خرافات فلسفية (24) خرافة حاجة الأصول إلى الفلسفة

 

خرافات فلسفية (24)
خرافة حاجة الأصول إلى الفلسفة
حسِب الكثيرون من دارسي علم الأصول أن الأبحاث الأصولية مليئة بالفلسفة ولا يمكن تجريدها من الأصول ، ولم يتفطنوا إلى أن تلك البحوث هي بحوث عقلية ترجع إلى الحصر العقلي والملازمات العقلية وكليات العقل وبديهياته ، ولكن تارة يُعبر عنها بمصطلحات فلسفية ، ولذا يمكن تجريدها من المصطلحات وصياغتها والتعبير عنها ببيان آخر ، كما أن بعض الأبحاث الفلسفية لا موجب لإقحامها في الأصول أصلا ، مثل بعض أبحاث : تعريف علم الأصول ، ومقدمة الواجب ، وامتناع الشرط المتأخر لاستحالة تقدم المعلول على علته زمانا ، وامتناع اجتماع الأمر والنهي ، وامتناع اجتماع الحكم الواقعي والظاهري لاستحالة اجتماع الضدين والمثلين ، مع أنه لا تضاد في الاعتباريات ، والاعتراض على عدم حجية الأصل المثبت بأن ذلك مستلزم للتفكيك بين اللوازم والملزوم([1])، ولم يتنبهوا إلى أن هذه الأبحاث هي أبحاث دخيلة على الأصول ، ولو تم تجريدها منه لم يختل فيه شيء . وسبب هذا التوهم أنهم بعد ما رؤوا أبحاثا فلسفية في الأصول حسبوها أصيلة فيه ، وغاب عنهم دخالتها ، وهذا هو حال الطالب إذا لم يتنبه يفوته الكثير وتغيب عنه حتى أساسيات العلم.
ومن هنا كان العلماء يقولون بتهذيب علم الأصول من الأبحاث الفلسفية النظرية لأنهم يرون إقحامها فيه مما لا مبرر له ، إلا بعض أصحاب المسلك الفلسفي طغى عليهم توجههم حتى صاروا يقرؤون كل شيء من خلال الفلسفة ، وعلى ما يبدو أن منهم من أدرج الفلسفة في الأصول ويرى ضرورتها فيه من باب الانتصار للفلسفة.
ولكن يرى السيد الطباطبائي & أن علم الأصول في غنًى حتى عن البحوث العقلية فضلا عن الأبحاث الفلسفية النظرية ومن هنا يقول في حاشيته على الكفاية : البرهان غير مستعمل في المباحث‌ الأصولية في الحقيقة إذ العقلاء لا يبنون في القضايا الاعتبارية المتداولة عندهم إلا على أصول بناءاتهم من ضرورة الحاجة أو اللغو ، وأما القضايا الأولية ، وما يتفرع عليها من النظرية فلا تنتج طلبا ولا هربا ، ولا وضعا ، ولا رفعا ، ولا ما ينتهى إلى ذلك بل تصديقا بنسب حقيقية نفس أمرية فافهم . ذلك مضافا إلى ما تحقق في محله : إن القضايا الاعتبارية من حيث‌ هي اعتبارية لا يقام عليها برهان([2]).
