خرافات فلسفية (16) خرافة العقول العشرة
خرافات فلسفية (16)
خرافة العقول العشرة
إن العقول العشرة ولك أن تسميها بخرافة الفيض والصدور مبنية على قاعدة : (الواحدة لا يصدر منه إلا الواحد) إذ بعد ما التزموا بهذه القاعدة اضطروا إلى بيان كيفية إمكان صدور الكثير من الواحد . والعقول العشرة منبثقة طوليا على قول المشاء ــ خلافا للإشراق ــ فمن العقل الأول صدر العقل الثاني ومن الثاني صدر العقل الثالث وهكذا يتفرع اللاحق عن السابق حتى صدور العقل العاشر من العقل التاسع ؛ يقول الشيخ جعفر السبحاني : إن الإسماعيلية استخدمت في تطبيق تلك النظرية ، على ما تتبناه من تطبيق الدعوة الدينية على عالم التكوين نظرية الفلسفة اليونانية في كيفية حصول الكثرة في العالم ، ولم يكن الهدف في استخدام نظريتهم ، في بيان صدور الكثرات من الواحد البسيط ، إلا تطبيقها على الدعوة الدينية ، حتى يكون لكل ظاهر باطن . توضيحه : أثبتت البراهين الفلسفية أنه سبحانه واحد ، بسيط من جميع الجهات ، لا كثرة فيه ، لا خارجاً ولا عقلًا ، ولا وهماً ثم إنهم بعد البرهنة على تلك القاعدة ، وقعوا في مأزق وهو أنه كيف صدرت من الواحد البسيط – الذي لا يصدر عنه إلا الواحد – هذه الكثرات في عالم العقول ، والأفلاك ، والأجسام ؟
ذهب أرسطو وتلاميذه ، ومن تبعهم من المسلمين كالفارابي والشيخ الرئيس ، إلى أنّ الصادر منه سبحانه واحد ، وهو : العقل الأول ، وهو مشتمل على جهتين : جهة لعقله لمبدئه ، وجهة إضافته إلى ماهيته . فبالنظر إلى الجهة الأولى صدر العقل الثاني ، وبالنظر إلى الجهة الثانية صدر الفلك الأول ونفسه ، الذي هو الفلك الأقصى . وصدر من العقل الثاني لهاتين الجهتين ، العقل الثالث ، والفلك الثاني مع نفسه ، الذي هو فلك الثوابت . ثم صدر من العقل الثالث لهاتين الجهتين ، العقل الرابع ، والفلك الثالث مع نفسه ، الذي هو فلك زحل .وبهذا الترتيب ، صدر العقل الخامس والفلك الرابع ، الذي هو فلك المشتري ، إلى أن وصل عدد العقول إلى عشرة ، وعدد الأفلاك مع نفوسها تسعة . وتبنى المذهب الإسماعيلي ، الذي هو مذهب ذو صبغة فلسفية يونانية هذه النظرية مع اختلاف يسير في التعبير لا غير ، والفكرة الرئيسية عندهم واحدة .
فمثلاً يعبّر الداعي الكرماني عن العقل الأول بالمبدع ، كما يعبّر عن العقل الثاني بالمنبعث الأول ، وكلا المسلكين يشتركان في أنه يبتدئ الصدور بالعقل الأول ، الذي تسميه فلسفة المشاء بالعقل الأول ، والمذهب الإسماعيلي بالمبدع الأول ، وتنتهي بالعقل الفعال ، ويتوسط بين العقل الأول والعقل الفعال سلسلة العقول ، والأفلاك الأُخرى…ثم إن المهم تطبيق هذه الدرجات الكونية على درجات الدعوة الدينية عند الإسماعيلية ، فقد جعلوا لكل ظاهر باطناً ، ولكل درجة كونية درجة دينية ، وإليك جدولاً يوضح ذلك :
1 – العقل الأول / الناطق .
2 – العقل الثاني / الفلك الأقصى / الأساس .
3 – العقل الثالث / فلك الثوابت / الإمام .
4 – العقل الرابع / فلك زحل / الباب .
5 – العقل الخامس / فلك المشتري / الحجة .
