تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (6)
تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (6)
من الآيات التي استدلوا بها على تجسم الأعمال :
الآية السابعة :
[إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ][أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ]([1])
الآية الثامنة :
[إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً]
قالوا إن الآيتين تدلان على أن الأموال المكتسبة عن هذا الطريق المحرّم، هي في الواقع نيران تدخل في بطونهم وستتجسم بشكل واقعي في الآخرة، وهما يدلان على أن الجزاء يوم الجزاء بنفس الأعمال وعينها
وبعبارة أخرى : صريح هاتين الآيتين أن ما يقترفه الإنسان من كتمان الحق أو التجاوز على أموال اليتامى ظلماً ، سيظهر في تلك النشأة بصورة النار في بطونهم ، إلا أن الصورة الظاهرية لهذه الأفعال في الحياة الدنيا لم تكن بالشكل المذكور ، وإنما في الواقع يظهر في الدنيا بصورة اللذات والنعيم الدنيوي . وعلى هذا يكون للأموال ظهورين ، الظهور الأُخروي يظهر منها بصورة تختلف تماما عن الظهور الدنيوي ، ولكن يوم القيامة تظهر الصورة الحقيقية والواقعية لتلك الأعمال والأموال المغتصبة.
يقول السيد الطباطبائي في قوله تعالى : [إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]([2]) في الآية من الدلالة على تجسم الأعمال وتحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان وأخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله : فما أصبرهم على النار ، والذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة للكتمان والبقاء عليها فافهم([3]).
ويقول أيضا وهو بصدد إثبات تجسم الأعمال : (ولعمري لو لم يكن في كتاب الله تعالى إلا قوله : [لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ]([4]). لكان فيه كفاية إذ الغفلة لا تكون إلا عن معلوم حاضر ، وكشف الغطاء لا يستقيم إلا عن مغطى موجود فلو لم يكن ما يشاهده الإنسان يوم القيامة موجودا حاضرا من قبل لما كان يصح أن يقال للإنسان أن هذه أمور كانت مغفولة لك ، مستورة عنك فهي اليوم مكشوف عنها الغطاء ، مزالة منها الغفلة . ولعمري أنك لو سئلت نفسك أن تهديك إلى بيان يفي بهذه المعاني حقيقة من غير مجاز لما أجابتك إلا بنفس هذه البيانات والأوصاف التي نزل بها القرآن الكريم . ومحصل الكلام أن كلامه تعالى موضوع على وجهين : أحدهما : وجه المجازاة بالثواب والعقاب ، وعليه عدد جم من الآيات ، تفيد : أن ما سيستقبل الإنسان من خير أو شر كجنة أو نار أنما هو جزاء لما عمله في الدنيا من العمل . وثانيهما : وجه تجسم الأعمال وعليه عدة أخرى من الآيات ، وهي تدل على أن الأعمال تهيئ بأنفسها أو باستلزامها وتأثيرها أمورا مطلوبة أو غير مطلوبة أي خيرا أو شرا)([5]).
والمناقشة في ذلك هو أن الآيتين جاءتا وفق الأساليب البلاغية في الاستعارة والكناية ، وأعربتا عن أكل النار في بطونهم تعبيرا عن استحقاقهم الدخول في النار والسقوط في عذابها جزاء على عصيانهم وكفرهم ، كما لو كانوا يأكلونها في بطونهم ، أو أنهم ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار. أي الأجر الذي أخذوه على الكتمان سمي بذلك ، لأنه يؤديهم إلى النار ، أو أن المقصود من هذه النار هي جزاء أعمالهم التي يحرقون فيها . أي إنما يأكلون في جهنم نارا جزاء على تلك الأعمال ، أو للتشبيه كأنهم لم يأكلوا إلا النار لأن ذلك يؤديهم إلى النار
وملخص الرد في ثلاثة أمور :
الأمر الأول : إن تفسير الآيتين على أحد المعاني الذي هو وفق المفهوم العرفي الذي يتبادر منهما والذي وهو وفق مداليل اللغة أيضا يبطل ما استدلوا به .
الأمر الثاني : لا ظهور ولا دلالة في الآيتين على أن الذي يأكلونه هو عملهم ينقلب حقيقة إلى نار ستبقى إلى يوم القيامة وهي ذاتها جزاؤهم يوم القيامة.
الأمر الثالث : ما جاء في حديث أهل البيت عليهم السلام يدل على تلك المعاني لا المعنى الذي ذهبوا إليه فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام : (من أكل مال أخيه ظلما ولم يرده إليه أكل جذوة من النار يوم القيامة)([6])
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى : [فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ] التي هي الآية التالية لآية : [مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ] قال عليه السلام : (ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار)([7]).
أي أن الفعل يؤدي بهم إلى النار لا أن نفس الفعل يتحول ويتجسم إلى النار ويكون ذات الجزاء يوم القيامة كما ذهب إليه أصحاب تجسم الأعمال.
الآية التاسعة :
[وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ]([8]).
وجه الاستدلال على تجسم الأعمال بحسب ما قالوا : إن الأموال التي لم تدفع لمستحقيها ستكون على شكل طوق تطوق به رقاب أصحابها في يوم القيامة ، أي أن تلك الأموال سوف تتجسم بصورة الأغلال والقيود ويطوّقون بها يوم القيامة .
ويلاحظ على ذلك أن الآية بصدد بيان جزاء العمل ، أي : يُلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق للعنق ، أو أن جزاء العمل يكون الطوق حقيقة ، كما روي عن محمد بن مسلم قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل : [سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] قال : ما من عبد منع من زكاة ماله شيئا إلا جعل الله له ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار يطوق في عنقه ، ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب ووهو قول الله عز وجل : [سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] قال : ما بخلوا به من الزكاة([9]) .
وعن محمد بن مسلم قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل : [سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] فقال : يا محمد ما من أحد يمنع من زكاة ما له شيئا إلا جعل الله عز وجل ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب ثم قال : هو قول الله عز وجل : [سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ] يعني ما بخلوا به من الزكاة([10]).
وعنه عليه السلام : (ما من عبد يمنع درهما في حقه إلا أنفق اثنين في غير حقه وما رجل يمنع حقا من ماله إلا طوقه الله عز وجل به حية من نار يوم القيامة)([11]).
وسواء كانت الآية مورد الكناية أو الحقيقة أي الله تعالى يطوق صاحب العمل بثعبان من نار لا تدل على التجسم حيث لا دلالة فيها على أن ذلك الثعبان تجسد وتحول من ذات العمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) سورة البقرة : 174ـ175.
[2] ) سورة البقرة : 174.
[3] ) الميزان،ج1،ص460.
[4] ) سورة ق : 22
[5] ) الميزان،ج1،ص92.
[6] ) أصول الكافي،ج2،ص333.
[7] ) أصول الكافي،ج2،ص269.
[8] ) سورة آل عمران:180.
[9] ) الكافي،ج3،ص504.
[10] ) الكافي،ج3،ص502.
[11] ) الكافي،ج3،ص504.