خرافات فلسفية (4) خرافة التعقل وإثبات الخالق ومجادلة الملحدين بالفلسفة

 

خرافة التعقل وإثبات الخالق ومجادلة الملحدين بالفلسفة
إن القرآن الكريم والحديث الشريف يدعوان إلى العقل ولم يغفلا جانب العقل والتعقل والتفكر ؛ فليست هذه الجوانب حكرا على الفلسفة ، وإذا كان العقل مقصورا على الفلسفة علينا أن نتساءل أين كان دور العقل قبل ظهور الفلسفة ؟!
والآيات في هذا المجال كثيرة كقوله تعالى : [إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]([1])
وقوله تعالى : [وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ]([2])
وقوله تعالى : [وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ]([3])
ومن الأحاديث في هذا الجانب على سبيل المثال ما روي عن أمير المؤمنين ع: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته . ويذكروهم منسي نعمته . ويحتجوا عليهم بالتبليغ . ويثيروا لهم دفائن العقول([4]).
وعنه ع: (بصنع الله يستدل عليه ، وبالعقول تعتقد معرفته ، وبالنظر تثبت حجته ، جعل الخلق دليلا عليه ، فكشف به عن ربوبيته)([5]).
وعنه ع : (الحمد لله الذي بطن خفيات الأمور . ودلت عليه أعلام الظهور . وامتنع على عين البصير . فلا عين من لم يره تنكره . ولا قلب من أثبته يبصره. سبق في العلو فلا شيء أعلى منه . وقرب في الدنو فلا شيء أقرب منه . فلا استعلاؤه باعده عن شيء من خلقه . ولا قربه ساواهم في المكان به . لم يُطلِع العقول على تحديد صفته . ولم يحجبها عن واجب معرفته . فهو الذي تشهد له أعلام الوجود . على إقرار قلب ذي الجحود تعالى الله عما يقول المشبهون به والجاحدون له علوا كبيرا)([6]).
وعن الإمام الصادق ع : (العجب من مخلوق يزعم أن اللّه يخفى على عباده وهو يرى أثر الصنع في نفسه بتركيب يبهر عقله ، وتأليف يبطل حجته)([7]).
ومما روي عن الإمام الصادق ع في قصور الدليل الحسي عن إدراك كنه الذات الإلهية : (وأعجب منهم جميعا المعطلة الذين راموا أن يدركوا بالحس ما لا يدرك بالعقل([8])فلما أعوزهم ذلك خرجوا إلى الجحود والتكذيب…فمن ذلك هذه الشمس التي تراها تطلع على العالم ولا يوقف على حقيقة أمرها ولذلك كثرت الأقاويل فيها ، واختلفت الفلاسفة المذكورون في وصفها ، فقال بعضهم هو فلك أجوف مملوء نارا…فإذا كانت هذه الشمس التي يقع عليها البصر ، ويدركها الحس ، قد عجزت العقول عن الوقوف على حقيقتها ، فكيف ما لطف عن الحس واستتر عن الوهم ؟! . فإن قالوا : ولم استتر ؟ قيل لهم : لم يستتر بحيلة يخلص إليها ، كمن يحتجب من الناس بالأبواب والستور. وإنما معنى قولنا استتر إنه لطف عن مدى ما تبلغه الأوهام، كما لطفت النفس وهي خلق من خلقه . وارتفعت عن إدراكها بالنظر فإن قالوا ولم لطف تعالى عن ذلك علوا كبيرا ؟ كان ذلك خطأ من القول ، لأنه لا يليق بالذي هو خالق كل شيء إلا أن يكون مباينا لكل شيء ، متعاليا عن شيء سبحانه وتعالى)([9]).
إن الماديين من الملحدين يقولون لا يوجد دليلٌ حسيٌ على وجود الله عز وجل وكل شي ما لم يقم عليه دليل حسي ينفون وجوده أو لا يقرون بوجوده على أقل تقدير مما يعني أن نظرية المعرفة والإدراك لديهم لا يتعدى حدود الحس والمادة.
وقد نُقض عليهم في الكتب التي تتحدث عن رد الإلحاد ونظرية المعرفة سواء كانت لمؤلفين إسلاميين أو غيرهم لأن الاقتصار على الدليل الحسي نظرية من نظريات المعرفة أو مدرسة من مدارسها وقد واجهت الرفض من قِبل اتجاهات متعددة.
وأفضل ما رُد به عليهم أن بعض الموجودات لم تكن مادية ومن ثم لا يمكن أن تدرك بالحس ومتعذرة المنال من خلال الدليل الحسي. وقد تحدث الإمام الصادق ع في نقض الدليل الحسي ورده قبل ألف سنة.
وأيضا الإمام الرضا ع بين قصور الدليل الحسي عن منال الذات المقدسة عندما قال له الزنديق : إذن إنه لا شيء إذ لم يدرك بحاسة من الحواس فقال ع : (ويلك لما عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنا أنه ربنا خلاف الأشياء)([10]).
إلى غير ذلك من الآيات والروايات المتضمنة دقائقها الجوانب العقلية ، فلم يكن العقل بمعزل عن النصوص الدينية في الجوانب المعرفية . ولم يهمل الأنبياء والأئمة عليهم السلام الدعوة إلى الله عز وجل ودحض شبهات المشككين التي هي من مهامهم الأساسية اتكالا على الفلاسفة منيطين الأمر بهم.كما أنهم عليهم السلام أقاموا الحجة والبرهان على مدعاهم ولم يكتفوا بالإدعاء المجرد حتى يأتي فيما بعد الفلاسفة ليقيموا الأدلة والبراهين عليها ؛ فمن الأخطاء قراءة النصوص الدينية في مجال علم الكلام قراءة نقلية اعتبارية لأن مضمون بعضها قائم على العقل فلا بد أن تقرأ بقراءة عقلية مضافا إلى حيثية النقل والاعتبار.
ولو أن حجج الله تعالى قصروا في إقامة البرهان لم تقم الحجة على العباد ولا سبيل في مؤاخذتهم وعقابهم على عدم الإيمان. وبعد هذا لا تغرنكم دعاوى أصحاب المنحى الفلسفي في إثبات الخالق ودحض الشبهات وكل ما لديهم فيه هو مأخوذ من المتكلمين ولم يأتوا بشيء وراء ذلك.
روي عن الإمام الرضا ع : (بصنع الله يستدل عليه وبالعقول يعتقد معرفته ، وبالفطرة تثبت حجته)([11]).
من المناظرات اللطيفة التي رواها الشيخ المفيد رحمه الله مناظرة جرت من قِبل أحد أصحاب الإمام الرضا ع مع أحد الملحدين :
دخل أبو الحسن علي بن ميثم على الحسن بن سهل وإلى جانبه ملحد قد عظمه والناس حوله ، فقال : لقد رأيت ببابك عجبا ، قال : وما هو؟ قال : رأيت سفينة تعبر بالناس من جانب إلى جانب بلا ملاح ولا ماصر([12])قال : فقال له صاحبه الملحد وكان بحضرته : إن هذا أصلحك الله لمجنون ، قال : فقلت : وكيف ذاك ؟ قال . خشب جماد لا حيلة له ولا قوة ولا حياة فيه ولا عمل كيف يعبر بالناس ؟
قال : فقال أبو الحسن : فأيهما أعجب هذا أو هذا الماء الذي يجري على وجه
الأرض يمنة ويسرة بلا روح ولا حيلة ولا قوى ، وهذا النبات الذي يخرج من
الأرض والمطر الذي ينزل من السماء تزعم أنت أنه لا مدبر لهذا كله وتنكر أن
تكون سفينة تحرك بلا مدبر وتعبر بالناس ؛ فبهت الملحد([13]).