6 – العقل السادس / فلك المريخ / داعي البلاغ .
7 – العقل السابع / فلك الشمس / الداعي المطلق .
8 – العقل الثامن / فلك زهرة / الداعي المحدود .
9 – العقل التاسع / فلك عطارد / المأذون المطلق .
10 – العقل العاشر / فلك القمر / المأذون المحدود ، وربما يُطلق عليه المكاسر والمكالب . هذا عرض موجز عن الدرجات الدينية للدعوة ، وأما تفسيرها فإليك بيانها إجمالاً :
1 – الناطق : وله رتبة التنزيل .
2 – الأساس : وله رتبة التأويل .
3 – الإمام : وله رتبة الأمر .
4 – الباب : وله رتبة فصل الخطاب .
5 – الحجّة : وله رتبة الحكم فيما كان حقاً أو باطلاً .
6 – داعي البلاغ : وله رتبة الاحتجاج ، وتعريف المعاد .
7 – الداعي المطلق : وله رتبة تعريف الحدود العلوية والعبادة الباطنية .
8 – الداعي المحصور ، أو المحدود : وله رتبة تعريف الحدود السفلية والعبادة الظاهرة .
9 – المأذون المطلق : وله رتبة أخذ العهد والميثاق .
10 – المأذون المحدود : وله رتبة جذب الأنفس المستجيبة ، وهو المكاسر([1]).انتهى
إن المشاء قالوا بالترتب الطولي بين العقول العشرة خلافا للإشرقيين الذين قالوا بالترتب العرضي كما نقل ذلك الخلاف آقا علي الطهراني قائلا : (المشاؤون القائلون بوجود العقول العشرة الطولية يعنى أن واحداً منها علة للآخر لا العرضية ، و الاشراقيون قد اثبتوا العرضية أيضا و هم تبعة افلاطون ، و سمّاها افلاطون بالمثل الالهية ، و لذا نسبت إليه ، و قيل المثل الافلاطونية ، وبه قال أرسطو في اثولوجيا أيضا)([2]).
وحكاية العقول العشرة ترجع أصولها إلى فلسفة الفرس الثنويين كما يقول الشيخ آقا بزرك الطهراني : (الواحد لا يصدر منه إلا الواحد من الأصول الفلسفية عند الثنويين الفرس القدماء ، وتخلصا منه جاء النؤأفلاطونيون في الإسكندرية بنظرية العقول العشرة لإثبات التوحيد وعنهما أخذ الإشراقيون الصوفيون من المسلمين القائلين بوحدة الوجود وألفوا في الموضوع رسائل متعددة)([3]).
والشيخ محمد جواد البلاغي يرى القول بالعقول العشرة مبنيا على التقليد الأعمى لمزاعم أوهام اليونان : (الفارق بين الاعتراف بحقيقة الإلهية وبين المزاعم المستحيلة في مسألة العقول العشرة المبنية على التقليد الأعمى للفلسفة اليونانية ومزاعم أوهامها)([4]).
ويقول الشيخ البلاغي أيضاً : ومن المؤلم والمؤسف أن اسم الحكمة شاع استعماله مثلما سمي اللديغ سليما بالفلسفة اليونانية ومنها مزاعم العقول العشرة تلك المزاعم التي جحدت مقام اللَّه الجليل في الإلهية بنحو لم تجرأ عليه الوثنية بل هي عبارة مموهة عن الطبيعة إذ لم تسمح للَّه إلا بأنه علل العقل الأول بالتعليل الطبيعي بلا إرادة منه ولا اختيار فلا إرادة ولا خلق ولا مشيئة له أيضاً في غير العقل الأول من الموجودات ولا سنخية ولا ربط خلافاً لدلالة العقل والقرآن الكريم على أن اللَّه خالق الخلق بمشيئته وأن العالم صادر عن خلق وإرادة . إن التشبثات لهذه المزاعم مردودة بالحل والنقض ولزوم التناقض وسخافة ابتنائها في عدد العقول على موهومات الهيئة القديمة في الأفلاك([5]).
