الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (30) الجنة صورية ومعنوية
الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (30)
الجنة صورية ومعنوية
ذهب جمع من الفلاسفة والصوفية إلى أن الجنة والنار معنويتان تبعاً لروحانية المعاد ، وابن أبي جمهور أقر بما ذهبوا إليه من أن الجنة معنوية ، وإن كان هو لا ينكر وجود جنة جسمانية بحسب ما يظهر من كلامه ، أي أنه يقر بوجد جنة مادية وأخرى معنوية حيث يقول : (الجنة الصورية التي قال تعالى فيها : [وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ]([1]). فقال النبي صلى الله عليه وآله : (يعطى كل مؤمن يوم القيامة من الجنة مثل الدنيا سبع مرات)([2]). وجنة يكون عرضها بهذه المثابة فكيف حال طولها ؟ ويعطى منها كل مؤمن سبع مرات مثلها ، فكيف تكون سعة تلك الجنة ؟ وإذا فرضنا هذا في الجنة الصورية فكيف يكون حال الجنة المعنوية التي هي فوقها بمراتب متعددة، بل بمراتب غير متناهية ؛ لقوله : [وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا]([3]). والجنات من أعظم نعم الله تعالى، وكل ما يتصور الإنسان دنياً وآخرةً فهو من نعمته تعالى كما قال تعالى: [وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً]([4]) ، وعلى جميع التقادير ليست قابلة للحصر والعد والانتهاء والانقطاع. وبالنسبة إلى الجنة الصورية والمعنوية ورد عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال : (الجنة أشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة)([5]) . ومراده أن الجنة الصورية أشوق إلى سلمان من سلمان إليها ؛ لأن سلمان كان في الجنة المعنوية فارغاً عن الجنة الصورية، والجنة المعنوية هي التي ورد فيها : (إن لله جنة ليس فيها حور ولا قصور ولا لبن ولا عسل، بل يتجلى فيها ربنا ضاحكاً متبسماً)([6]) . وقوله صلى الله عليه وآله : (سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)([7]). إشارة إلى أن هذه المشاهدة في هذه الجنة. وكذلك في الحديث القدسي: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)([8]). إشارة إليها، وكذلك قوله تعالى: [فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ]([9]). والغرض من هذا كله أن العالم المحسوس المعبّر عنه بالأرض وما فيها وما عليها من البحور والأشجار كقطرة بالنسبة إلى هذه العوالم، وأن الكلمات الإلهية الثابتة في كتب الله تعالى الآفاقية والأنفسية الدائمة أزلاً وأبداً غير متناهية صورة ومعنًى، فكيف يمكن نفادها وانتهاؤها)([10]).
وملا صدرا في رسائله اقتبس ما ذكره الأحسائي من قوله : (الجنة التي الصورية…إلى قوله : كلمات الله الإلهية)([11]).
إن من الفلاسفة والعرفاء الذين أنكروا جسمانية الجنة والنار ملا صدرا حيث يقول : (فتحقق وتبين من جميع ما ذكرناه ونقلناه أن الجنة الجسمانية عبارة عن الصور الإدراكية القائمة بالنفس الخيالية مما تشتهيها النفس وتستلذها ولا مادة ولا مظهر لها إلا النفس وكذا فاعلها وموجدها القريب وهو هي لا غير وأن النفس الواحدة من النفوس الإنسانية مع ما تتصوره وتدركه من الصور بمنزلة عالم عظيم نفساني أعظم من هذا العالم الجسماني بما فيه وأن كل ما يوجد فيها من الأشجار والأنهار والأبنية والغرفات كلها حية بحياة ذاتية وحياتها كلها حياة واحدة هي حياة النفس التي تدركها وتوجدها… وبالجملة حقيقة جهنم وما فيها هي حقيقة الدنيا ومشتهياتها تصورت للنفوس الشقية بصورة مؤلمة معذبة لها محرقة لأبدانها مذيبة للحومها وشحومها مبدلة لجلودها مشوهة لخلقتها مسودة لوجوهها)([12]).
وأيضا الشيخ حسن زاده آملي من الفلاسفة الذين ذهبوا إلى روحانية الجنة والنار : (إن الحكم الحكيم عند المحقق أن الجنة والنار في الأرواح أي في النفوس الإنسانية ، وغيره متوهم بأن تلك الأرواح في الجنة والنار)([13]).
