خرافات فلسفية (32) خرافة العكوف على الفلسفة بذريعة الحكمة ضالة المؤمن

خرافات فلسفية (32)

خرافة العكوف على الفلسفة بذريعة الحكمة ضالة المؤمن

إن من الأمور التي ساقها أتباع المنحى الأرسطي في تصحيح منحاهم الفلسفي وتشبثوا بها كثيرا في مؤلفاتهم : (الحكمة ضالة المؤمن) فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله : (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها)([1]).

والشهيد الثاني   في (منية المريد) روى الخبر المتقدم بعد ما قال : (أن لا يستنكف من التعلم والاستفادة ممن هو دونه في منصب أو سن أو شهرة أو دين أو في علم آخر ، بل يستفيد ممن يمكن الاستفادة منه ، ولا يمنعه ارتفاع منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه ، فتخسر صفقته ويقل علمه ويستحق المقت من الله تعالى)([2]).

مما يعني فسره بالتواضع في طلب العلم ممن هو دونه. والفيض الكاشاني  فسرها بهذا المعنى أيضا : (يعني لا يأنف من أخذها عمن هو دونه في العلم فربما يوجد عند الأدنى ما لا يوجد عند الأعلى وفي التعبير عن الحكمة بالضالة إشارة إلى أنها مركوزة في فطرة المؤمن فإذا جهلها فكأنها ضلت عنه)([3]).

ووالد العلامة المجلسي رحمهما الله المعروف بالمجلسي الأول فسرها بنفس المعنى : (أي لا ينبغي أن يلاحظ المتكلم بل يجب أن يلاحظ الكلام فإذا وجد ضالته من الحكم والعلوم والمعارف فليعرفها إلى المسترشدين فإنها ضالتهم أيضا)([4]).

وروي عن أمير المؤمنين ع : (خذ الحكمة ممن أتاك بها وانظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال)([5]).

وفي روضة الكافي عن الإمام الصادق ع : (الحكمة ضالة المؤمن ، فحيثما وجد أحدكم ضالته فليأخذها)([6]).

وهذه الأحاديث ونظائرها مما لم أتعرض لذكرها اختلف في تفسيرها لأنها تحتمل معاني عديدة كما يقول العلامة المجلسي : (لحكمة ضالة المؤمن) هذه الكلمة قد وردت في كثير من الأخبار الخاصية والعامية واختلف في تفسيرها ، فقد قيل : إن المراد أن المؤمن لا يزال يتطلب الحكمة كما يتطلب الرجل ضالته ، قاله في النهاية . وقيل : إن المراد إن المؤمن يأخذ الحكمة من كل من وجدها عنده ، وإن كان كافرا أو فاسقا ، كما أن صاحب الضالة يأخذها حيث وجدها ، وهو الظاهر في هذا الخبر ، وقيل : المراد أن من كان عنده حكمة لا يفهمها ولا يستحقها يجب أن يطلب من يأخذها بحقها كما يجب تعريف الضالة ، وإذ وجد من يستحقها وجب أن لا يبخل في البذل كالضالة([7]).

ولكن بالرغم من كون هذه الأحاديث تمتد لمعاني عديدة إلا أنها لا تضم معنى الركون والعكوف على الأباطيل توخيا للحكمة ، بل حتى لو قلنا أنها تحتمل هذا المعنى مع كونه بعيدا جدا ولا يمكن القول به كان الأجدر الركون للطرق المستقيمة المليئة بالنور والحكمة .

وببيان آخر : إن المتبادر من الأحاديث الشريفة هو أخذ الحكمة فيما لو صدرت من أي شخص كان غير مقيدة بإيمان القائل سواء كان مؤمنا أم كافرا على حد سواء ، ولا يعني العكوف على كتب الأوهام والضلال بغية الظفر بالحكمة إذ لا دلالة للحديث على هذا المعنى ، والقرآن الكريم يوعز لإتباع من يدعو إلى الحق ومجانبة من لم تكن له قابلية الهداية : [أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ]([8]) فما بالك في من يدعو للضلال في رؤية القرآن الكريم ! بكل تأكيد الرؤية القرآنية لم ترتضه وتدعو لمجانبته ، ولا قيمة للحكمة المبعوثة في أكناف ضلاله حتى يأمر القرآن الكريم بملازمته وإتباعه  . والأحاديث أيضا واضحة في نبذ أهل الانحراف والبدع ولا ترتجي الحكمة المبعوثة منهم . ومضافا لذلك أن العقل يأنف الركون لمصادر الجهل والأباطيل في سبيل الظفر بحكمة منشودة من هنا وهناك.

وعلى هذا يكون المراد من الحكمة ضالة المؤمن هو أن يأخذ بها فيما لو اتفق صدورها ، ومما يدلل على هذا المعنى تتمة الخبرين المتقدمة :

(فحيث وجدها فهو أحق بها)

(خذ الحكمة ممن أتاك بها)

والمتبادر من الحديث المتقدم عن أمير المؤمنين ع بقرينة : (خذ الحكمة ممن أتاك بها).

وليس التتلمذ والعكوف  على الأوهام والأباطيل حتى يأخذ الحكمة فيما لو صدرت منهم . ولا يخفى أن الميزان في معرفة الحكمة وتشخيصها هو ميزان الثقلين إذ كيف نعرف أنها حكمة ما لم توزن بضياء نورهما ؛ فهما الميزان الذي يوزن به ويميز الصحيح من السقيم.

والخلاصة : أن الحكمة ضالة المؤمن بمعنى هو أحق بأخذها فيما لو اتفق صدورها من الكافر وغيره ، وعلم التوحيد والمعارف الدينية لا تؤخذ إلا من أهل بيت النبوة ، وما سوى ذلك من العلوم التجريبية والفلكية ..لا مانع من العكوف على أخذها من أي كان . بل لا يبعد شمول الأحاديث لهذا المعنى.

ومما يثير غرابة الوله الحيران أن يُترك طريقا مليئا بالحكمة والمعرفة ويُسلك طريقا معوجا من أجل حكمة يحتمل الوقوف عليها .

ثم ما بالكم في الأحاديث التي تدل على نبذ وبطلان ما ورد عن غير أئمة الهدى صلوات الله عليهم وهي أحاديث كثيرة من ضمنها ما روي عن أمير المؤمنين ع في وصيته لكميل بن زياد عليه الرحمة : (يا كميل لا تأخذ إلا عنا تكن منا)([9]).

وعن يونس بن ظبيان ، عن الإمام الصادق ع في حديث قال : (لا يغرنك صلاتهم وصيامهم ورواياتهم وعلومهم فإنهم حمر مستنفرة . ثم قال : يا يونس إذا أردت العلم الصحيح فعندنا أهل البيت ، فإنا ورثنا وأوتينا شرع الحكمة وفصل الخطاب)([10]).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) بحار الأنوار،ج2،ص101.

[2] ) منية المريد،ص173.

[3] ) الوافي،ج1،ص402.

[4] ) روضة المتقين،ج13،ص22.

[5] ) غرر الحكم،ص361.

[6] ) الكافي،ج8،ص167.

[7] ) مرآة العقول،ج26،ص36.

[8] ) سورة يونس : 35

[9] ) تحف العقول،ص182.

[10] ) كفاية الأثر في النص على الأئمة الاثني عشر،ص258.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.