الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي27قاعدة الواحدلايصدر عنه إلا الواحد

 

الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (27)

قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد

 نقل ابن أبي جمهور قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد مقراً بها حيث ذكر أثناء كلامه في المجلي : (بناءً على أن لا يصدر من الواحد إلا الواحد)([1]).

وفي موضع آخر من المجلي قال بجواز صدور الكثرة عن الواحد بشروط : (لا نمنع من جواز تعدد معلولات الواحد مطلقاً ، بل إنما  منعناه من حيث كونه واحداً من جميع جهاته لما شرطنا أولاً من أن ذلك مع عدم ملاحظة تعدد قوابله وآلاته فحينئذٍ إذا عرض للواحد الحقيقي كثرة إضافية جاز تعدد معلولاته)([2]).

إن قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد من حيث كونه واحداً من جميع جهاته ، أو جواز صدور الكثرة منه بشرط عروض الكثرة الإضافية ، لا دليل أي منهما شرعاً ، بل من المعاني  الباطلة ؛ لأن قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد من القواعد الفلسفية المعروفة والرائجة في كتب الفلاسفة ، ومفادها أن الله عز وجل لا يمكنه إلا أن يخلق الصادر الأول ثم يخلق منه سائر المخلوقات . وهي مذهب الفلاسفة والمعتزلة كما نقل الخواجة الطوسي عن الفخر الرازي في (تلخيص المحصل) المعروف بنقد المحصل  : (العلة الواحدة يجوز أن يصدر عنها أكثر من معلول واحد عندنا خلافاً للفلاسفة والمعتزلة)([3]).

وترجع أصولها إلى فلسفة الفرس الثنويين حيث يقول آقا بزرك الطهراني : (الواحد لا يصدر منه إلا الواحد من الأصول الفلسفية عند الثنويين الفرس القدماء ، وتخلصا منه جاء النؤأفلاطونيون في الإسكندرية بنظرية العقول العشرة لإثبات التوحيد وعنهما أخذ الإشراقيون الصوفيون من المسلمين القائلين بوحدة الوجود وألفوا في الموضوع رسائل متعددة)([4]).

وقد ذهب ملا صدرا والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والشيخ محمد حسين الأصفهاني الكمباني والسيد الطباطبائي لقاعدة الواحد خلافاً للخواجة الطوسي والعلامة الحلي :

تبنى الملا صدرا قاعدة الواحد في أسفاره معنونا أحد فصولها : (في أن البسيط الذي لا تركيب فيه أصلاً لا يكون علة لشيئين بينهما معية بالطبع) وأخذ في الدفاع عن القاعدة وإبطال المؤاخذات عليها في نفس الفصل المذكور تحت عنوان : (شك وإزالة)([5]).

والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء([6]) وصفها بالقاعدة الجليلة وأن توحيد للحق وما يليق به لا يتم إلا بهذه القاعدة حيث يقول:(هذه القاعدة الجليلة هي من مهمات المسائل الحكمية وأمهاتها وإن ناقش فيها بعض الحكماء والأكابر من المتقدمين والمتأخرين،ولكن حقاً أقول إن التوحيد الحق لحضرة الحق جل وعلا وما يليق بوحدانية ذاته المقدسة الأحدية بل أصل وجوب الوجود للواجب تعالى شأنه لا يتم إلا بهذه القاعدة)([7]).

وممن تبنى واسطة الفيض (الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد) الشيخ محمد حسين الأصفهاني الكمباني : (مما ذكرنا يظهر أن كيفية ولاية النبي صلى الله عليه وآله والأئمة (صلوات الله عليهم) وسلطنتهم المعنوية على جميع الموجودات من هذا القبيل ، نظرا إلى أنهم وسائط الفيض ومجاريها([8]) ، وفي رتبة فاعل ما به الوجود لا ما منه الوجود ، وبهذا الاعتبار بهم يتحرك المتحركات وتسكن السواكن ، فالولاية بهذا المعنى ليست اعتبارية ، على حد ولاية الله تعالى)([9]).

