هل أصل التصوف وأصوله يعود إلى الشيعة أم إلى العامة؟

 

(4) س : هل أصل التصوف وأصوله يعود إلى الشيعة أم إلى العامة؟

ج : إن أصل التصوف وأصوله يرجع إلى العامة لأنه إذا أردنا معرفة أصل التصوف وأصوله هل تعود إلى الشيعة أم إلى العامة ، علينا أن نعرف أوائل الصوفية الذين لا شك في تصوفهم ، ومن ثم معرفة معتقداتهم وتوجههم نحو الخلفاء ، حينها سيتضح أصل التصوف عند أتباع أهل البيت عليهم السلام ، أم أن أصله وأصوله عند أتباع الصحابة ومدرسة السقيفة.

إن مما لا شك فيه أن أوائل الصوفية وأقدمهم من التابعين خمسة وهم : الحسن البصري ، ومالك بن دينار ، وفرقد السبخي ، وأبو هاشم الكوفي  ، وسفيان الثوري تلميذ أبي هاشم الكوفي كما يأتي الكلام عنه .

يتحدث ابن عربي عن اجتماع الحسن البصري بفرقد السبخي ومالك بن دينار وحديثه معهم عن التصوف فيقول :  (هذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو فغوره بعيد والتلف فيه قريب فإن من لا معرفة له بالحقائق ولا بامتداد الرقائق ويقف على هذا المشهد من لسان صاحبه المتحقق به وهو لم يذقه ربما قال : أنا من أهوى ومن أهوى أنا فلهذا نستره ونكتمه وقد كان الحسن البصري إذا أراد أن يتكلم في مثل هذه الأسرار التي لا ينبغي لمن ليس من طريقها أن يقف عليها دعا بفرقد السبخي ومالك بن دينار ومن حضر من أهل الذوق وأغلق بابه دون الناس وقعد يتحدث معهم في مثل هذا الفن)([1]).

إن هذه الأسرار كما يحسبها ابن عربي هي الفكر الصوفي الذي انتشر بعد ذلك وأخذ يضلل المسلمين ، وإلى يومنا هذا نرى من يحسبها أسرارا جريا على نهج ابن عربي !

الحسن البصري

إن أول من مثل التصوف في الإسلام هو الحسن البصري (ت:110هـ) وكل سلسلة الصوفية ترجع إليه كما هو معروف ومشهور  في كتب الصوفية ، سواء الصوفية الذين ينتمون إلى الشيعة أم إلى العامة ، حيث لم يذكروا أحدا سبقه في التصوف ، وإن كانوا ينسبون تصوفه إلى أمير المؤمنين عليه السلام ليصححوا طريقتهم في النسك والعبادة ، وهذه النسبة المزعومة هي نسبة باطلة ولا دليل عليها وأين طريقة البصري المذمومة في الأحاديث من نهج أمير المؤمنين عليه السلام!

