذّ عنهما صفة من صفاته العليا ، ولا اسم من أسمائه الحسنى فهؤلاء متمكنون بينها وفيها ، لا اسم لهم ولا رسم إلّا صفاته وأسمائه سبحانه ، وارتفع الحجاب ، إذ لم يبق منهم ولا معهم ولا دونهم شيء ولا غير وجهه ذي الجلال والإكرام شيء) الولاية،ص64
ــــ (تحصل من الجميع أن من مواهب اللّه في حقهم إفنائهم في أفعالهم وأوصافهم وذواتهم . فأول ما يفنى منهم الأفعال ، وأقل ذلك على ما ذكره بعض العلماء ستة : الموت ، والحياة ، والمرض ، والصحّة ، والفقر ، والغنى . فيشاهدون ذلك من الحقّ سبحانه كمن يرى حركة ، ولا يشاهد محركها ، وهو يعلم به) الولاية،ص69
ــــ (..ثم يفنى منهم الذات ، وينمحي الاسم والرسم ، ويقوم الحق سبحانه مقامهم) الولاية،ص72
[13] ) شرح إحقاق الحق،ج1،ص185.