والسيد مصطفى الخميني مال إلى أقوال الفلاسفة والصوفية قائلاً : (قد صرح الشيخ الإلهي([14]) في موضع من كتابه : هما مخلوقتان غير مخلوقتين، وقال رئيس الحكمة المتعالية في كتابه الكبير – بعد نقل كلام بعض العرفاء تحت عنوان “ذكر تنبيهي” – قال : وفيه تأييد لما قلناه من أن جهنم ليست من حيث كونها دار العذاب بما له وجود حقيقي بل منشؤها وجود الضلال والعصيان في النفوس ، حتى أنه لو لم تكن معصية بني آدم لما خلق الله النار.انتهى. وبالجملة : كلماتها صدرا وذيلا صريحة في إنكار وجود جوهري تمتاز ، خارج عن النفوس البشرية ، وواقع في وعاء من أوعية العالم المعبر عنه بما سوى الله تعالى ، فإن العالم عندنا عند الإطلاق هو ما سوى الله ، فيشمل بقضها وقضيضها ، عقولها وحجارتها)([15]).
والسيد حيدر الآملي أقر بالجنة المعنوية والمادية معاً كما يظهر من كلامه : (الجنة المعنوية الإرثية بعد الجنة الصورية الكسبية أخبر النبي صلى اللّه عليه واله بقوله :(إن للّه تعالى جنة ليس فيها حور ولا قصور ولا عسل ولا لبن بل يتجلي فيها ربنا ضاحكاً متبسماً)([16]).
الآيات التي استُدل بها على أن للجنة والنار حقيقية جسمانية
توجد عدة آيات التي استُدل بها على أن للجنة والنار حقيقية جسمانية من ضمنها :
[وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ]([17]).
[وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ]([18]).
[فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ]([19]).
الأخبار التي تدل على جسمانية الجنة والنار
إن من الأخبار التي تدل على جسمانية الجنة والنار ما رواه الشيخ الصدوق في الخصال عند ما سأل اليهودي أمير المؤمنين عليه السلام : أين تكون الجنة ، وأين تكون النار ؟ قال : أما الجنة ففي السماء ، وأما النار ففي الأرض… قال : فما السبعة ؟ قال : سبعة أبواب النار متطابقات ، قال : فما الثمانية ؟ قال : ثمانية أبواب الجنة([20]).
عن الإمام الصادق عليه السلام : (ليس من شيعتنا من أنكر أربعة أشياء المعراج ، والمسألة في القبر وخلق الجنة والنار والشفاعة)([21]).
عن الإمام الرضا عليه السلام : (من أقر بتوحيد الله ونفى التشبيه ونزهه عما لا يليق به ، وأقر بأن له الحول والقوة والإرادة والمشية والخلق والأمر والقضاء والقدر وأن أفعال العباد مخلوقة خلق تقدير لا خلق تكوين ، وشهد أن محمداً رسول الله وأن علياً والأئمة بعده حجج الله ووالى أولياءهم واجتنب الكبائر ، وأقر بالرجعة والمتعتين وآمن بالمعراج والمساءلة في القبر والحوض والشفاعة وخلق الجنة والنار والصراط والميزان والبعث والنشور والجزاء والحساب فهو مؤمن حقاً ، وهو من شيعتنا أهل البيت)([22]).
وروى الشيخ الصدوق عن عبد السلام بن صالح الهروي أنه قال للإمام الرضا عليه السلام : يا بن رسول الله فأخبرني عن الجنة والنار أهما اليوم مخلوقتان ؟ فقال : نعم ، وأن رسول الله ’ قد دخل الجنة ورأى النار لما عرج به إلى السماء ، قال : فقلت له : إن قوماً يقولون : إنهما اليوم مقدرتان غير مخلوقتين ، فقال عليه السلام : ما أولئك منا ولا نحن منهم ، من أنكر خلق الجنة والنار فقد كذب النبي ’ وكذبنا ، ولا من ولايتنا على شيء ، ويخلد في نار جهنم ، قال الله عز وجل : [هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ][يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آَنٍ]([23]). وقال النبي ’ : (لما عرج بي إلى السماء أخذ بيدي جبرئيل فأدخلني الجنة فناولني من رطبها فأكلته فتحول ذلك نطفة في صلبي، فلما أهبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة ÷ ، ففاطمة حوراء إنسية ، وكلما اشتقت إلى رائحة الجنة شممت رائحة ابنتي فاطمة)([24]).