ومن الذين نسبوا أصل التصوف للحسن البصري وأنه أخذه من أمير المؤمنين عليه السلام هو السيد حيدر الآملي حيث يقول : اعلم أنه قد صح وثبت بحكم النقل عند مشايخ الصوفية والخواص من أهل الله تعالى أن عليا أمير المؤمنين عليه السلام دخل على رسول اللّه صلى الله عليه وآله فقال له : يا رسول اللّه دلني على أقرب الطرق إلى اللّه تعالى وأفضلها عند اللّه وأسهلها على عباده . فقال له صلى الله عليه وآله  : عليك يا علي بما نلت ببركة النبوة  فقال علي عليه السلام ما هذا يا رسول اللّه ؟ قال صلى الله عليه وآله : ذكر اللّه تعالى  ، قال علي عليه السلام : هكذا فضيلة الذكر وكل الناس ذاكرون قال رسول اللّه صلى الله عليه وآله : مه  يا علي لا تقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول : اللّه اللّه  ثم قال : أنصت  يا علي حتى أنا أقول ثلاث مرات وأنت تسمع منى فإذا أنا سكت فقل أنت حتى أنا اسمع منك . هكذا لقن رسول اللّه صلى الله عليه وآله  عليا عليه السلام ثم لقن علي الحسن البصري . ثم لقن الحسن حبيبا العجمي . ثم لقن الحبيب داود الطائي . ولقن داود معروف الكرخي . ولقن المعروف سري السقطي . وهو لقن أبا القاسم الجنيد بن محمد البغدادي . ولقن الجنيد ممشاد الدينوري . ولقن ممشاد أحمد الأسود الدينوري . ولقن احمد محمد البكري السهروردي، المعروف بعمويه . ولقن محمد بن عبد اللّه البكري القاضي وحيد الدين عمر بن محمد البكري . ولقن هو أبا النجيب عبد القاهر السهروردي . وهو لقن شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي البكري . ولقن هو معين الدين من أصحاب شيخ شيوخ بلاد الروم . ومعين الدين لقن هذا الفقير أحمد بن مسعود ببلد قونية . وكان  قدس اللّه سره  لقن شيخي وشيخ أبي وجدي . ولقن هذا الفقير محمد بن علي بن محمد المعروف بالزاهد الأصفهاني . ولقن هو هذا الفقير محمد بن أبي بكر السمناني ، المذكور أعلاه ، من عاشر جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة([2]).

وخبر تلقين أمير المؤمنين عليه السلام للحسن البصري لم يرد في مصادرنا ويبدو أنه من موضوعات الصوفية ، بل هو يقول أنه منقول عن مشايخ الصوفية كما في عبارته المتقدمة : (قد صح وثبت بحكم النقل عند مشايخ الصوفية والخواص).

وقد كان الحسن البصري من أتباع الخلفاء ومبغضا لأمير المؤمنين عليه السلام ، وكان يمنع الناس في مواعظه من امتثال أمره والقتال معه . ويأتي ما ورد فيه من ذم من قِبل الأئمة عليهم السلام تحت عنوان (لقاءات الحسن البصري بالأئمة وذمهم له) وذكرت فيه وصف الأمير  له بأنه سامري هذه الأمة ، ودعائه عليه السلام عليه بعد ما كان متأسفا على قتل أصحاب الجمل فلا يُشك بعدم انتسابه لأهل البيت عليهم السلام وسيرته وتوجهه نحو الخلفاء.

ومما رواه ابن جرير في سيرة الحسن البصري : كان ممن خرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث وتخلف عن الحسين بن علي عليه السلام ثم خرج في جند الحجاج إلى خراسان مع قتيبة بن مسلم وهو القائل في عثمان قتله الكفار وخذله المنافقون فنسب المهاجرين والأنصار إلى النفاق([3]).

ويُعد الحسن البصري أول من صنف كتابا في التصوف أسماه (رعاية حقوق الله) يمكن تصنيفه كأول كتاب في التصوف ، والنسخة الوحيدة لهذا الكتاب موجودة في اكسفورد ، ويدعي نيكلسون أن أول مسلم كتب حول منهج حياة الصوفية كان الحسن البصري ، وقد بين طريقة في التصوف والوصول إلى المقامات العالية مازال العلماء يشرحونها حتى اليوم([4]).

لقائه مع أمير المؤمنين عليه السلام :

إن أمير المؤمنين عليه السلام وصف الحسن البصري بسامري الأمة كما روى الشيخ الطبرسي في الاحتجاج عن أبي يحيى الواسطي قال لما افتتح أمير المؤمنين عليه السلام البصرة اجتمع الناس عليه وفيهم الحسن البصري ومعه الألواح فكان كلما لفظ أمير المؤمنين عليه السلام بكلمة كتبها فقال أمير المؤمنين عليه السلام بأعلى صوته ما تصنع ؟ فقال نكتب آثاركم لنحدث بها بعدكم فقال أمير المؤمنين عليه السلام أما إن لكل قوم سامري وهذا سامري هذه الأمة أما إنه لا يقول لا مساس ولكن يقول لا قتال([5]).

