خرافات فلسفية (5) خرافة الأدلة الفلسفية على إثبات وجود الخالق

 

خرافات فلسفية (5) خرافة الأدلة الفلسفية على إثبات وجود الخالق
إن من الخرافات الشائعة عند أصحاب الاتجاه الفلسفي وعند غير المطلعين توهم مناقشة الملحدين وإثبات وجود الله تبارك وتعالى يكون من خلال الفلسفة ، مع أن الرد على الإلحاد من خلال الأمور العقلية ، وكل الردود على الملحدين تصب في هذا الجانب ؛ فلا أحد يناقش الملحدين بأصالة الوجود والماهية ، وقاعدة الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، والشيء ما لم يجب لم يوجد ، والوجود زائد على الماهية ، والعقول العشرة ، والمعدوم المطلق لا يخبر عنه إلى غيرها من الأبحاث الفلسفية . ولم تكن المناظرات قديما وحديثا بين المؤمنين والملحدين في إثبات وجدود الخالق في المطالب الفلسفية ، وإنما في المدركات العقلية حتى فيما لو كان الملحد فيلسوفا ؛ لأن أبحاث الفلسفة لم يكن من شأنها هذا المضمار ، كما أن الكتب المتأخرة للفلاسفة الإسلاميين عندما عقدوا أبحاث إثبات الخالق واصطلحوا عليه بـ : (الإلهيات بالمعنى الأخص) ما ذكروه فيه هو عبارة عن مطالب المتكلمين وما هو مطروح في مصنفاتهم ، وهذا هو شأن علم الكلام إثبات وجود الخالق وصفاته وإبطال دعاوى الملحدين والمجادلين .
وإذا ما أردنا مطالعة الكتب الفلسفية سنجد أن البراهين التي ذُكرت فيها عبارة عن برهان العلة والإمكان أو قل المفاهيم الذهنية للوجود ، ولنأخذ كتاب (نهاية الحكمة) ونتدرج مع البراهين التي ذُكرت فيه حتى نكون موضوعيين ونميط اللثام عن فكرة أو مقولة شائعة ــ مناقشة الملحدين بالفلسفة ــ ومن ثم ننظر هل لها واقع أم أنها تندرج تحت شائعات ومقولات لا أساس لها من الصحة.
إن السيد الطباطبائي ذكر في (نهاية الحكمة) البراهين المقامة على إثبات وجود الله تبارك وتعالى وكما هو عبر على إثبات : (الوجود الواجبي) والتي تكلم عنها في الفصلين الأول والثاني من المرحلة الثانية عشر ، وقد كان في مقدمتها برهان الصدقين إذ يقول : برهان الصديقين ، لما أنهم يعرفونه (تعالى) به لا بغيره . وهو كما ستقف عليه برهان إنّيٌّ يُسلك فيه من لازم من لوازم الوجود إلى لازم آخر وقد قُرر بغير واحد من التقرير : وأوجز ما قيل أن حقيقة الوجود إما واجبة وإما تستلزمها.
البرهان الثاني :
وأما البرهان الثاني الذي ساقه في الفصل الثاني هو قوله : أنه لا ريب أن هناك موجودا ما ، فإن كان هو أو شيء منه واجبا بالذات فهو المطلوب ، وإن لم يكن واجبا بالذات وهو موجود فهو ممكن بالذات بالضرورة ، فرجح وجوده على عدمه بأمر خارج من ذاته وهو العلة ، وإلا كان مرجحا بنفسه فكان واجبا بالذات وقد فرض ممكنا ، وهذا خلف.
وقد عبر عنه ببيان آخر : حصّل البيان السابق أن تحقق موجود ما ملازم لترجح وجوده إما لذاته فيكون واجبا بالذات ، أو لغيره وينتهي إلى ما ترجح بذاته ، وإلا دار أو تسلسل وهما مستحيلان.
البرهان الثالث :
برهان آخر أقامه الطبيعيون من طريق الحركة والتغير تقريره : أنه قد ثبت فيما تقدم ـ في مباحث القوة والفعل ـ أن المحرك غير المتحرك ، فلكل متحرك محرك غيره ، ولو كان المحرّك متحرّكا فله محرّك أيضا غيره ، ولا محالة تنتهي سلسلة المحرّكات إلى محرّك غير متحرّك دفعا للدور والتسلسل. وهو لبراءته من المادة والقوة ، وتنزهه عن التغير والتبدل ، وثباته في وجوده ، واجب الوجود بالذات أو ينتهي إليه في سلسلة علله.
