في بداية دخول الطالب للحوزة يكون همه في ترتيب دروسه وتوفير السكن له والإنفاق فيما
في بداية دخول الطالب للحوزة يكون همه في ترتيب دروسه وتوفير السكن له والإنفاق فيما يمكن سد احتياجاته اليومية ولكن بعد عشر سنوات أو عشرين سنة تتغير همومه ورغابته وهو يرى زملاءه من وفِق في جانب التدريس ومنهم في مجال الخطابة وآخر في البحث والتأليف ومنهم أصبح وكيلا لأحد المراجع وأدى دوره في خدمة منطقته ببيان الأحكام الشرعية والتدخل في قضاء حوائجهم وإصلاح ذات بينهم .. إلى غير تلك الوظائف التي يمكن للطالب من خلالها أن يؤدي دوره وينشر ما تعلمه حتى لا يكون عالة على الحوزة.
نعم تتغير همومه وهو يرى نفسه بعد تلك السنين الطوال مجردا عن أي دور يمكنه القيام به ؛ فإذا كان متدينا خالص النية يخشى الله عز وجل من كل محذور يُعد فيه خائنا لوظيفته يبقى منشغلا في الدراسة حتى يفتح الله له بابا في التبليغ وأداء دوره الذي جاء من أجله فقد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام (لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان) نهج البلاغة
ولربما كان من لطف الله به أن يذوده عن تلك الأدوار لأنه غير مؤهل لها حتى ينضج ويشتد بناؤه.وما أكثر ألطاف الله بعبده التي يجهلها ــ في الديوان المنسوب لأمير المؤمنين عليه السلام : كم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي ــ بل قد يكون متذمرا متهما الله في قضائه إزائها!
وأما إذا كان غير متدين ومتهاون في دينه ينزلق بأدنى فتنة ويرمي نفسه هاويا فيها فتجده في جماعة ضالة تدعي النيابة والأباطيل ، أو ضمن تكتل لم يجنِ منه الدين والدنيا إلا الفتن والمحن ، أو أنه يلتجأ لتحضير الجن ويحسب نفسه من خواص الله الذين أطلعهم على أسراره وكرامته ، وقد ينحى مسلك العلوم الغريبة ويُصدر نفسه كمعالج روحاني ، وقد يظهر بعنوان عارف يأخذ بأيدي المريدين إلى ساحة القدس بعد ما ضاقت عليه آفاق الأدوار وكلت يداه عن وصال كل منال ، أو تطاوعه نفسه على بث الشبهات في الدين والمذهب وإثارة الشكوك فيهما بعد ما تخلف عن أقرانه ولم يظفر بشيء مما نالوا فيأسف على سنين عمره التي قضاها في طي الكتب والجهد والتدقيق في فهم عبارتها ويثور منتقما لسنين عجاف لم ينل منها مبتغاه.
وهذه هي عادة الشخص الذي ليس للتقوى محلا في سجيته يفسد الدين والدنيا معا أين ما حل وارتحل ، سواء كان في الحوزة أم في غيرها بل إن الطالب في الحوزة مهما تقلد من مناصب وشؤون لا يشعر بقيمتها ولذتها إذا لم تكن خشية الله سجيته ورضا الله وقربه غايته ، وحينها يرى عمله مهنة يمتهنها كغيرها من الحرف والمهن .