(86) س : هل ملا صدرا يقول بالتجسيم ؟
(86) س : هل ملا صدرا يقول بالتجسيم ؟
ج : إن قول الملا بالتجسيم يدل عليه ما ذكره في شرحه لأصول الكافي : (فليجز أن يكون في الوجود جسم إلهي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير المسمّى بالأسماء الإلهية المنعوت بالنعوت الربانية ، على أن الواجب تعالى لا يجوز أن يكون له في ذاته فقد شيء من الأشياء الوجودية وليس في ذاته الأحدية جهة ينافي جهة وجوب الوجود وليس فيه سلب إلا سلب الأعدام والنقائص)([1]).
فقوله : (فليجز أن يكون في الوجود جسم إلهي ليس كمثله شيء) يدل على التجسيم ، والغريب أنه قبل أسطر من كلامه المذكور عرَّف الجسم بأنه قابل للأبعاد الثلاثة : (إن ماهية الجسم ومعناه ، يعني الجوهر القابل للأبعاد له أنحاء من الوجود بعضها أخس وأدنى وبعضها أشرف وأعلى ، فمن الجسم ما هو جسم هو أرض فقط أو ماء فقط أو هواء أو نار ، ومنه ما هو جماد فيه العناصر الأربعة موجودة بوجود واحد جمعي كما حققناه ، لكنه جماد فقط من غير نمو ولا حس ولا حياة ولا نطق ، ومنه ما هو جسم هو بعينه متغذ نام مولّد ، فجسميته أكمل من جسمية الجمادات والمعادن ، ومنه ما هو مع كونه جسماً حافظ للصورة متغذياً نامياً مولداً حساساً ذو حياة حسية ، ومنه ما هو مع كونه حيواناً ناطقاً مدركاً للمعقولات ، فيه ماهيات الأجسام السابقة موجودة بوجود واحد جمعي لا تضاد بينها في هذا الوجود الجمعي ، لكونها موجودة على وجه ألطف وأشرف وهو وجود الإنسان)([2]).
إن كلامه واضح وصريح ومما لا يقبل التبرير أنه ينسب التجسيم لله تعالى! بمعنى أن له جسم يناسبه ، إلا أنه ليس كغيره من الأجسام ، وإنما يختلف لطافةً وشرفاً ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ورد ما ذكره هو إما أن يكون مراده نفي الأبعاد الثلاثة عن الله تعالى أو لا ؛ فإن كان الأول فهو خلف ما افترضه جسماً ، وإن كان الآخر ثبت الإشكال ووجه الاعتراض عليه ؛ وذلك لأنه عرَّف الجسم بأنه قابل للأبعاد الثلاثة كما أشرت إلى كلامه أعلاه.
وقد رد السيد الخوئي كلام الملا في التجسيم أثناء حديثه عن المجسمة ، وأنه قسّم المجسمة إلى طائفتين : (وهم على طائفتين فإن منهم من يدعي أن الله سبحانه جسم حقيقة كغيره من الأجسام وله يد ورجل إلا أنه خالق لغيره وموجد لسائر الأجسام فالقائل بهذا القول إن التزم بلازمه من الحدوث والحاجة إلى الحيز والمكان ونفي القدمة فلا إشكال في الحكم بكفره ونجاسته لأنه إنكار لوجوده سبحانه حقيقة وأما إذا لم يلتزم بذلك بل اعتقد بقدمه تعالى وأنكر الحاجة فلا دليل على كفره ونجاسته وإن كان اعتقاده هذا باطلا ومما لا أساس له . ومنهم من يدعي أنه تعالى جسم ولكن لا كسائر الأجسام كما ورد أنه شيء لا كالأشياء فهو قديم غير محتاج . ومثل هذا الاعتقاد لا يستتبع الكفر والنجاسة أما استلزامه الكفر من أجل أنه إنكار