الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (1)

الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (1)

في آراء العلماء وما قيل فيه من مدح وذم

إن بعض العلماء أثنوا عن ابن أبي جمهور الأحسائي وردوا النقد عليه في تهمة ميله للفلسفة والتصوف مثل السيد شهاب الدين المرعشي والميرزا حسين النوري :

 السيد المرعشي :

يقول السيد المرعشي في رسالة (الردود والنقود)([1]) : (وأما اشتماله إلى روايات عرفانية ، وفيه([2]) أن نظائرها موجودة في الكتب الحديثية المشهورة ، فليعامل معه نحو المعاملة مع تلك الكتب ، مضافا إلى أن باب التأويل واسع . وأما الإشعار بالغلو ، فالجواب عن هذا الاعتراض هو الجواب عن سابقيه نقضاً وحلاً …وأما النقود المتوجهة إلى صاحب الكتاب فأمور …وأما كونه من الصوفية : فنسبة هذه لصيقة إلى الرجل البريء مما نسب إليه وظلم في حقه ، والفرق بين العرفان والتصوف غير خفي على المحققين فحينئذ تلك الكلمة والنسبة فرية بلا مرية . وأما نسبة الفلسفة إليه فغير ضائر أيضاً ، إذ الفلسفة علم عقلي ، برع فيه عدة من علماء الإسلام كشيخنا المفيد والشريف المرتضى والمحقق الطوسي والعلامة الحلي والسيد الداماد والفاضل السبزواري والمولى على النوري والمولى محمد إسماعيل الخواجوي الأصفهاني وشيخنا البهائي والسيد محمد السبزواري المشتهر بميرلوحي جد الشاب المجاهد الشهيد السيد مجتبى الشهير  بالنواب الصفوي والقاضي سعيد القمي والمتأله السبزواري وصدر المتألهين الشيرازي والمحدث الكاشاني ، وغيرهم الذين جمعوا بين العلوم النقلية والعقلية وهم في أصحابنا مئات وألوف ، وعلم كل شيء خير من جهله . فإن كان ذلك شينا فيتوجه النقد إليهم ، أيضا مع أنهم بمكان شامخ في العلم والعمل والزهد والورع والتقى ، ولا يستلزم العلم بشيء الاعتقاد به وعقد القلب عليه ، جزاهم الله عن الدين خيرا)([3]).

ولكن يوجد أمران لا بد من الالتفات إليهما في كلام السيد المرعشي :

الأمر الأول : إن ابن أبي جمهور لم يكن مستعرضا للمطالب الفلسفية من غير تبنيه لها ، وإنما تبنى بعض المتبنيات الفلسفية المخالفة للدين مثل قوله بقدم العالم ، ولو لم يكن من معتقداته إلا هذا لكفى مسوغا في انتقاد العلماء له .

ولا يخفى أن بعض من ذكرهم السيد المرعشي لا شك في كونه من الفلاسفة والصوفية مثل السيد الداماد وملا صدرا والقاضي سعيد القمي والمتأله السبزواري صاحب المنظومة . وتبني جملة ممن ذكرهم لمعتقدات الفلاسفة والصوفية التي تتنافى مع الدين لا ريب فيه وحينئذٍ يكون النقد متعينا في حقهم ومنه يظهر مدى اعتبار دفاع السيد المرعشي عن ابن أبي جمهور.

الأمر الآخر : إن الصوفية يسمون بالعرفاء وعين مطالب التصوف منتشرة باسم العرفان فلم تكن مغايرة إلا في الاسم والمعنى الشائع باسم العرفان هو التصوف لا غير ؛ ولذا السيد المرعشي في تعليقه على شرح إحقاق الحق بعد ذكره لكلام طويل في ذم التصوف اعتصم بالله من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوف : (عصمنا الله وإياكم من تسويلات نسجة العرفان وحيكة الفلسفة والتصوف)([4]).

وقد يكون في بداية ظهور التصوف كانت تسمى به ثلة خاصة منهم ــ بمعنى كل عارف هو متصوف وليس كل متصوف هو عارف ــ وبعد ذلك أُطلقت على عموم الصوفية وأصبح كل الصوفية تُسمى وتعرف بالعرفاء والصوفية على حد سواء كما يقول ابن سينا : (المعرض عن متاع الدنيا وطيباتها يخص باسم الزاهد والمواظب على فعل العبادات من القيام والصيام ونحوهما يخص باسم العابد والمتصرف بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يخص باسم العارف وقد يتركب بعض هذه مع بعض)([5]).

وعند التدقيق في كلمات ابن سينا يقصد أن التصوف هو الجانب العملي للعرفان ، والعرفان هو الجانب النظري للتصوف .

