(82) س هل ندم الفيض الكاشاني على تأثره في الفلسفة والعرفان والتزم بذلك عملياً؟
(82) س هل ندم الفيض الكاشاني على تأثره في الفلسفة والعرفان والتزم بذلك عملياً؟
ج : إن الفيض الكاشاني ندم في نهاية المطاف على كتبه التي صنفها على مذاق الفلاسفة والصوفية وصرح بذلك في رسالة : (الإنصاف) . يقول الشيخ آقا بزرك الطهراني : (الإنصاف) في طريق العلم بأسرار الدين المختص بالخواص والأشراف وبيان الفرق بين الحق والاعتساف ، للمحقق المحدث المولى محسن بن مرتضى الفيض الكاشاني المتوفى سنة : (1091هـ) أوله: (الحمد لله الذي أنقذنا بالتمسك بحبل الثقلين من الوقوع في مهاوي الضلال). ذكر فيه بعض أحواله وبين عذره عما كتبه من الكتب على مذاق الفلاسفة والمتصوفة وغيرهما بعبارات واضحة ملمعة عربية وفارسية ألفه سنة 1083 كما في فهرسه ثم اختصره بنفسه وسماه (هدية الأشراف)([1]).
وهذا نص ما قاله الفيض الكاشاني في مطلع رسالة (الإنصاف) : (الحمد لله الذي أنقذنا بالتمسك بحبل الثقلين من الوقوع في مهاوي الضلال ، والصلواة والسلام على نبينا محمد وآله خير نبي وخير آل أما بعد ؛ فهذه رسالة في بيان طريق العلم بأسرار الدين المختص بالخواص والأشراف تُسمى بـ (الإنصاف) لخلوها من الجور والاعتساف ــ من هنا بدأت ترجمة النص الفارسي([2]) ــ : المهتدی إلى صراط المصطفى محسن بن مرتضى زاده الله هدي إلي هدي يقول : تفرغت عن التفقه في الدين وحصول البصيرة في الاعتقادات وكيفية إتيان العبادات على طريقة المعصومين عليهم السلام حينما كنت شاباً ، وما احتجت إلى التقليد من أحد من غير المعصوم بتوفيق الله تبارك وتعالى ثم خطر ببالي أن أجتهد في حصول معرفة أسرار الدين وعلوم الراسخين لكي أرتقي في الكمالات النفسانية ولكن ليس للعقل طريقاً إليه وما كان للنفس برتبته الإيمانية منفذاً إليه ومع ذلك ما صبرت على الجهالة وصرت متألماً من ذلك ؛ لذلك خُضتُ أياماً في قراءة مجادلات المتكلمين فكنت أجتهد بإزالة الجهلَ بآلة الجهل نفسه ! وبعده صرتُ أتعلم على طريقة المتفلسفين وكنت أبصر طموحات المتصوفة في أقاويلهم وبحثت شطراً من الدهر في رعونات أصحاب أل (من عندي)([3]) حدثني قلبي عن ربي وحتى كتبت الكتب والرسائل في تلخيص كلام هؤلاء الطوائف الأربعة([4]) وفى بعض الأحيان كنت أقوم بالجمع بين آرائهم وأمزج بعضها ببعض([5]) من غير تصديق بكلها ، ولا عزيمة قلب على جلها ، بل أحطت بما لديهم خبرا ، وكتبت في ذلك على التمرين زبرا ، فلم أجد في شيء من إشاراتهم شفاء علتي ، ولا في أدارة عباراتهم بلال غلتي ، حتى خفت على نفسي إذ رأيتها فيهم كأنها من ذويهم فتمثلت بقول من قال : خدعوني نهبوني أخذوني غلبوني…..وعدوني كذبوني فإلى من أتظلّم
ففررت إلى اللّه من ذلك ، وعذت باللّه من أن يوقفني هنالك ، واستعذت بقول أمير المؤمنين عليه السلام في بعض أدعيته : (أعذني اللّهم من أن استعمل الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا يتقلقل فيه الفكر)([6]).