للضروري حيث إن عدم تجسمه من الضروري فهو يبتني على الخلاف المتقدم من أن إنكار الضروري هل يستلزم الكفر مطلقا أو أنه إنما يوجب الكفر فيما إذا كان المنكر عالما بالحال بحيث كان إنكاره مستلزما لتكذيب النبي ’ هذا . والعجب عن صدر المتألهين حيث ذهب إلى هذا القول في شرحه على الكافي وقال ما ملخصه : إنه لا مانع من التزام أنه سبحانه جسم إلهي فإن للجسم أقساما فمنها : جسم مادي وهو كالأجسام الخارجية المشتملة على المادة لا محالة . ومنها جسم مثالي وهو الصورة الحاصلة للإنسان من الأجسام الخارجية وهي جسم لا مادة لها . ومنها : جسم عقلي وهو الكلي المتحقق في الذهن وهو أيضا مما لا مادة له بل وعدم اشتماله عليها أظهر من سابقه . و منها : جسم إلهي وهو فوق الأجسام بأقسامها وعدم حاجته إلى المادة أظهر من عدم الحاجة إليها في الجسم العقلي ومنها : غير ذلك من الأقسام ولقد صرح بأن المقسم لهذه الأقسام الأربعة هو الجسم الذي له أبعاد ثلاثة من العمق والطول والعرض . وليت شعري أن ما فيه هذه الأبعاد وكان عمقه غير طوله وهما غير عرضه كيف لا يشتمل على مادة ولا يكون متركبا حتى يكون هو الواجب سبحانه)([3]).
والشيخ محمد آصف المحسني بالرغم من ملاحظاتي الكثيرة على ما ذكره في كتبه إلا أن ما ذكره في رد قول الملا لا ريب في صحته : (هذا منه عجيب فإن الجسم أي الجوهر القابل الأبعاد الثلاثة كما صرح به يستلزم التركب لا محالة ، ضرورة أن طوله غير عرضه وعرضه غير عمقه ، فيصير ممكناً ولا يجديه ما ذكره من كونه إلهياً ليس كمثله شيء إلى آخره.وأيضاً لا يمكن تعقل الأبعاد الثلاثة إلا متناهية محدودة ، وإلا لم تتحقق الأبعاد المذكورة فيلزم تناهي الواجب ، مع أنه خارج عن الحد والتناهي اتفاقا وعقلا ونقلا)([4]).
وقد يُقال : إن الملا صدرا لم يقصد الجسم ذا الأبعاد الثلاثة ، وإنما يعني ما يُطلق عليه الجسم بما يتناسب مع كل عالَم وشأنه.
ورد ذلك واضح من خلال كلام الملا حيث إنه لم ينفِ الجسمية عن بعض العوالم ، ولا عن بعض الموجدات ، وإنما أقر اشتراكها بالجسم ذو الأبعاد واختلافها من حيث اللطافة والشرفية ؛ فهو لم ينف الجسم وأقره في حيز الموجودات ، والاختلاف في اللطافة ، والشدة والضعف لم يخرجه عن معنى الجسمية.ومضافاً إلى ذلك فإن ما ذُكر من وجه للدفاع عن الملا لا يساعد عليه كلامه فتنبه ولا تغفل عن مرامه.
والمؤاخذة الأخرى على ما ذكره الملا هو نعت الله تعالى بالجسم ! وهو مما لا يمكن نعت الله تعالى به ؛ لأنه لم يرد في النصوص نعته بذلك بل نفى أئمة الهدى عليهم السلام التجسيم عنه تعالى ، وعن وصفه بما يدل على التجسيم فلا تغفل عن هذه المؤاخذة الأخرى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) شرح أصول الكافي،ج4،ص207.
[2] ) شرح أصول الكافي،ج3،ص206.
[3] ) التنقيح في شرح العروة الوثقى،ج3،ص71.
[4] ) صراط الحق،ج2،ص37.