كما أن الشيخ مرتضى مطهري يرى فصل الأمور الاعتبارية (كعلم الأصول مثلا) عن الأمور النظرية البرهانية فيقول ما نصه : المفاهيم الحقيقية مترابطة بذواتها فأرضية الحركة الفكرية متوفرة بين هذه المفاهيم ، ومن هنا يمكن للذهن عبر تشكيل القياسات والبراهين المنطقية أن ينجح في الانتقال من حقائق إلى حقائق أخرى . أما في الاعتباريات فالعلاقة بين المحمولات والموضوعات اعتبارية ووضعية دائما ، وليس هناك أي مفهومٍ اعتباري ذي علاقة واقعية بمفهومٍ حقيقي أو بمفهوم اعتباري آخر ، ولذا تعدم أرضية الحركة الفكرية المنطقية للذهن في الاعتباريات ، وبعبارة أخرى أقرب للغة المنطق : لا يمكننا عبر دليل مؤلف من قضايا حقيقية (برهان) أن نثبت قضية اعتبارية ، كما لا يمكننا أن نثبت بدليل مؤلف من قضايا اعتبارية حقيقة من الحقائق ، ولا يمكننا أيضا أن نؤلف برهانا من قضايا اعتبارية ونستنتج أمرا اعتباريا منها . مثلا : في عالم القضايا الحقيقية لدينا الأمور التالية : تقدم الشيء على نفسه ، الترجيح بلا مرجح ، تقدم المعلول على علته ، التسلسل والدور في العلل ، توارد العلل المتعددة على المعلول الواحد ، صدور المعلولات المتعددة من العلة الواحدة ، وجود العرض بلا موضوع ، اجتماع العرضين المتماثلين أو المتضادين في موضوعٍ واحد ، التقدم الزماني المشروط بشرط (محال) . انتفاء الكل بانتفاء الجزء ، انتفاء المشروط بانتفاء الشرط ، انتفاء الممنوع بوجود المانع (ضروري) . جعل الماهية ، جعل المفاهيم الانتزاعية كالسببية والمسببية (غير معقول) .
يمكن في عالم الحقائق التمسك بهذه الأصول العامة للإثبات والنفي ، يعني في مورد أمر حقيقي يمكن الاتكاء على أحد الأصول العامة المتقدمة ، كاستحالة تقدم الشيء على نفسه ، والترجيح بلا مرجح ، واستنتاج نتيجة لإثبات أو نفي أمر ما . كما يمكن الاتكاء في موضوع العلة والمعلول الحقيقي على قانون امتناع تقدم المعلول على علته ، وامتناع التسلسل والدور في العلل ، وامتناع توارد العلل الكثيرة على المعلول الواحد ، وصدور المعلولات المتعددة من العلة الواحدة ، والاتكاء في العرض والموضوع الحقيقي على استحالة وجود العرض بلا موضوع واجتماع المثلين والضدين ، والاتكاء في موضوع الشرط والمشروط الحقيقي على امتناع تقدم المشروط على الشرط ، وفي موضوع الكل والجزء الحقيقي بانتفاء الكل بانتفاء الجزء . أما في العلة والمعلول الاعتباريين ، والشرط والمشروط الاعتباريين ، والعرض والموضوع الاعتباريين ، والجزء والكل الاعتباريين فلا يمكن التوسل بأي من هذه الأصول والقواعد ، والحصول على نتيجة منطقية ، لأن تقدم الشيء على نفسه والترجيح بلا مرجح وتقدم المعلول على علته و … في الاعتباريات ليس محالا ، وانتفاء الكل بانتفاء الجزء والمشروط بانتفاء الشرط و … ليس ضروريا في الاعتباريات ، وجعل الماهية والسببية و … ليس بأمر غير معقول في الاعتباريات . من هنا تتضح السلبية والخطورة البالغة للخلط بين الاعتباريات والحقائق من زاوية منطقية ، ويتضح أيضا أن الأدلة التي ترتكب هذا الخلط تفتقر إلى القيمة المنطقية ، سواء ارتكن الباحث لإثبات الحقائق إلى الأمور الاعتبـارية ، كما هو الحال في أغلب أدلة المتكلمين ، الذين استخدمـوا بشكل عام قاعدة الحسن والقبح وسائر المفاهيم الاعتبارية ، مبتغين من وراء ذلك الإفادة بذلك في أبحاث المبدأ والمعاد ، وكما هو الحال في كثير من أدلة الماديين ، الذين حسبوا أن أحكام الأمور الاعتبارية وسماتها صادقة في الأمور الحقيقية ، أم ارتكـن الباحث لإثبات الأمور الاعتبـارية إلى القواعـد والأصول الخاصة بالأمور الحقيقية ، وقد تقدمت أمثلتها في المتن أعلاه، نظير معظم الأدلة التي تستخدم عادةً في أبحاث علم أصول الفقه([3]).