ويقول الميرزا القمي (ت:1231هـ) صاحب القوانين : (حكاية العقول العشرة وطريقة الفلاسفة فإن ذلك بدأ من نحوسة المأمون الملعون حيث أراد أن يثبت عدم أهلية الإمام الرضا عليه السلام للإمامة فجمع من علماء اليهود والنصارى والصابئين والمجوس وغيرهم وحينما غلبهم الإمام ع طلب المأمون كتب الفلاسفة من سلطان الروم فأرسلها إليه فأمر المأمون بترجمتها إلى العربية ونشروها بين الناس لعل الناس يتراجعون عن الإمام الرضا ع وبمقتضى مقولة أن الناس على دين ملوكهم مال الناس إلى طلب هذه العلوم وقد مشى السلاطين اللاحقون على درب السابقين ورغب الناس فيها تقربا إلى الحكام حتى آل الأمر إلى أن ظن الحمقى من الطلبة أن العلم منحصر فيها وأصروا على ذلك واستخفوا بقواعد الشرع والدين إلى الحد الذي قد يبلغ عمر أحدهم الستين أو السبعين وهو لا يعرف شيئا من أحكام العبادات . وببركة جهود ثلة من علمائنا في العصور الأخيرة الذين نصحوا ملوك زمانهم وحذروهم من خطر هذه العقائد ، وهن أمر أولئك وأصبحت الأمور على ما يرام والحمد لله . والآن حيث وصلت الدولة والسلطة إلى سلطاننا ــ الذي هو صفوة ملوك الدهر وصاحب العقائد الحقة وناشر الدين والمذهب ــ حاول بعض شياطين الأنس أن يفسدوا عقيدته ويستميلوه إلى طريقتهم الباطلة لكي تفسد عقيدة الناس بمقتضى مقولة الناس على دين ملوكهم)([6]).
إن القول بالعقول العشرة المتفرعة على قاعدة الواحد مع عدم الدليل عليها تسلب القدرة والاختيار عن الله عز وجل وليس له إلا أن يخلق خلقا يتكاثر الخلق منه وقد تقدم نقل كلام السيد حسن اللواساني (ت:1400هـ) فيما يخص ذلك : (وأنه سبحانه يُنشئ بالقدرة الكاملة ما يختار لعباده من مصالحهم ، خلافاً لبعض الملاحدة من الفلاسفة في قولهم باضطراره تعالى في وقوع الحوادث المختلفة في الكون ، ودعواهم أنه لم يصدر منه جل وعلا إلا العقل الأول ؛ احتجاجاً بأن الواحد البحت البسيط لا يصدر منه إلا الواحد ، وأنه لا يمكن تعدد أثره . ولكنك خبير : بأن ذلك على تقدير تسليمه إنما يتم في المؤثر المضطر في ترتّب أثره عليه ، نظير النار والحرارة مثلا حيث إنها بذاتها علة لوجود أثرها ، ولا يمكن اختلاف الأثر مع وحدة الذات . وأما في القادر المختار المنبعث فعله من إرادته وقدرته على طرفي الوجود والعدم كليهما لا من نفس ذاته وحدها فلا ، ولا موقع للتوهم المذكور كما هو واضح)([7]).
والسيد محمد صادق الروحاني يرى العقول العشرة مجرد فرضية لا برهان عليها : (العقول العشرة التي تبناها المشاؤون من الفلاسفة وتبعهم الإشراقيون ؛ لتصحيح صدور الكثير عن الواحد ، ولكنها مجرد فرضية لا برهان عليها)([8]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) بحوث في الملل والنحل،ج8،ص262ـ265.
[2] ) مجموعه مصنفات حكيم،ج ٣،ص283.
[3] ) الذريعة إلى تصانيف الشيعة،ج25،ص5.
[4] ) رسالة في البداء،ص24.
[5] ) آلاء الرحمن في تفسير القرآن،ج1،ص237.
[6] ) رسالة : (رد بر صوفية ووحدت وجود).
[7] ) نور الأفهام في علم الكلام،ج1،ص81.
[8] ) أجوبة المسائل في الفكر والعقيدة والتاريخ والأخلاق، ج ٢، ص ٧٧