ويقول أيضا : (إن سلطنته تعالى على خلقه حقيقة لا اعتبارية ، وهي الإحاطة الفعلية الوجودية التي لا زوال لها ، لاستحالة استقلال الممكن بالوجود ، وكذا ولاية النبي والأئمة (صلوات الله عليهم) بمعنى وساطتهم في الفيض وكونهم مجاري فيض الوجود ، فإن زوالها مستحيل وإلا لزم أصالة الموجود بالتبع ، وكون الممكن الأخس في عرض الممكن الأشرف)([10]).

والسيد الطباطبائي عقد الفصل الرابع من المرحلة الثامنة في نهاية الحكمة لإثبات القاعدة تحت عنوان : (في أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد)([11]).

وقال أيضا في الفصل العشرين من المرحلة الثانية عشرة:(قد تحقق في مباحث العلة والمعلول أن الواحد لا يصدر منه إلا الواحد ، ولما كان الواجب تعالى واحداً بسيطاً من كل وجه، لا يتسرب إليه جهة كثرة لا عقلية ولا خارجية ، واجدا لكل كمال وجودي وجداناً تفصيلياً في عين الإجمال ، لا يفيض إلا وجوداً واحداً بسيطاً له كل كمال وجودي لمكان المسانخة بين العلة والمعلول)([12]).

ولكن الخواجة الطوسي لم يتبن القاعدة عند كلامه في أدلة الجوهر المجرد قائلاً : (وأدلة وجوده مدخولة كقولهم الواحد لا يصدر عنه أمران ولا سبق لمشروط باللاحق في تأثيره أو وجوده وإلا لما انتفت صلاحية التأثير عنه لأن المؤثر هيهنا مختار)([13]) .

والعلامة الحلي أيضا ذهب إلى بطلان قاعدة الواحد عند شرحه لقول الخواجة : (عمومية العلة تستلزم عمومية الصفة) أقول : يريد بيان أن الله تعالى قادر على كل مقدور وهو مذهب الأشاعرة وخالف أكثر الناس في ذلك فإن الفلاسفة قالوا إنه تعالى قادر على شيء واحد لأن الواحد لا يتعدد أثره وقد تقدم بطلان مقالتهم([14]).

وأيضا مما قاله العلامة الحلي في إبطال قاعدة الواحد قوله : (يلزم لو كان المؤثر موجباً ، وأما إذا كان مختارا فلا فإن المختار تتعدد آثاره وأفعاله وسيأتي الدليل على أنه مختار)([15]).

ومما قاله العلامة في إبطال قاعدة الواحد : (المؤثر إن كان مختاراً جاز أن يتكثر أثره مع وحدته ، وإن كان موجباً ذهب الأكثر إلى استحالة تكثر معلوله باعتبار واحد وأقوى حججهم أن نسبة المؤثر إلى أحد الأثرين مغايرة لنسبته إلى الآخر فإن كانت النسبتان جزئية كان مركباً وإلا تسلسل وهي عندي ضعيفة لأن نسبة التأثير والصدور تستحيل أن تكون وجودية وإلا لزم التسلسل وإذا كانت من الأمور الاعتبارية استحالت هذه القسمة عليها)([16]).

لو أن أحد العلماء أو الفضلاء رد على : (قاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد) لقالوا عنه لم يفهم المقصود كما هو المعروف عند أصحاب الاتجاه الفلسفي فإن أول ما يردون به على منتقديهم أن يرموهم بعدم الفهم . ولا أدري هل يسعهم رمي الخواجة الطوسي والعلامة الحلي بعدم الفهم للقاعدة ؟!

وليكن معلوماً لدى المؤالف والمخالف للفلسفة على حد سواء أن كل القواعد والمطالب الفلسفية يوجد عليه نقض من نفس الفلاسفة إلا ما شذ وندر ، وهذا الاستثناء أيضاً لا يخلو من كلام ، ومن طرائف الملا صدرا أنه طعن على الفخر طعناً شديداً لكونه لم يتبن قاعدة الواحد قائلاً في كلامه : (أليس ذلك غياً وضلالاً وحمقاً وسفاهةً)([17]).