وعن محمد بن عيسى القمي ، قال : توجهت إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستقبلني يونس مولى ابن يقطين ، قال ، فقال لي : أين تذهب ؟ فقلت : أريد أبا الحسن ، قال ، فقال لي : أسأله عن هذه المسألة ، قل له خلقت الجنة بعد فإني أزعم أنها لم تخلق . قال : فدخلت على أبي الحسن عليه السلام ، قال : فجلست عنده ، وقلت له : أن يونس مولى ابن يقطين أودعني إليك رسالة ، قال : وما هي ؟ قال ، قلت : قال أخبرني عن الجنة خلقت بعد فإني أزعم أنها لم تخلق ؟ فقال : كذب فأين جنة آدم عليه السلام([25]).
عن ابن سنان ، قال ، قلت لأبي الحسن عليه السلام أن يونس يقول : إن الجنة والنار لم يخلقا ، قال ، فقال : ماله لعنه الله فأين جنة آدم([26]).
هذه بعض الأخبار التي تدل صريحاً على جسمانية الجنة والنار أما الأخبار التي تدل من خلال الالتزام فهي كثيرة جداً استقصى عدداً منها السيد هاشم البحراني في كتاب : (نزهة الأبرار ومنار الأنظار في خلق الجنة والنار).
إجماع المسلمين على جسمانية الجنة والنار
أجمع المسلمون لاسيما الشيعة الإمامية على حقيقة الجنة والنار وأن لهما وجوداً جسمانياً ، وقد ذكر الشيخ الصدوق من اعتقادات الشيعة الإمامية ذلك : (اعتقادنا في الجنة والنار أنهما مخلوقتان ،وأن النبي ’ قد دخل الجنة، ورأى النار حين عرج به . واعتقادنا أنه لا يخرج أحد من الدنيا حتى يرى مكانه من الجنة أو من النار ، وأن المؤمن لا يخرج من الدنيا حتى ترفع له الدنيا كأحسن ما رآها ويرى مكانه في الآخرة ثم يخير فيختار الآخرة فحينئذ تقبض روحه)([27]).
ويقول الشيخ المفيد إن الجنة والنار مخلوقتان وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع:(إن الجنة والنار في هذا الوقت مخلوقتان ، وبذلك جاءت الأخبار وعليه إجماع أهل الشرع والآثار ، وقد خالف في هذا القول المعتزلة والخوارج وطائفة من الزيدية ، فزعم أكثر من سميناه أن ما ذكرناه من خلقهما من قسم الجايز دون الواجب)([28]).
وقد ذهب جمهور الفلاسفة إلى عدم كونهما من الحقائق الخارجية الجسمانية كما ذكر ذلك محمد تقي القايني : (وأما الفلاسفة فالجمهور منهم لا يقولون بأن الجنة والنار من الموجودات الخارجية المتأصلة سواء قلنا بخلقتهما الآن أم لا بل يقولون بأنهما صورتا غضب ورحمة له تعالى فالجنة صورة رحمته وجهنم صورة غضبه وذهبوا إلى أنهما في هذه الدنيا كما لا يخفى على من مارس كلماتهم في هذا الباب ولازم هذا القول هو إنكار وجودهما مطلقاً إلا أنا أعرضنا عن ذكر دلائلهم وأقاويلهم وما ذكروه في كتبهم ولاسيما المطولات منها كالأسفار والفتوحات المكية وغيرهما حذراً من التطويل وخوفاً من فساد العقيدة بالنسبة إلى من لا يكون أهلاً لهذه الأبحاث ومستعداً لفهم الكلمات مضافاً إلى أنه لا نحتاج في هذا الموضوع المسلَّم عند الجمهور إلى نقل بعض الأقوال الذي لا توافقه الآيات والآثار وأما نحن فنقول بوجود الجنة والنار فعلاً وأنهما موجودان مستقلان في غير هذا العالم أعني عالم الآخرة تبعاً للآيات والأخبار)([29]).