البرهان الرابع :
برهان آخر أقامه الطبيعيون أيضا من طريق النفس الإنسانية . تقريره : أن النفس الإنسانية مجردة عن المادة ذاتا ، حادثة بما هي نفس بحدوث البدن ، لامتناع التمايز بدون الأبدان واستحالة التناسخ ـ كما بين في محله ـ فهي ممكنة مفتقرة إلى علة غير جسم ولا جسمانية ، أما عدم كونها جسما ، فلأنها لو كانت جسما كان كل جسم ذا نفس ، وليس كذلك ، وأما عدم كونها جسمانية ، فلأنها لو كانت جسمانية ، سواء كانت نفسا أخرى أو صورة جسمية أو عرضا جسمانيا ، كان تأثيرها بتوسط الوضع ، ولا وضع للنفس مع كونها مجردة ، على أن النفس لتجردها أقوى تجوهرا وأشرف وجودا من كل جسم وجسماني ، ولا معنى لعلية الأضعف الأخس للأقوى الأشرف . فالسبب الموجد للنفس أمر وراء عالم الطبيعة وهو الواجب (تعالى) بلا واسطة أو بواسطة علل مترتبة تنتهي إليه.
البرهان الخامس :
برهان آخر للمتكلمين من طريق الحدوث . تقريره : أن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهما حادثان ، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث فالأجسام كلها حادثة ، وكل حادث مفتقر إلى محدث ، فمحدثها أمر غير جسم ولا جسماني ، وهو الواجب (تعالى) ، دفعا للدور والتسلسل([1]). والحجة غير تامة ، فإن المقدمة القائلة : (إن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث) لا بيِّنة ولا مبيَّنة ، وتغير أعراض الجوهر عندهم غير ملازم لتغير الجوهر الذي هو موضوعها ، نعم لو بنى على الحركة الجوهرية تمت المقدمة ونجحت الحجة. وهذه الحجة كما ترى ـ كالحجج الثلاث السابقة ـ مبنية على تناهي العلل وانتهائها إلى علة غير معلولة هو الواجب (تعالى)([2]).انتهى
وعند التأمل في هذه البراهين نجد أن البرهان الأول هو تقسيمٌ للوجود الذهني بمفهومين إما واجب الوجود ــ كما يعبرون في الفلسفة لأن من يرى أسماء الله توقيفية لا يجوز نعته بأسماء لم ترد في النصوص الدينية ــ أي أوجد نفسه بذاته ، وإما غير واجب الوجود الذي يستلزم ويتطلب وجوده واجب الوجود.
وأقل ما يٌقال فيه أن الملحدين لا يقرون بحصر الوجود بمفهومين وعند التدقيق فيه نجد رجوعه وقيمته المعرفية تعود لقانون العلية : (كل معلول مفتقر لعلة) فلم يكن برهانا مستقلا عن البرهان الثاني الذي مفاده قانون العلية.
والبرهان الثالث الذي يُعرف ببرهان الحدوث نصت عليه أحديث أئمة الهدى صلوات الله عليهم ، وقد ذكر الشيخ الكليني في الجزء الأول من أصول الكافي باباً تحت عنوان : (حدوث العالم وإثبات المحدث) أورد فيه بعض تلك الأحاديث([3])فهو برهان مقتنص من النصوص الدينية ولك أن تسميه ببرهان المحدثين ولا فضل للفلاسفة الإسلاميين بتشييده ، والملاحظ أن السيد الطباطبائي أورد برهان المحدثين أو البرهان الروائي وعده من ضمن أدلة إثبات الخالق عز وجل بخلاف نظرة المبتدئين والمتحمسين للفلسفة يرون المحدثين لا وجود لهم ولا قيمة تذكر في خضم مباراة الملحدين.
والبرهان الرابع يندرج تحت مفاهيم الوجود الذهني ومن ثم يرجع إلى برهان العلية ويمكن التعبير عنه ببرهان العلية ولكن بطريق ذي مقدمات بعيدة.
والبرهان الخامس هو برهان الحدوث كالبرهان الثالث ولكن بتقرير آخر وقلنا أنه برهان نصت عليه النصوص الدينية.
