عِلم الله تعالى لا يوصف بالحضوري والحصولي
إن من أعظم المتاهات والمزالق التي وقع فيها الفلاسفة والصوفية هو خوضهم في كيفية عِلم الله عز وجل فقال أغلبهم بأن علمه حضوري ، واختلفوا في بعض جوانبه وتفسيراته على أقوال كثيرة لا تدل إلا على الزلل وقصورهم فيما هم يتكلمون فيه ؛ لأنهم حسبوا إمكان معرفة كيفية اتصاف الله عز وجل بالعلم وما ذاك إلا عن قصور نظر وقلة تبصر في ما جاء في معارف الدين ، وقد أشار عبد الرزاق اللاهيجي (من أعلام القرن الحادي عشر) إلى وجود خمسة أقول للفلاسفة في كيفية علمه تعالى : (اختلفت الحكماء في كيفية علمه تعالى بالأشياء إلى خمسة مذاهب)([1]).
والشيخ محمد مهدي النراقي (ت:1209هـ) في جامع الأفكار عقد البحث الثاني من الجزء الثاني في كيفية علمه تعالى بالأشياء حيث استفاض كثيرا في تتبع كلمات الفلاسفة والصوفية حتى تجاوز المائتين صفحة في كيفية علمه تعالى فذكر أقوالا كثيرة وتفصيلات عديدة.([2]) أجملها في سبعة أقوال :
الأول : مذهب المعتزلة.
الثاني : مذهب أفلاطون .
الثالث : مذهب فرفوريوس ومن تبعه من المشائين.
الرابع : مذهب جمهور المشائين. وابن سينا اختاره كما يقول النراقي : (ثم الحق أن مذهب الشيخ الرئيس في العلم هو المذهب الرابع ــ أعنى : كون علمه تعالى بجميع الأشياء بالصور المرتسمة في ذاته تعالى ــ لا المذهب الخامس ــ أي : كون علمه تعالى بما عدا المعلول الأول بالصور المرتسمة في هذا المعلول ــ وقد صرح جماعة بأن مختاره هو المذهب الخامس في جميع كتبه . وقيل هو متحيّر بين المذهبين في الشفا ولكنه اختار المذهب الرابع في الإشارات)([3]).
الخامس : مذهب تالس المليطي . وهو ما ذهب إليه الخواجا الطوسي كما ذكر الشيخ النراقي : (المحقق الطوسي أيضا اختار هذا المذهب ــ أي المذهب الخامس ــ فإنه صرّح بأن علمه تعالى بالحضور في المعلولات القريبة ، وأما في المعلولات البعيدة فبحصول صورها في القريبة . قال في شرحه للإشارات : (العاقل كما لا يفتقر في إدراكه لذاته إلى صورة غير ذاته التي هو بها هو ، كذلك لا يفتقر في إدراكه لما يصدر عن ذاته إلى صورة غير صورة ذلك الصادر التي بها هو هو . واعتبر من نفسك أنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها ، فهي صادرة عنك لا بانفرادك مطلقا بل بمشاركة ما من غيرك)([4]).
السادس : ما ذهب إليه جماعة وهو : أن للواجب علمين : علم إجمالي كمالي متحقق في مرتبة ذاته ، وعلم تفصيلي متحقق في مرتبة وجودات الأشياء([5]).
السابع : ما ذهب إليه شيخ الإشراق ومتابعوه ــ كشارح التلويحات والعلامة الشهرزوري ، بل أكثر من تأخر عنه وهو : أن علمه تعالى بجميع الأشياء بحضور نفس الأشياء له تعالى وانكشاف ذواتها عنده بدون حاجة إلى حضور صور زائدة على ذواتها فعلمه بها نفس وجوداتها العينية([6]).