وسيأتي إن شاء الله ما له صلة في ذلك تحت عنوان : (خرافة الأدلة الفلسفية على إثبات وجود الخالق) وغيره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) سورة البقرة : 164 .
[2] ) سورة الجاثية : 5 .
[3] ) سورة الرعد : 3 .
[4] ) نهج البلاغة،ص34.
[5] ) إرشاد المفيد،ج1،ص224.
[6] ) نهج البلاغة،ج1،ص97.الخطبة:49.ولا يخفى أن نهج البلاغة مليء بهذه الكلمات النورانية والدرر العلوية .
[7] ) الإهليلجة،ص69.
[8] ) أي إنه بالعقل لا يدرك فما بالك بإدراكه بالحس!وبعبارة أخرى:من باب أولى أن لا يُدرك من خلال الحس.
[9] ) توحيد المفضل،ص117ـ119.
[10] ) توحيد الصدوق،ص251.الاحتجاج،ج2،ص458.
[11] ) توحيد الصدوق،ص3.
[12] ) الماصِر في كلامهم الحبل يلقى في الماء ليمنع السفن عن السير حتى يؤدي صاحبها ما عليه من حق السلطان ، هذا في دجلة والفرات .لسان العرب،ج5،ص177.
[13] ) الفصول المختارة،ص76.ورواه العلامة المجلسي & في بحار الأنوار،باب:مناظرات الإمام الرضا وأصحابه،ج10،ص376 .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.