رد العلماء على من أنكر الحقيقة الخارجية للجنة والنار
إن ابن أبي جمهور لم ينكر الجنة الجسمانية ، وإنما كان يقر بجنة معنوية غير الجنة الجسمانية كما يظهر من خلال كلامه ، ولكن لا بأس بالإشارة إلى ردود العلماء على من أنكر جسمانية الجنة والنار :
يقول العلامة المجلسي رحمه الله : (يجب الإذعان بالجنة والنار على حسب ما ورد عن صاحب الشرع معلوماً، وتأويلهما بالمعلومات الحقة والباطلة والأخلاق الحسنة والردية كفر وإلحاد، بل يجب الإذعان بكونهما مخلوقتين بالفعل، لا أنهم سيخلقان بعد ذلك، وقد ورد عن الرضا عليه السلام أن من أنكر ذلك، فهو منكر للآيات ولمعراج النبي وهو كافر)([30]).
السيد الكلبايكاني رحمه الله : (إن بعضاً ممن اعتنق تلك المبادئ الفاسدة ، والمذاهب والمقالات الكاسدة – التي أمضينا الكلام فيها – وغيرها قد يتمسك بآيات أو روايات ، فيفسرها بحيث تطابق تلك المعتقدات الباطلة ، فهنا نقول : قد يكون التفسير والتوجيه واضح الفساد والبطلان وأقبح من طرح الآية أو الرواية ، ومن هذا القبل قول بعض الفلاسفة إن المعاد روحاني والجنة والنار ليستا جسمانيتين وإن المراد من الجنة والنعم المعدة في الآخرة هو النشاط الروحي وانبساط النفس وابتهاجها في النشأة الآخرة وسرورها بالأعمال الصالحة التي قد تزود بها الإنسان من دنياه ، والمراد من نار الجحيم والعذاب الأليم هو الآلام النفسانية ، إلى غير ذلك من الترهات والأقاويل الكافرة . وعلى الجملة فهذا النوع من التفسير والتأويل واضح الفساد وموجب للكفر والنجاسة فإنه خلاف الآيات الكريمة الناطقة بالمعاد البدني الناصة في ذلك . أضف إلى ذلك أن من يفسر الآيات بهذا النحو والنسق وفقاً لعقيدته الفاسدة فكأنه يتخيل ويزعم أن أحداً من الأكابر والأصاغر لا يعرف ولا يفهم معناها وإنما هو وحده قد فهمه ، ومآل ذلك نزول القرآن لا جله فقط ، كما أنه يستلزم لغوية نزوله بالنسبة إلى غيره من الناس حيث إنهم لا يفهمون معنى الآيات ولا يفقهون مغزى معارف الكتاب ومستلزم لإغراء الله تعالى عباده بالجهل . نعم الحكم بكفر القائل بالأمور المزبورة موقوف على علمه والتفاته إلى تلك اللوازم . وقد لا يكون توجيهه وتأويله بهذه المثابة من وضح بطلانه بل هناك نوع خفاء يمكن عادة توجيهها كذلك ، وهنا لا يمكن الحكم بكفر من قال به تمسكاً بالآيات والروايات لاحتمالها ذلك عرفا)([31]).
