خرافات فلسفية (23) خرافة التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام
خرافات فلسفية (23)
خرافة التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام
إن التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام أمرٌ غير ممكن ، كما أن التوفيق بين المطالب الفلسفية ونصوص الدينية غير ممكن وإن سعوا إلى التوفيق بينهما مثل الذين راموا التوفيق بين : (الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد) و (قدم العالم) و (المعاد الروحاني) مع النصوص الدينية . وقد قيل أن الخواجة نصير الدين الطوسي أول من وفق بين الفلسفة وعلم الكلام وذلك في كتابه المشهور (تجريد الاعتقاد) ؛ وكان يقول الشيخ المظفر عن التوفيق بين الفلسفة والكلام : (الواضع لبذرتها الخواجا نصير الدين الطوسي في التوفيق بين الفلسفة والكلام)([1]).
ولكن ما هو المراد بذلك التوفيق هل أن الأبحاث الكلامية أيدت المطالب الفلسفية ؟ أم أن الأبحاث الفلسفية صيغت بصياغة كلامية ؟ أو أن الأبحاث الفلسفية أيدت المباني الكلامية ؟ أو المباني الكلامية صيغت بصياغة فلسفية ؟
والجواب : لم يحصل شيء من هذا القبيل إذ إن الخواجة الطوسي كل ما فعله في (تجريد الاعتقاد) هو أنه وضع المقاصد الأربعة المتعلقة بعلم الكلام بعد مقصدين متعلقين بالفلسفة لأن كتاب التجريد عبارة ستة مقاصد : منها مقاصد فلسفية مستقلة عن علم الكلام ، ومنها كلامية مستقلة عن الفلسفة ؛ فلم تدخل الفلسفة لعلم الكلام ، ودخولها لعلم الكلام كدخولها لعلم الأصول لا واقع له ، وإنما أُقحمت المطالب الفلسفية في الأصول في غير موضعها . بل إن الأبحاث الفلسفية التي أُدخلت لعلم الكلام تتنافى مع ضروريات الدين مثل بحث (علم الله حضوري أم حصولي) و (الشيء ما لم يجب لم يوجد) و (قدم العالم) وغيرها من المطالب الفلسفية التي تم التعرض لها تحت عناوين مستقلة في الكتاب ، كما أن المصطلحات الفلسفية التي زجت في علم الكلام مثل مصطلح : (واجب الوجود) ، (علة العلل) ، (أصل الأصول) ، (غيب الغيوب) ، (الضرورة الأزلية) ، (الطبيعة الواجبية) وغيرها مما نُعت الله عز وجل بها تتنافى مع القول بتوقيفية الأسماء الذي ذهب إليه علماؤنا تبعا للنصوص الدينية.
وبسبب تقاطع الفلسفة مع العقائد والجدل الدائر بينهما على بعض المطالب تُوهم الممازجة والتوفيق بينهما ، أو دخول الفلسفة لعلم الكلام . وموارد التقاطع أكثرها متعلقة بالباري عز وجل ـــ من قبيل قاعدة : الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد والشيء ما لم يجب لم يوجد والسنخية بين العلة والمعلول ؛ لأن الفلاسفة قالوا العلة الأزلية لا بد أن تكون علة لما يناسبها وهذا يعني التشبيه ـــ وهذه كلها مع عدم الدليل عليها يلزم منها المخالفة لضروريات الدين والتوحيد صريحا أو ظاهرا.
ولربما يستغرب بعض غير المتثبتين من كلامي وأقول لهم حتى لا تستغربوا يكفيكم أن تطالعوا المقاصد الأربعة في (تجريد الاعتقاد) المتعلقة بعلم الكلام ، والإلهيات بالمعنى الأخص التي تختص بوجود الخالق وصفاته في (نهاية الحكمة) وتطالعوا أيضا كتاب (الباب الحادي عشر) حتى تعرفوا أن المذكور فيها هو أمور عقلية ــ والمطالب المذكورة فيها أثناء الكتب الفلسفية مأخوذة من علم الكلام ــ قلما يوجد فيها مصطلح فلسفي.
والخبير الذي له القدرة على المطالعة والتشخيص يعرف ذلك جيدا ، ومن هنا السيد الطباطبائي في الميزان بعد أن ذكر أسماء الذين راموا التوفيق بين الدين والعرفان ، وبين الفلسفة والعرفان ، وبين الدين والفلسفة لم يذكر توفيق الخواجة بين الفلسفة وعلم الكلام بل هو لم يذكر التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام مطلقا لأن الغائر في بطون الكتب بعيدا عن صخب الغثاء يعلم جيدا أن لا توفيق حاصل في البين.
يقول السيد الطباطبائي في محاولات التوفيق : (رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفقوا بين الظواهر الدينية والعرفان كابن العربي وعبد الرزاق الكاشاني وابن فهد والشهيد الثاني والفيض الكاشاني.وآخرون أن يوفقوا بين الفلسفة والعرفان كأبي نصر الفارابي والشيخ السهروردي صاحب الإشراق والشيخ صائن الدين محمد تركه.وآخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية والفلسفة كالقاضي سعيد وغيره . وآخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره وكتبه وصدر المتألهين الشيرازي في كتبه ورسائله وعدة ممن تأخر عنه . ومع ذلك كله فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعي في قطع أصله إلا شدة في التعرق ، ولا في إخماد ناره إلا اشتعالا)([2]).
والشيخ باقر الإيرواني حفظه الله في درسه الأول لشرح كتاب التجريد طرح سؤالا : هل كتاب (تجريد الاعتقاد) كلامي أم فلسفي ؟ وأجاب أن هذا الكتاب فلسفيٌ كلاميٌ ، مما يعني قسما منه في الفلسفة وهما المقصدان الأولان من الكتاب ، وقسما آخر كلامي كما في المقاصد الأربعة المتبقية . وبعد ذلك ذكر أنه سمع من الشيخ جوادي الآملي ــ من خلال الإذاعة ــ يقول : أن الخواجة الطوسي كان غرضه إثبات خلافة أمير المؤمنين ×بعد النبي ’ إلا أنه قدم هذه المقدمة في الفلسفة.انتهى
وكأنه يريد لكتابه المتضمن لإثبات الوصية أن ينتشر بين المسلمين لأنه لو كان بعنوان الإمامة لم ينتشر للأسباب المعروفة من قبيل منعه في بعض البلدان ، أو تحريم قراءته وغير ذلك مما يعني أن فعله هذا أشبه بالمكيدة والحيلة في إيصال المراد لأكبر عدد من المسلمين.
وملخص ما تقدم أن التوفيق بين الفلسفة وعلم الكلام لا واقع له كما أنه لم يحصل شيء من قبيل صياغة العقائد بلغة فلسفية ، وبكل تأكيد المقصود من الفلسفة هو المطالب والأبحاث الفلسفية لا الأمور العقلية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) المقدمة الكاملة للأسفار،ص21 .
[2] ) تفسير الميزان،ج5،ص283.