والشيخ النراقي اختار القول السابع الذي ذهب إليه شيخ الإشراق : (وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الحق في كيفية علم الواجب سبحانه أنه تعالى عالم بذاته تعالى وبجميع الأشياء بالعلم الحضوري الإشراقي التفصيلي قبل إيجاد الأشياء وبعده على نهج واحد وحقيقة علمه تعالى هو الإضافة الإشراقية التي لا توجب تكثرا ولا تركبا فلا فرق بين انكشاف شيء واحد وأشياء متكثرة في عدم لزوم الكثرة في ذاته . ومصحح هذا الانكشاف وموجبه أما بالنسبة إلى ذاته الحقة فتجرده التام مع عينية المعلوم للعالم ــ كما في علم النفس بذاتها ــ وأما بالنسبة إلى الأشياء المعلومة له تعالى فتجرده أيضا مع تحقق علاقة قوية هي علاقة المبدئية بينه تعالى وبينها كما في علم النفس بقواها الجزئية المرتبطة بها نحو ارتباط . وهذا المذهب هو الذي ثبت عندنا حقيته واخترناه…ثم أنت تعلم بما ذكرناه أن كلام الشيخ الإلهي لا ينافي حمله على ما ذكرناه)([7]).
ويقول أيضا في الرأي المختار لديه : (إن الحق المختار هو أن علم الواجب سبحانه علم واحد حضوري تفصيلي فعلي غير زماني وغير متغير ومتجدد ومقدم على إيجاد الأشياء يعلم به الأشياء كلياتها وجزئياتها على الوجه الجزئي أزلا وأبدا على نهج واحد من غير تغير وتجدد وإن علمه المتعلق بالأشياء إضافة إشراقية انكشافية وليس فيه تغيّر بالنسبة إلى ذاته ، ومناط هذا الانكشاف مجرد ذاته الحقة وليس هذا الانكشاف حادثا بحدوث الأشياء)([8]).
إلا أن الشيخ النراقي في (اللمعات العرشية) أشكل على انحصار علم الله تعالى بالعلم الحضوري حيث يقول : (لو انحصر علم الواجب سبحانه بالحضوري لزم أن تخرج من علمه معرفة المعاني الكلية وحقائق الأشياء وكنهها لقضاء الضرورة بأن العلم بعدم اجتماع النقيضين وبحقيقة السماء والعقل مثلا ليس حضوريا ، بل ما هو إلا الحصولي الكلي ؛ فلو لم يكن له علم حصولي لم يمكن تعقله الحقائق والمعاني الكلية إلا بارتسامها في بعض المدارك)([9]).
وقد عد السيد الطباطبائي في نهاية الحكمة الأقوال المختلفة إلى عشرة([10])وهو من متأخري الفلاسفة الذي ذهب إلى أن علم الله تعالى حضوري إذ يقول : (أن ما سواه من الموجودات معاليل له منتهية إليه بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط قائمة الذوات به قيام الرابط بالمستقل حاضرة عنده بوجوداتها غير محجوبة عنه فهي معلومة له في مرتبة وجوداتها علما حضوريا أما المجردة منها فبأنفسها وأما المادية فبصورها المجردة… وأن علمه حضوري كيفما صور)([11]).
وأيضا الشيخ حسن زاده آملي ذهب إلى أن علم الله تعالى حضوري قائلا : (ما موجود إلا وهو علم الحق تعالى لأنه علمه بما سواه حضوري إشراقي).([12])
وكيفية علم الله تعالى من أكثر الأبحاث جدلا بين الفلاسفة والصوفية ولذا يقول الشيخ النراقي : (إن هذه المسألة من أغمض المسائل الإلهية وأصعب المباحث الحكمية ولذا ترى العقلاء فيها كالحيارى وأحدثوا فيها مذاهب شتى)([13]).
أما المقتفون أثر أهل البيت عليهم السلام في التوحيد فقد أعرضوا عن مثل هذا الكلام لعلمهم بالنهي عن الخوض فيه وأنه ليس بمقدورهم ؛ فالخوض في كيفية حياته تعالى كالخوض في كيفية علمه وقدرته في غير محله لأنه خارج عن إدراك البشر وحيز تصوراتهم ، وهو من التفكر في ذات الله عز وجل المنهي عنه ، وإذا لم يكن التفكر في كيفية علمه من التفكر في ذات الله تعالى فما هو التفكر إذن؟!