والمصنف صرح برجوع البراهين الثلاثة لبرهان العلية بقوله المتقدم : (مبنية على تناهي العلل وانتهائها إلى علة غير معلولة هو الواجب تعالى). مما يعني أن هذه البراهين الثلاثة قيمتها المعرفية ترجع إلى قانون العلية وأيضا القيمة المعرفية للبرهان الأول والثاني ترجع لنفس النكتة .
وبرهان العلة والمعلول من مدركات العقل البشري ولم يكن مختصا بالفلسفة والفلاسفة ، ويعرفه حتى أعراب الصحراء وقد عبر عنه أحد أعرابها ببضع كلمات : البعرة تدل على البعير والروث على الحمير وآثار الأقدام على المسير. فسماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، أما تدل على الصانع الحليم العليم القدير ؛ فلا يتوهم أصحاب التوجه الفلسفي أن مناقشة الملحدين مختصة بهم ولا يمكن لغيرهم الدنو من هذا الميدان ، وبكل تأكيد الكثير منهم يعرف أن الأدلة الفلسفية عبارة عن البديهة العقلية ومدركات العقل الإنساني إلا أن الكشف عن ذلك لا يصب في مصلحة الفلسفة ولذا كان التغاضي عن بيانه مما لا بد منه.
ومن هنا أقول لأصحاب الاتجاه الفلسفي الذي يعرفون جيدا أن قيمة أدلتهم ترجع لبديهة العقل كفاكم تسطيحا للعقول وإضفاءً لكم من المزايا ما لا تستحقون ، ولا تضمروا في خلدكم قيمة الفلسفة ترجع لمدركات العقل وبداهته وإنما أعربوا عن ذلك وبينوه بكل جلاء ووضوح حتى تتصفون بشيء من الموضوعية والإنصاف ، كما أن على المبتدئين في الفلسفة أن لا تأخذهم حماسة الاتجاه الفلسفي ويجرون على سيرة أسلافهم من الانتقاص والتوهين للآخرين وإنما عليهم أن ينظروا للقيمة المعرفية التي لديهم هل تستوجب كل ذلك ــ ولو من خلال إرجاع المطالب الفلسفية إلى أصولها الأولية ــ أم أنها أدون من ذلك بكثير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) تعليل لقوله : (فمحدثها أمر غير جسم ولا جسماني) . لا لقوله : (وهو الواجب) ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يقال : وهو الواجب أو ما ينتهي إليه . ولا يرى المتكلم نفسه محتاجا إلى هذه الزيادة ، لأن ما ليس بجسم ولا جسماني منحصر عنده في الواجب ، فإنه ينفي التجرد عن غيره تعالى . تعليق الفياضي على نهاية الحكمة،ج4،ص1062.
[2] ) انظر نهاية الحكمة / المرحلة الثانية عشر .
[3] ) سأل عبد الكريم المعروف بابن أبي العوجاء الإمام الصادق عليه السلام : ما الدليل على حدث الأجسام ؟ فقال : إني ما وجدت شيئا صغيرا ولا كبيرا إلا وإذا ضم إليه مثله صار أكبر وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى ولو كان قديما ما زال ولا حال لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث وفي كونه في الأزل دخوله في العدم ولن تجتمع صفة الأزل والعدم والحدوث والقدم في شيء واحد ، فقال عبد الكريم : هبك علمت في جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت واستدللت بذلك على حدوثها فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدل على حدوثهن ؟ فقال العالم عليه السلام : إنما نتكلم على هذا العالم الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدل على الحدث من رفعنا إياه ووضعنا غيره ولكن أجيبك من حيث قدرت أن تلزمنا فنقول : إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ضم شيء إلى مثله كان أكبر وفي جواز التغيير عليه خروجه من القدم كما أن في تغييره دخوله في الحدث ليس لك وراءه شيء يا عبد الكريم فانقطع وخزي .أصول الكافي،ج1،ص56.
وعن الحسين بن خالد عن أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام أنه دخل عليه رجل فقال له : يا ابن رسول الله ما الدليل على حدث العالم ؟ قال : أنت لم تكن ثم كنت ، وقد علمت أنك لم تكون نفسك ولا كونك من هو مثلك.توحيد الصدوق،ص393.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.