الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (31) عِلم الله حضوري!
الأثر الفلسفي والعرفاني عند ابن أبي جمهور الأحسائي (31)
عِلم الله حضوري!
إن من الأمور التي خاض فيها الفلاسفة والعرفاء هو الكلام في كيفية عِلم الله تعالى ، وأن علمه تعالى حضوري ! وهو مما لا ينبغي الخوض فيه ؛ لأنه من التكلم في الذات المنهي عنه ، وكونه فوق إدراك البشر ، وقد خاض فيه ابن أبي جمهور على طريقة الفلاسفة والعرفاء حيث يقول : (علمه كشفي حضوري لا يحتاج إلى التكلفات لأن علمه بذاته هو انكشاف ذاته لذاته فلا يحتاج إلى تغاير النسبة كانكشاف المشرقات بذاتها)([1]).
ولشيخ الإشراق السهروردي كلام في كيفية عِلم الله تعالى حصلها عن طريق الكشف ـــ كما ذكر الأحسائي ـــ وقد نعت الأحسائي ما ذكره السهروردي بأنه محض الحق ونفس الصدق وكونه من العلم المخزون والسر المصون إذ يقول : (لبعض أهل الإشراق من المتأخرين طريقة حسنة لطيفة هي محض الحق ونفس الصدق ، بل هي من العلم المخزون والسر المصون الذي لا يطلع عليه إلا الأقلون. حصلها هذا الشيخ بطريق الإشراق والكشف الذوقي، ثم أفادها من تأخر عنه جزاه الله خيرا وهي : أن العلم كمال مطلق للموجود…)([2]).
وهو يقصد شيخ الإشراق السهروردي ـــ يحيى بن حبش المعروف بشهاب الدين السهروردي (ت:587هـ) ـــ بقوله : (لبعض أهل الإشراق من المتأخرين) . والذي أفادها عنه هو الشهرزوري في (رسائل الشجرة الإلهية) . أي أن الشهرزوري نقل ما ذكره شيخ الإشراق، وقد أشار الشهرزوري إلى أنه أخذه من شيخ الإشراق بقوله : (بعد أن قرر الشيخ الإلهي هذه المسألة المهمة العظيمة بهذه الطريقة اللطيفة التي ما سبقه إلى ذلك أحد من الحكماء)([3]).
وبعد ذلك نقل الأحسائي كلام الفلاسفة والعرفاء في كيفية علم الله تعالى ، مثل كلام ابن سينا([4]) والخواجة الطوسي والكندي.
إن من أعظم المتاهات والمزالق التي وقع فيها الفلاسفة والصوفية هو خوضهم في كيفية عِلم الله تعالى ، وإخضاعه إلى التقسيم الشائع للعلم الحصولي والحضوري في المنطق والفلسفة ؛ فقال أغلبهم بأن علمه حضوري، واختلفوا في بعض جوانبه وتفسيراته على أقوال كثيرة لا تدل إلا على الزلل ، وقصورهم فيما هم يخوضون فيه ؛ لأنهم حسبوا إمكان معرفة كيفية اتصاف الله تعالى بالعلم وما ذاك إلا عن قصور نظر وقلة تبصر في ما جاء في معارف الدين ، وقد أشار عبد الرزاق اللاهيجي (من فلاسفة القرن الحادي عشر) إلى وجود خمسة أقوال للفلاسفة في كيفية علمه تعالى : (اختلفت الحكماء في كيفية علمه تعالى بالأشياء إلى خمسة مذاهب)([5]).
وقد عد السيد الطباطبائي في نهاية الحكمة الأقوال المختلفة إلى عشرة([6]) وهو من متأخري الفلاسفة الذي ذهب إلى أن علم الله تعالى حضوري إذ يقول : (أن ما سواه من الموجودات معاليل له منتهية إليه بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط قائمة الذوات به قيام الرابط بالمستقل حاضرة عنده بوجوداتها غير محجوبة عنه فهي معلومة له في مرتبة وجوداتها علما حضوريا أما المجردة منها فبأنفسها وأما المادية فبصورها المجردة… وأن علمه حضوري كيفما صور)([7]).
وأيضا الشيخ حسن زاده آملي ذهب إلى أن علم الله تعالى حضوري قائلاً : (ما موجود إلا وهو علم الحق تعالى لأنه علمه بما سواه حضوري إشراقي).([8])
وكيفية علم الله تعالى من أكثر الأبحاث جدلاً بين الفلاسفة والصوفية ولذا يقول الشيخ النراقي : (إن هذه المسألة من أغمض المسائل الإلهية وأصعب المباحث الحكمية ولذا ترى العقلاء فيها كالحيارى وأحدثوا فيها مذاهب شتى)([9]).