والأقوال الكثيرة المتناقضة التي جاء بها الفلاسفة في كيفية علم الله تعالى وتشعبها كلها لا دليل عليها من القرآن الكريم ولا الحديث الشريف إذ لم يرد في النصوص الدينية بيان ذلك ولكنهم حسبوا من خلال فلسفتهم إمكان معرفة كل شيء وإن كان متعلقاً في كنه الله عز وجل:[فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ]([14]).
وذلك حيث زعموا أن ما لديهم هو تمام العلم وحسبوا من خلاله معرفة حقائق الأشياء وكأنهم غاب عنهم قوله تعالى : [وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا]([15])
والله تبارك وتعالى لم يكلف العباد معرفة ما لم يحيطوا به فقد روي عن أمير المؤمنين ×: (إن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا : [آَمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا]([16]).فمدح الله عز وجل اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسم تركهم التعمق في ما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا)([17]).
وعن زرارة بن أعين قال : سألت أبا جعفر ع ما حق الله على العباد ؟ قال : أن يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون([18]).
وعن هشام بن سالم قال : قلت لأبي عبد الله ع : ما حق الله على خلقه ؟ فقال : أن يقولوا ما يعلمون ويكفوا عما لا يعلمون فإذا فعلوا ذلك فقد أدوا إلى الله حقه([19]).
وعنه ع : (لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا)([20]).
وقد روي عن الإمام الكاظم ع أن علم الله عز وجل لا يوصف بأين وكيف وعلى أي كيفية كان كما فعل الذين تكلموا في ذلك ووصفوه بالحضوري والحصولي : (علم الله لا يوصف منه بأين ولا يوصف العلم من الله بكيف ، ولا يفرد العلم من الله ، ولا يبان الله منه ، وليس بين الله وبين علمه حد)([21]).
فعلِم الله تعالى لا يدرك على أي كيفية كما أن ذاته لا تدرك ؛ لأنه فوق وسعنا ومدركاتنا ، ولو كان بوسعنا معرفته لعرفنا الذات . والخوض في كيفيته مُهلكٌ ولا يزيد صاحبه إلا حيرةً وبعداً ؛ فقد روي عن عبد الرحمن بن عتيك القصير قال : سألت أبا جعفر ع عن شيء من الصفة فرفع يده إلى السماء ثم قال : تعالى الجبار ، من تعاطي ما ثم هلك)([22]).
وروي عنه ع : (تكلموا في خلق الله ولا تتكلموا في الله فإن الكلام في الله لا يزداد صاحبه إلا تحيرا)([23]).
وعن الإمام الصادق : (من نظر في الله كيف هو هلك)([24]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) شوارق الإلهام في شرح تجريد الكلام،ج5،ص148.
[2] ) انظر جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص112.
[3] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص120.
[4] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص115.
[5] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص128.
[6] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص139.
[7] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج2،ص197.
[8] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج٢،345.
[9] ) اللمعات العرشية،ص٢٩٩
[10] ) انظر نهاية الحكمة:المرحلة الثانية عشرة/الفصل الحادي عشر.
[11] ) انظر نهاية الحكمة:المرحلة الثانية عشرة/الفصل الحادي عشر.
[12] ) رسالة لقاء الله،ص20.
[13] ) جامع الأفكار وناقد الأنظار،ج٢،ص١١٢
[14] ) غافر : 83.
[15] ) الإسراء : 85.
[16] ) سورة آل عمران:7.
[17] توحيد الصدوق،ص56.
[18] ) أصول الكافي،ج1،ص43
[19] ) أصول الكافي،ج1،ص50
[20] ) أصول الكافي،ج2،ص388.
[21] ) توحيد الصدوق،ص138.
[22] ) أصول الكافي،ج1،ص94 . يقول العلامة المجلسي : (قوله:(من تعاطى):أي تناول بيان ما ثم من صفاته الحقيقية العينية (هلك) وضل ضلالا بعيدا،وفي القاموس : التعاطي: التناول،وتناول ما لا يحق،والتنازع في الأخذ،وركوب الأمر.مرآة العقول،ج1،ص327.
[23] ) أصول الكافي،ج1،ص92.
[24] ) أصول الكافي،ج1،ص93.