إن  قاعدة الواحد مع عدم الدليل عليها تسلب القدرة والاختيار عن الله عز وجل([18]) وليس له إلا أن يخلق مخلوقاً يتكاثر الخلق منه :   

يقول السيد حسن اللواساني (ت:1400هـ) : (وأنه سبحانه يُنشئ بالقدرة الكاملة ما يختار لعباده من مصالحهم ، خلافاً لبعض الملاحدة من الفلاسفة في قولهم باضطراره تعالى في وقوع الحوادث المختلفة في الكون ، ودعواهم أنّه لم يصدر منه جلّ وعلا إلاّ العقل الأوّل ؛ احتجاجاً بأنّ الواحد البحت البسيط لا يصدر منه إلاّ الواحد ، وأنّه لا يمكن تعدد أثره . ولكنّك خبير : بأنّ ذلك على تقدير تسليمه إنّما يتمّ في المؤثّر المضطرّ في ترتّب أثره عليه ، نظير النار والحرارة مثلا حيث إنها بذاتها علّة لوجود أثرها ، ولا يمكن اختلاف الأثر مع وحدة الذات . وأمّا في القادر المختار المنبعث فعله من إرادته وقدرته على طرفي الوجود والعدم كليهما لا من نفس ذاته وحدها فلا ، ولا موقع للتوهم المذكور كما هو واضح)([19]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) مجلي مرآة المنجي،ج1،ص145.

[2] ) مجلي مرآة المنجي،ج1،ص465.

[3] ) تلخيص المحصل،ص237.

[4] ) الذريعة إلى تصانيف الشيعة،ج25،ص5.

[5] ) الحكمة المتعالية،ج2،ص168 .

[6] ) الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء لديه تأثر في الفلسفة والعرفان ، وهو من المؤيدين للفلاسفة والعرفاء ، ولا يذكر رموزهم إلا بالإجلال والإكبار ، ومن المدافعين عن مطالبهم ومتبنياتهم . ويرى أن جميع مطالب الفلاسفة مأخوذة من أهل البيت عليهم السلام : (اعلموا بالقطع واليقين أن أغلب مطالب الحكماء بل جميعها مأخوذة من كلمات أرباب الوحي وأمناء العصمة سلام الله عليهم) الفردوس الأعلى،ص42.

ويرى أن مطالب الفلاسفة مساعدة لفهم كلمات أهل البيت عليهم السلام إذ يقول : (الظاهر بل اليقين أن أقوى المساعدات وأعد الأسباب والموجبات للوصول إلى مقاصد أمناء الوحي وكلمات الأنبياء والأوصياء عليهم السلام إنما هو فهم كلمات الحكماء المتشرعين) الفردوس الأعلى،ص42.

ويثني على وحدة الوجود وابن عربي ناعتاً إياه بالنبوغ : (الذي طفح وطغى في كلمات العرفاء الشامخين ومشايخ الصوفية السالكين والواصلين هو وحدة الوجود ووحدة الموجود أيضاً ، وكانت هذه الكلمة العصماء يلوح بها أكابر العرفاء والأساطين في القرون الأولى كالجنيد والشبلي ، وأبا يزيد البسطامي ، ومعروف الكرخي ، وأمثالهم حتى وصلت إلى الحلاج وأقرانه إلى أن نبغ في القرون الوسطى محي الدين العربي وتلميذاه القونوي والقيصري  فجعلوها فناً من الفنون والمؤلفات الضخام كالفتوحات المكية وغيرها ، والمتون المختصرة كالفصوص والنصوص التي شرحها ونقحها صدر الدين القونوي ، وانتشرت وعند عرفاء القرون الوسطى من العبر كابن الفارض وابن عفيف التلمساني وغيرهما).الفردوس الأعلى،ص208