أما المقتفون أثر أهل البيت ^ في التوحيد فقد أعرضوا عن مثل هذا الكلام لعلمهم بالنهي عن الخوض فيه ، وأنه لم يكن بمقدورهم ؛ فالخوض في كيفية حياته تعالى كالخوض في كيفية علمه وقدرته في غير محله لأنه خارج عن إدراك البشر وحيز تصوراتهم ، وهو من التفكر في ذات الله تعالى المنهي عنه ، وإذا لم يكن التفكر في كيفية علمه من التفكر في ذات الله تعالى فما هو إذن التفكر في الذات؟!
والأقوال الكثيرة المتناقضة التي جاء بها الفلاسفة في كيفية علم الله تعالى ، وتشعبها كلها لا دليل عليها من القرآن الكريم ولا الحديث الشريف ؛ إذ لم يرد في النصوص الدينية بيان ذلك . ولكنهم حسبوا من خلال فلسفتهم إمكان معرفة كل شيء وإن كان متعلقاً في كنه الله تعالى :[فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ]([10]).
وذلك حيث زعموا أن ما لديهم هو تمام العلم وحسبوا من خلاله معرفة حقائق الأشياء وكأنهم غاب عنهم قوله تعالى : [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]([11])
والله تبارك وتعالى لم يكلف العباد معرفة ما لم يحيطوا به ؛ فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام : (إن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا : [آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا]([12]). فمدح الله عز وجل اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسم تركهم التعمق في ما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخاً)([13]).
وعن زرارة بن أعين قال : سألت أبا جعفر عليه السلام ما حق الله على العباد؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون([14]).
وعن هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما حق الله على خلقه ؟ فقال : أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه([15]).
وعنه عليه السلام : (لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا)([16]).
وقد روي عن الإمام الكاظم عليه السلام أن علم الله تعالى لا يوصف بأين ، وكيف ، وعلى أي كيفية كان كما فعل الذين تكلموا في ذلك ووصفوه بالحضوري والحصولي : (علم الله لا يوصف منه بأين ولا يوصف العلم من الله بكيف، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حد)([17]).
فعلِم الله تعالى لا يدرك على أي كيفية ، كما أن ذاته لا تدرك ؛ لأنه فوق وسعنا ومدركاتنا ، ولو كان بوسعنا معرفته لعرفنا الذات . والخوض في كيفيته مُهلكٌ ولا يزيد صاحبه إلا حيرةً وبعداً ؛ فقد روي عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال : سألت أبا جعفر عليه السلام عن شيء من الصفة فرفع يده إلى السماء ثم قال : تعالى الجبار ، من تعاطي ما ثم هلك)([18]).
وروي عنه عليه السلام : (تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيراً)([19]).
وعن الإمام الصادق عليه السلام : (من نظر في الله كيف هو هلك)([20]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) مجلي مرآة المنجي،ج2،ص552.
[2] ) مجلي مرآة المنجي،ج2،ص555. من قوله : (العلم كمال مطلق للموجود..) منقول من رسائل الشجرة الإلهية،ج3،ص498.
[3] ) رسائل الشجرة الإلهية،ج3،ص501.
[4] ) انظر مجلي مرآة المنجي،ج2،ص558 وما بعدها .
[5] ) شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام،ج5،ص148.
[6] ) انظر نهاية الحكمة:المرحلة الثانية عشرة/الفصل الحادي عشر.
[7] ) انظر نهاية الحكمة:المرحلة الثانية عشرة/الفصل الحادي عشر.
[8] ) السير إلى الله (رسالة لقاء الله)،ص20.
[9] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج٢،ص١١٢.
[10] ) غافر : 83.
[11] ) الإسراء : 85.
[12] ) سورة آل عمران:7.
[13] توحيد الصدوق،ص56.
[14] ) أصول الكافي،ج1،ص43
[15] ) أصول الكافي،ج1،ص50
[16] ) أصول الكافي،ج2،ص388.
[17] ) توحيد الصدوق،ص138.
[18] ) أصول الكافي،ج1،ص94 . يقول العلامة المجلسي : (قوله:(من تعاطى):أي تناول بيان ما ثم من صفاته الحقيقية العينية (هلك) وضل ضلالا بعيدا،وفي القاموس: التعاطي: التناول،وتناول ما لا يحق،والتنازع في الأخذ،وركوب الأمر.مرآة العقول،ج1،ص327.
[19] ) أصول الكافي،ج1،ص92.
[20] ) أصول الكافي،ج1،ص93.