ثم أنبتُ إلى اللّه ، وفوضت أمري إلى اللّه ، فهداني الله ببركة متابعة الشرع المبين ، إلى التعمق في أسرار القرآن وأحاديث آل سيد المرسلين ، صلوات اللّه عليهم وفهّمني اللّه منها بمقدار حوصلتي ودرجتي من الإيمان ، فحصل لي بعض الاطمينان ، وسلب اللّه مني وساوس الشيطان ، ولله الحمد على ما هداني ، وله الشكر على ما أولاني ، فأخذت أنشد شعراً :
ملك الشرق تشرق وإلى الروح تعلق…غسق النفس تفرّق ربض الفكر تهدّم
و[فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ]([7]) ثم إني جربت الأمور ، واختبرت الظلمة والنور ، حتى استبان لي أن طائفة من أصحاب الفضول ، المنتحلين بمتابعة الرسول غمضوا العينين ، ورفضوا الثقلين ، وأحدثوا في العقائد بدعاً ، وتحزبوا فيها شيعاً ، لا في اثنين منهم اتفاق ولا فيما بينهم تؤالف ديني ولا تحابُّ أخواني إلا النفاق ، وذلك لأنهم كانوا يطوفون حول الطوائف الأربع من غير بصارة ولا متابعة بصير وكانوا بالحري أي يتلى عليهم : [وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ]([8]) وكان الله مقتهم على صنيعهم ، هذا إذ لم يرزقهم التؤالف والتحابَّ والاتفاق ووكلهم إلى حب الرياسة ورذيلة النفاسة والنفاق ، إلى أن وقعوا بشؤم هذا الصنيع الشنيع إلى التحالف والتدابر والتباغض والتنافر ، على أن من شأن النفوس الحسد والكبرياء وعدم الانقياد لمن كان من أبناء جنسها إذا كان معها في زمان واحد ، وأشده إذا كان معها في بلد واحد ، وليس كذلك إذا كان قد مات أو لم يولد . ثم حبهم الرياسة أوقعهم في استبدادهم بالآراء وتشتتهم في الأهواء ، فهم بما عندهم مغرورون وبأنفسهم معجبون وبه من سواهم مستهزؤن وبما هم فيه مستحترد([9]).[كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ][فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ]([10]). قال أمير المؤمنين عليه السلام : (ما كل ذي قلب بلبيب ، ولا كل ذي سمع بسميع ، ولا كل ذي ناظر ببصير : فيا عجبا من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصّون أثر نبي ، ولا يقتدون بعمل وصي ، ولا يؤمنون بغيب ، ولا يعفون عن عيب ، يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات ، المعروف فيهم ما عرفوا ، والمنكر عندهم ما أنكروا ، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات)([11]).
وقال عليه السلام في حديث آخر : (أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه أم نهاهم عنه فعصوه أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله) عن تبليغه وأدائه ؟! والله سبحانه يقول : [مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ]([12]) فيه تبيان كل شيء)([13]).
وما ذلك كله إلا لرفضهم التمسك بحبل الثقلين وتركهم وصية سيد الثقلين ، ترى أحدهم مولعاً بالنظر إلى كتب الفلاسفة ليس طول عمره هم سواه ولا يكون في غيره هواه من قبل أن يحكم علماً شرعياً أصلياً أو فرعياً ، بل وربما لم يسمع قط مما جاء به نبيه صلى الله عليه وآله في ذويه سوى ما سمعه في صغره من أمه وأبيه ، لم يتعلم من الشريعة أدباً ولا سنةً ولم يتقلد من صاحبها في علمه منة)([14]).
هذا ما أعرب عنه الفيض الكاشاني وصرَّح به بكل وضوح في تأثره في الفلسفة والعرفان ثم ندمه وأسفه على ذلك . ولكن يبقى مقدار ما التزم به بعد ذلك هو شيء آخر ، أي مقدار إعراضه عملياً عن تلك الفلسفات ، فقد يكون تبنى بعض متبنياتها بعد الإعلان عن ندمه من غير التفات إلى عدم موافقتها للدين ، أو أنه كان يرى موافقتها للدين ونحو ذلك . والشيء المهم هو أنه تنبه لزلل تلك المسالك وخطورة متبنياتها ، وهذا يكشف عن نبذه لها عملياً ولو إجمالاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) الذريعة،ج2،ص398.
[2] ) رسالة (الإنصاف) كتب بعضها باللغة العربية والبعض الآخر باللغة الفارسية .
[3] ) أل (من عندي) : الذين يقولون من عند أنفسهم ما انزل الله به من سلطان.
[4] ) يعني بالطوائف الأربعة : 1 ـ المتكلمين 2 ـ المتفلسفين 3 ـ المتصوفة 4 ـ أل عنديين.والمذموم من علم الكلام في الأحاديث هو التكلم بذات الله عز وجل أو في خصوص من لا يحسن الكلام وغيرها من المحاذير التي تم التطرق لها عند عنوان : (إذا كانت الفلسفة سيئة لِمَ لم ينه الأئمة عنها ؟ وأحاديث في ذمها).
[5] ) إلى هنا انتهى النص المكتوب بالفارسي.
[6] ) لم أجد هذا الدعاء في مصادرنا الروائية المشهورة ولا في كتب الأدعية والزيارات.
[7] ) سورة المائدة : 54 .
[8] ) سورة الحج : 8 .
[9] ) على ما يبدو أن : (مستحترد) وقعت اشتباهاً وخطأً والصحيح كما في كتاب : (سفينة النجاة) للفيض الكاشاني بدل : ( مستحرد) جاء : (مستهترون) .سفينة النجاة،ص244.
[10] ) سورة المؤمنون : 53 .
[11] ) نهج البلاغة ،ج1،ص144.خطبة:(88).
[12] ) سورة الأنعام : 38 .
[13] ) نهج البلاغة،ج1،ص55.خطبة:(18).
[14] ) انظر رسالة (الإنصاف) المطبوعة مع مجموعة رسائل للشيخ الفيض الكاشاني.