ويرى ابن عربي ممن رفع الأستار عن الأسرار : (قد رفع الكثير منهم حجب الأستار عن هذه الأسرار حتى إن محيي الدين العربي عبر عن كل هذا بتغيير كلمة في البيت المشهور وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد فقال : (تدل على أنه عينه).الفردوس الأعلى،ص211

ويبرر قول : (أنا الحق) ونحوه بتوغل الغرام وتوقد شعلة المعرفة فلم يضبطوا عقولهم أي أن أصل إشكاله عند التلفظ وإذاعة الأسرار كما عبر المبررون لهذه الأقوال : (إن بعض المتطرفين المتوغلين في الغرام والهيام والشوق إلى ذلك المقام الأسمى قد توقدت شعلة المعرفة في قلوبهم فلم يستطيعوا ضبط عقولهم وألسنتهم فصدرت منهم شطحات لا تليق بمقام العبودية مثل قول بعضهم : (أنا الحق) (وما في جبتي إلا الحق) وأعظم منها في الجرأة والغلظ والشطط قول بعضهم : (سبحاني ما أعظم شأني) وهذه الكلمات قد حملها الثابتون منهم على أنها صدرت من البعض حالة المحو لا حالة الصحو ، وفي مقام الفناء في الذات ، لا في مقام الاستقلال والثبات ، ولو صدرت في غير هذه الحال لكانت كفراً ، على أن المنقول عن الحلاج  أنه قال للذين اجتمعوا على قتله اقتلوني فإن دمي لكم مباح لأني قد تجاوزت الحدود ومن تجاوز الحدود (أقيمت عليه الحدود) ولكن العارف الشبستري التمس العذر لهذه الشطحات وجملها على أحسن وجه.الفردوس الأعلى،ص218

هذه بعض الشواهد على تأثره الفلسفي والعرفاني ولست بصدد استقصائها وتفصيلها.

[7] ) الفردوس،ص37.

[8] ) مما يجدر الالتفات إليه وعدم إغفاله أنه يوجد فرق واضح وكبير بين أن الخير يكون بسبب أهل البيت عليهم السلام وبين أن الخير لا بد أن يمر من خلال أهل البيت عليهم السلام . وبعبارة أخرى : يوجد فرق بين بواسطتهم يُنشر الخير وبين بواسطتهم يمر الخير  ــ الذي هو مفاد معتقد الفلاسفة ــ وهو من المعتقدات الباطلة ويعد من الغلو لأنه من التجاوز في منزلة أهل البيت عليهم السلام.

وواسطة الفيض بهذا المعنى من معتقدات الفلسفات الدخيلة على الإسلام وإن حاول الفلاسفة لا سيما فلاسفة الشيعة اجترار النصوص وتأييدها بشكل تعسفي لا يدلل إلا على أنهم اعتقدوا بها واستسقوها من غير الدين ثم أرادوا التدليل عليها بعد الاعتقاد.وتمام التفصيل في كتاب : (النمرقة الوسطى ما بين الغلو والتقصير) عند عنوان : (معنى نزول الخير بواسطة أهل البيت).

[9] ) حاشية كتاب المكاسب،ج1،ص39.

[10] ) حاشية كتاب المكاسب،ج1،ص48.

[11] ) نهاية الحكمة،ص214.

[12] ) نهاية الحكمة،ص381.

[13] ) تجريد الاعتقاد،ص185.

[14] ) كشف المراد،ص308.

[15] ) كشف المراد،ص186.

[16] ) كشف المراد،ص116.

[17] ) الحكمة المتعالية،ج2،ص170.

[18] ) في كتاب : (الأوهام الفلسفية) تطرقتُ لما يناسب قاعدة الواحد تحت عنوان : (العقول العشرة) وبعض التفسيرات للأخبار التي تبطل هذه القاعدة الفلسفة من أساس.

[19] ) نور الأفهام في علم الكلام،ج1،ص81.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.