والسيد الخميني في تدريسه للمنظومة تحت عنوان : (الفرق بين التصوف والعرفان) يرى العرفان هو الجانب النظري للتصوف ، والتصوف هو الجانب العملي للعرفان ، أو القول بأن مفاهيم معينة بلحاظها النظري تسمى عرفانا وبلحاظها العملي تسمى تصوفا  حيث يقول : ‌(فائدة اصطلاحيه:صوفيه وعرفا وتصوف وعرفان كه كثيراً ما زبانزد ماست،بسا فرق بين موارد استعمال آنها رعايت نمى‌شود، با اينكه تفاوت هست؛ چون عرفان به علمى گفته مى‌شود كه به مراتب احديت وواحديت وتجليات به گونه‌اى كه ذوق عرفانى مقتضى آن است، پرداخته واز اينكه عالم ونظام سلسله موجودات، جمال جميل مطلق وذات بارى است بحث مى‌نمايد وهر كسى كه اين علم را بداند به او عارف گويند.كسى كه اين علم را عملى نموده، وآن را از مرتبه عقل به مرتبه قلب آورده ودر قلب داخل نموده است، به او صوفى گويند، مانند علم اخلاق، واخلاق عملى كه ممكن است كسى علم اخلاق را كاملًا بداند ومفاسد ومصالح اخلاقى را تشريح نمايد، ولى خودش تمام اخلاق فاسده را دارا باشد به خلاف كسى كه اخلاق علمى را در خود عملى كرده باشد)([6]).

ما ترجمته : العرفان : علم يبحث عن مراتب الأحدية والواحدية، وتجلياته تعالى الذي يقتضيه الذوق العرفاني، وإن العرفان يهتم بأن العالم ونظام سلسلة الموجودات هو جمال الجميل المطلق وجمال ذات الباري تعالى، وكل من يعلم هذا العلم فهو العارف.الصوفي: هو الذي يعمل بهذا العلم ويجعل منه -العلم- عمله وسلوكه ونسكه، وينزل هذا العلم من مرتبة العقل إلى مرتبة القلب، ويدخله إلى قلبه. هذا الرجل هو الصوفي.

ولكن الشيخ مرتضى مطهري يرى أن لا فرق بين معنى التسميتين وكل منهما يُطلق على نفس الجماعة إلا أنهم إذا ذكروا في المعرفة دُعوا بالعرفاء وإذا ذكروا في أمر اجتماعي دُعوا بالمتصوفة : (أهل العرفان إذا ذكروا في معرض المعرفة دُعوا بالعرفاء ، وإذا ذكروا في معرض أمر اجتماعي دُعوا بالمتصوفة)([7]).

وعلى هذا لم يكن التميز والتفرقة إلا في اللفظ دون حقيقة الجماعة وتوجههم.

وقد يكون الصوفية بلحاظ الظاهر ، والعرفاء بلحاظ الباطن كما يقول الشيخ محمد هادي معرفة  : (من هو العارف ومن هو الصوفي ؟ كلاهما تعبيران عن شخصية واحدة تجمع بين صفاء الباطن وزهد في ظاهر الحال . وإنما يقال له (الصوفي) باعتبار تقشفه في الحياة والاقتصار على أقل المعيشة وفي جشوبة في المأكل والملبس ، وكان من مظاهرها ملابس الصوف الخشنة تجاه ملابس الحرير الناعمة . فكان هذا النعت كناية عن تنسكه وتزهده في مزاولة الحياة …أما الوصف بالعرفان فلعرفانه الباطني وخلوصه في السير والسلوك إلى الله ومثابرته في سبيل معرفة الذات المقدسة وقربه منه تعالى .. فذاك وصف لظاهر الحال ، وهذا نعت لصفاء الباطن وعرفانه لمقام الذات)([8]).

 الميرزا النوري :

في خاتمة المستدرك أثنى الميرزا النوري عليه : (الشيخ الجليل الفقيه العارف النبيل محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي)([9]).

وقد دافع عنه فيما نسب إليه من ميله للفلسفة والتصوف : (اطلاعه وكمال معرفته بعلم الفلسفة وحكمتها ، وعلم التصوف وحقيقته ، فغير قادح في جلالة شأنه ، فإن أكثر علمائنا من القدماء والمتأخرين قد حققوا هذين العلمين ، ونحوهما من الرياضي ، والنجوم ، والمنطق ، وهذا غني عن البيان ، وتحقيقهم لتلك العلوم ونحوها ليس للعمل بأحكامها وأصولها ، والاعتقاد بها ، بل لمعرفتهم بها ، والاطلاع على مذاهب أهلها)([10]).

ونفس التعليق على كلام السيد المرعشي يجري فيما ذكره الميرزا النوري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) الرسالة هي تقديم لإحدى طبعات كتاب (عوالي الآلي) لابن أبي جمهور الأحسائي،وقد تضمنت رد مجموعة من نقود العلماء له ، ومن ضمنها رد نسته للتصوف.

[2] ) أي ما يردُ على أن فيه روايات عرفانية.

[3] ) رسالة الردود والنقود،ج1،ص40ـص44.

[4] ) شرح إحقاق الحق،ج1،ص185.

[5] ) الإشارات والتنبيهات،ج٣،ص٣٧٣.

[6] ) تقريرات فلسفة(تقرير عبد الغني الأردبيلي)،ج2،ص 156.

[7] ) الكلام والعرفان،ص65.

[8] ) التمهيد في علوم القرآن،ج10،ص423.

[9] ) خاتمة المستدرك،ج2،ص158.

[10] ) خاتمة مستدرك الوسائل،ج1،ص344.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.