ويقول غلام علي رجائي :
زارنا الإمام يوما في منزلنا بمعية أحد علماء تبريز الكبار اسمه الميرزا رضي وهو من تلامذة المرحوم الآخوند ولكن لم يكن له تلامذة كثيرون بسبب حالات خاصة أمتاز بها أما الإمام فقد كان عارفا بسوابقه ومنزلته العلمية ولذلك كانت تربطه به علاقة صداقة وثيقة وقد جاءت هذه الزيارة أيام الشتاء وكنا نضع في المنزل جهاز التدفئة (الكرسي) وكانت توجد عليه حاشية المرحوم الكمباني في الأصول ورغم أن الميرزا رضي كان من تلامذة المرحوم الآخوند إلا أنه كان يقول بلزوم تنقية البحوث الأصولية من المباحث الفلسفية لذلك فإنه عندما رأى حاشية الشيخ الكمباني قال بلهجة معترضة : أي كتاب هذا ؟! لقد خلطوا الفلسفة بالأصول([4]).
ويرى السيد علي السبزواري نجل المرجع الراحل السيد عبد الأعلى السبزواري & الفلسفة المسماة بالعلوم العقلية أوهاما أفسدت الفقه إذ يقول : إن الاهتمام بالروايات قد ضعف عند أهل العلم , مع أن معرفة علوم الأئمة ^ والاهتمام بمعارفهم هو الأصل والأساس في كل معرفة علمية , ولكن لا نرى ذلك في الحوزات العلمية , حيث لا يكاد أحد من الطلاب يحفظ حديثا , أو تكون له القدرة العلمية الكافية في فهم كلمات الأئمة ^ , أو يفسرها على الوجه المطلوب , فقد تركوا اللب وأخذوا بالقشور , واستغلوا الفراغ العلمي ليملؤوه بأوهام أسموها علوما , وصبوا جل اهتمامهم عليها , وقد كان علماء المتقدمون على دراية تامة بهذا الأمر , وأبدوا تخوفهم من ضياع الفقه وخروجه عن وظيفته المقررة شرعا , وهي الوصول إلى معارف الأئمة ^ ومراداتهم , ولكن المتأخرين دسّوا في هذا العلم علوما أخرى , وكان من أشدها قوةً عليه العلوم العقلية , فمسخ الفقه([5])وشوه صورته . ومن شاء الاستزادة فليراجع تاريخ فقه وسيرة الفقهاء في هذا الموضوع المهم([6]).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) إن كل موضوع له اثر شرعي لابد في ترتيب أثره عليه من إحراز ذلك الموضوع بالقطع أو بإمارة معتبرة أو بأصل عملي ، فإن أحرز بالقطع فلا إشكال ولا كلام في لزوم ترتيب آثار نفس ذلك الموضوع وآثار جوانبه . بيانه أن الشيء يتصور له جوانب أربعة : اللازم والملزوم والملازم والمقارن ; فحياة زيد ملزوم وتنفسه وتغذيه وتلبسه ونبات لحيته لوازم عقلية وعادية والتنفس بالنسبة إلى نبات اللحية ملازم ، وفيما لو حصل العلم الإجمالي بموت زيد وعمرو فموت كل منهما بالقياس إلى حياة الآخر مقارن ، ثم إنه لا إشكال في أن القطع بالشيء مستلزم للقطع بتحقق جميع لوازمه ، فحينئذ إذا كانت تلك الجوانب لها آثار شرعية فلا إشكال في لزوم ترتيب آثارها عند القطع بأصل الشيء لأن الجوانب أيضا تكون محرزة بالوجدان كنفس الشيء . وأما لو لم يحصل القطع وكان حياة زيد مثلا مشكوكة فمن الواضح أن