السيد عبد الله شبر رحمه الله : (يجب الإيمان بالجنة والنار الجسمانيتين على نحو ما تكاثرت به الآيات المتضافرة والأخبار المتواترة ، وذلك من ضروريات الدين لم يخالف فيه أحد من المسلمين ، ومن أنكر وجودهما مطلقاً كالملاحدة ، أو أولهما بما يأتي كالفلاسفة فلا ريب في كفره ، والفلاسفة في هذا الباب على فرقتين : الأولى : الإشراقيون القائلون بعالم المثال والظاهر ، إنهم يقولون إن الجنة والنار وسائر ما ورد به الشرع من التفاصيل ليست من قبيل الأجسام والجسمانيات ولا من عالم المجردات ، بل هو عالم آخر متوسط بينهما كالعالم الرؤيا في المنام ، والصورة في المرآة ، والثواب والعقاب كالرؤيا الحسنة والرؤيا القبيحة ، وهذا مع استلزامه وإنكار الحشر والنشر الجسمانيين تلاعب بالدين ومخالف لصريح القرآن المبين ، ورد لقول الأنبياء والمرسلين ، لا يقال إن أكثر المسلمين قد قالوا بالعالم المثالي في عالم البرزخ كما تقدم ، لأنّا نقول بين القولين فرق من وجهين : الأول : أن قول أكثر المسلمين لا يستلزم إنكار المعاد الجسماني ، ولا رد الآيات المتكاثرة والأخبار المتواترة بخلاف هؤلاء . الثاني : أن عالم المثال الذي قال به المسلمون غير هذا المثال الذي قال به الفلاسفة ، فإن المسلمين قالوا إن تلك الأبدان المثالية في العالم البرزخي أجسام لطيفة شفافة كأجسام الملائكة والجن لها وجود خارجي وتتعلق الروح بذلك الجسم ، ولم يؤولوا ذلك بعالم المنام والرؤيا كما فعل هؤلاء الفرقة . الثانية : المشاءون وهم الأكثرون ، فجعلوا الجنة والنار والثواب والعقاب من قبيل اللذات والآلام العقلية ، وذلك أن النفوس البشرية سواء جعلت أزلية كما هو رأي أفلاطون ، أو لا كما هو رأي أرسطو ، فهي أبدية عندهم لا تفنى بخراب البدن بل تبقى ملتذة بكمالاتها مبتهجة بإدراكاتها ، وذلك سعادتها وثوابها وجنانها على اختلاف المراتب وبتفاوت الأحوال ، ومتألمة بفقد الكمالات وفساد الاعتقادات وذلك شقاوتها وعقابها ونيرانها على ما لها من اختلاف التفاصيل ، وإنما لم تتنبه لذلك في هذا العالم لاستغراقها في تدبير البدن وانغماسها في كدورات عالم الطبيعة ، وبالجملة لما بها من العلائق والعوائق الزائلة بمفارقة البدن . فما ورد في لسان الشرع من تفاصيل الثواب والعقاب وما يتعلق بذلك من السمعيات فهي مجازات وعبارات عن تفاصيل أحوالها في السعادة والشقاوة، واختلاف أحوالها في اللذات والآلام ، والتدرج مما لها من دركات الشقاوة إلى درجات السعادة . فإن الشقاوة السرمدية إنما هي بالجهل المركب الراسخ والشرارة المضادة للملكة الفاضلة ، لا الجهل البسيط والأخلاق الخالية عن غايتي الفضل والشرارة ، فإن شقاوتها منقطعة بل ربما لا تقتضي الشقاوة أصلا)([32]).
إن المطلوب شرعاً بحسب ما جاء في القرآن الكريم وحديث أهل البيت عليهم السلام هو الاعتقاد بوجود حقيقة خارجية للجنة والنار . وبعبارة أوضح لم يكن المطلوب شرعاً الاعتقاد بالجنة والنار فحسب ، وإنما مضافاً إلى ذلك الاعتقاد بأن لهما حقيقة متأصلة في الخارج.
ومما تقدم يدلل على خلق الجنة والنار الآن لا أنهما سيخلقان فيما بعد . ووقع الكلام في مكان الجنة والنار وهذا بحث آخر وإن كان له صلة بهما ، كما أن بحث حقيقة الجنة والنار له صلة بحقيقة المعاد إذ من يقول بالمعاد الروحاني لا يمكنه القول بجسمانية الجنة والنار .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) سورة آل عمران : 133 .
[2] ) لم أجده في المصادر ، ورواه في عوالي الآلي،ج4،ص101.
[3] ) سورة النحل : 18 .
[4] ) سورة لقمان : 20 .
[5] ) روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله في روضة الواعظين : (إن الجنة لأشوق إلى سلمان من سلمان إلى الجنة ، وإن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان للجنّة) .روضة الواعظين،ج2،ص57.
[6] ) تقد الكلام في هذا الخبر وأنه لم يروَ في المصادر الشيعية وإنما تناقلته مصنفات الصوفية وبعض مصنفات العامة غير الحديثية .