الجوانب أيضا تكون مشكوكة بالوجدان ، إذ كما أن القطع بالملزوم مستلزم للقطع باللازم فكذلك الشك فيه مستلزم للشك فيه ، فإذا فرضنا قيام أمارة معتبرة على الشيء كإخبار البينة عن حياة زيد فلا إشكال في لزوم ترتيب آثار نفس الحياة من حرمة التصرف في ماله وحرمة تزويج زوجته ووجوب الإنفاق عليه فإنه معنى تصديق البينة في إخبارها ، وأما الآثار الشرعية المترتبة على الجوانب كما إذا كان ناذرا للتصدق بدرهم لو كان زيد متنفسا وبدينار لو كان متلبسا أو إذا نبت له لحية فالظاهر أيضا وجوب ترتيب تلك الآثار بمجرد قيام البينة على حياة زيد إذ لا إشكال في أن إخبار العادل بالحياة كما أنه حاك في نفس الحياة بالمطابقة حاك عن الجوانب بالملازمة والشارع كما أمر بالعمل على ما حكى عنه بالمطابقة أمر بالعمل على ما حكى عنه بالملازمة فيجب ترتيب آثار الجميع وهذا معنى ما يقال إن مثبتات الأمارة حجة ، ومرادهم أن الأمارة تثبت لوازم ما أدى إليه أيضا وجوانبه فيجب ترتيب آثارها . هذا حال الأمارات وأما الأصول العملية الجارية في الموضوع عند عدم الأمارة كاستصحاب حياة زيد مثلا فهل يثبت بها نفس الحياة ويجب ترتيب آثارها فقط أو يثبت بها آثار المستصحب وآثار جوانبه كالأمارة وجهان بل قولان :أشهرهما انه لا يثبت به الآثار نفسها وأما آثار الجوانب كما عرفت فلا تكاد تترتب بإجراء الاستصحاب في نفس الحياة ، فلو أريد إثبات تلك الآثار فلا بد من إجراء استصحاب آخر بالنسبة إلى كل من الجوانب لو كان لها حالة سابقة وجودية ; فاستصحاب الحياة ينفع لترتيب حرمة التصرف في ماله وأما لزوم التصدق بدرهم أو دينار في المثال السابق فإثباته يحتاج إلى إجراء الاستصحاب في نفس التنفس والتلبس وهذا معنى ما اشتهر من أن الأصل المثبت غير حجة ، ومرادهم أن الأصل الذي يراد به إثبات اللوازم للمستصحب ليترتب عليها آثارها لا يكون بحجة . فان قلت إذا حكم الشارع بحياة زيد مثلا بالاستصحاب فلازمه ترتيب آثار التنفس والتلبس ونحوهما أيضا إذ الملازمة بينهما واضحة عقلا وعادة فكيف يحكم بترتيب آثار الحياة دون آثارها . قلت المفروض أن أصل الحياة ولوازمها كلها مشكوكة وجدانا وحكم الشارع بترتيب الآثار تعبدا لم يثبت إلا في خصوص ما وقع مجرى الاستصحاب وهو الحياة فالجوانب لم تحرز بعد بالقطع ولا بحكم تعبدي بترتيب آثارها .اصطلاحات الأصول للمشكيني،ص59.
[2] ) حاشية الكفاية،ج1،ص15.
[3] ) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي،ج1،ص530.
[4] ) قبسات من سيرة الإمام الخميني (في ميدان التعليم الحوزوي)،ص163 .
[5] ) بعد تحكيم المباني الفلسفية في الأصول وترتيب الأثر عليها في الفقه .
[6] ) مباحث في المنظومة الروائية الشيعية ص84-85 .
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.