[7] ) رواه الشيخ الصدوق في معاني الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وآله : (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر في ليلة البدر لا تضامون) .ثم قال فيه : (يحتمل التأويل ولم يفصح به ، وهو لا يقول : ترونه بعيونكم لا بقلوبكم . ولما كان هذا الخبر يحتمل التأويل ولم يكن مفصحا علمنا أن النبي صلى الله عليه وآله لم يعن به الرؤية التي ادعيتموها وهذا اختلاط شديد لأن أكثر الكلام في القرآن وأخبار النبي صلى الله عليه وآله بلسان عربي ومخاطبة لقوم فصحاء على أحوال تدل على مراد النبي صلى الله عليه وآله). معاني الأخبار،ص72
وقال فيه السيد المرتضى : (هذا الخبر فمطعون عليه مقدوح في راويه ، فإن راويه قيس بن أبي حازم ، وقد كان خولط في عقله في آخر عمره مع استمراره على رواية الأخبار . وهذا قدح لا شبهة فيه لأن كل خبر مروي عنه لا يعلم تاريخه يجب أن يكون مردوداً ، لأنه لا يؤمن أن يكون مما سمع منه في حال الاختلال . وهذه طريقة في قبول الأخبار وردها ينبغي أن يكون أصلاً ومعتبراً فيمن علم منه الخروج ولم يعلم تاريخ ما نقل عنه . على أن قيساً لو سلم من هذا القدح كان مطعوناً فيه من وجه آخر ، وهو أن قيس بن أبي حازم كان مشهوراً بالنصب والمعاداة لأمير المؤمنين صلاة الله وسلامه عليه والانحراف عنه ، وهو الذي قال : رأيت علي بن أبي طالب على منبر الكوفة يقول : انفروا إلى بقية الأحزاب ، فأبغضته حتى اليوم في قلبي . إلى غير ذلك من تصريحه بالمناصبة والمعاداة . وهذا قادح لا شك في عدالته . على أن للخبر وجهاً صحيحاً يجوز أن يكون محمولاً عليه إذا صح ، لأن الرؤية قد تكون بمعنى العلم ، وهذا ظاهر في اللغة ويدل عليه قوله تعالى : [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ] ، وقوله : [أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] . وقوله تعالى : [أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ]. وقال الشاعر :
رأيت الله إذ سمى نزارا * وأسكنهم بمكة قاطنينا
فيجوز أن يكون معنى الخبر على هذا : أنكم تعلمون ربكم علماً ضرورياً كما تعلمون القمر ليلة البدر من غير مشقة ولا كد) .تنزيه الأنبياء،ص178.
[8] ) مضمون الخبر صحيح ، والتعبير بـ : (ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) مروي في مصادرنا ، مثل ما رواه الشيخ الصدوق عن رسول الله صلى الله عليه وآله : (ألا ومن ذرفت عيناه من خشية الله عز وجل كان له بكل قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنة ، مكللا بالدر والجوهر ، فيه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر).من لا يحضره الفقيه،ج4،ص17.
ولكن الخبر بالصيغة المذكورة في المجلي لم أجده في مصادرنا ، وهو من مرويات العامة.
[9] ) سورة السجدة :17 .
[10] ) مجلي مرآة المنجي،ج2،ص494.
[11] ) مجموعة رسائل،ص448 ـ449 .
[12] ) الحكمة المتعالية،ج5،ص342.
[13] ) عيون مسائل النفس،ص812.
[14] ) يقصد ابن عربي ، انظر الفتوحات المكية،ج1،ص297.
[15] ) تفسير القرآن،ج4،ص539.
[16] ) المحيط الأعظم،ج6،ص96.
[17] ) سورة آل عمران : 133.
[18] ) سورة البقرة : 25.
[19] ) سورة البقرة : 24.
[20] ) الخصال،ص597.
[21] ) صفات الشيعة،ص50.
[22] ) صفات الشيعة،ص50.
[23] ) سورة الرحمن : 43 ـ44.
[24] ) التوحيد،ص118.
[25] ) اختيار معرفة الرجال،ج2،ص785.
[26] ) اختيار معرفة الرجال،ج2،ص785.
[27] ) الاعتقادات،ص79.
[28] ) أوائل المقالات،ص124.
[29] ) مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة،ج4،ص194 .
[30] ) العقائد،ص74.
[31] ) نتائج الأفكار،ص22.
[32] ) حق اليقين،ص463.