ومر أمير المؤمنين عليه السلام بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال : يا حسن أسبغ الوضوء . فقال : يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس أناسا يشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، يصلون الخمس ، ويسبغون الوضوء . فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا . فقال : والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين لقد خرجت في أول يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت علي سلاحي وأنا لا أشك في أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فلما انتهيت إلى موضع من الخريبة ناداني مناد : (يا حسن إلى أين أرجع فإن القاتل والمقتول في النار) فرجعت ذعرا وجلست في بيتي ، فلما كان في اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين عائشة هو الكفر ، فتحنطت ، وصببت علي سلاحي وخرجت أريد القتال ، حتى أنهيت إلى موضع من الخريبة فناداني مناد من خلفي : (يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى فإن القاتل والمقتول في النار) قال علي عليه السلام : صدقك أفتدري من ذلك المنادي ؟ قال : لا . قال عليه السلام : ذلك أخوك إبليس ، وصدقك أن القاتل والمقتول منهم في النار ، فقال الحسن البصري الآن عرفت يا أمير المؤمنين أن القوم هلكى([6]).

إن هذه من المكاشفات التي حدثت للحسن البصري وهو يجهل تفسيرها ومصدرها ، ولربما كان يعدها نورا من الفيض الأقدس ، أو كشفا شهوديا في فص قدوسي كما كان يعنون أبن عربي موضوعات فصوص الحكم بأمثال هذه العناوين.

ولا غرو في ذلك فهذا ابن عربي يثني على الحسن البصري أيما ثناء ويعده من الخواص وحملة الأسرار كما تقدم قوله : (هذا الفن من الكشف والعلم يجب ستره عن أكثر الخلق لما فيه من العلو فغوره بعيد والتلف فيه قريب فإن من لا معرفة له بالحقائق ولا بامتداد الرقائق ويقف على هذا المشهد من لسان صاحبه المتحقق به وهو لم يذقه ربما قال : أنا من أهوى ومن أهوى أنا فلهذا نستره ونكتمه وقد كان الحسن البصري إذا أراد أن يتكلم في مثل هذه الأسرار التي لا ينبغي لمن ليس من طريقها أن يقف عليها دعا بفرقد السبخي ومالك بن دينار ومن حضر من أهل الذوق وأغلق بابه دون الناس وقعد يتحدث معهم في مثل هذا الفن)([7]).

صلوات الله على أمير المؤمنين لولاه ما عرف البصري كشفه الشيطاني،وحسبه ومريدوه نورا من كشف الأزل!!

وروى قطب الدين الراوندي : أن عليا عليه السلام رأى الحسن البصري يتوضأ في سقية ، فقال : أسبغ طهورك يا فتى . قال : لقد قتلت بالأمس رجالا كانوا يسبغون الوضوء . قال : وإنك لحزين عليهم ؟ قال : نعم . قال : فأطال الله حزنك . قال أيوب السجستاني : فما رأينا الحسن قط إلا حزينا ، كأنه يرجع عن دفن حميم أو كأنه خربندج([8]) ضل حماره([9]).

 مع الإمام الحسن عليه السلام :

كتب الحسن بن أبي الحسن البصري  إلى أبي محمد الحسن بن علي ‘ أما بعد فإنكم معشر بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة والأعلام النيرة الشاهرة أو كسفينة نوح عليه السلام التي نزلها المؤمنون ونجا فيها المسلمون. كتبت إليك يا أبن رسول الله عند اختلافنا في القدر وحيرتنا في الاستطاعة ، فأخبرنا بالذي عليه رأيك ورأي آبائك عليهم السلام ؟ فإن من علم الله علمكم وأنتم شهداء على الناس والله الشاهد عليكم ، ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. فأجابه الحسن عليه السلام : بسم الله الرحمن الرحيم وصل إلي كتابك ولولا ما ذكرته من حيرتك وحيرة من مضى قبلك إذا ما أخبرتك ، أما بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أن الله يعلمه فقد كفر . ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر، إن الله لم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا ولم يهمل العباد سدى من المملكة بل هو المالك لما ملكهم والقادر على ما عليه أقدرهم ، بل أمرهم تخييرا ونهاهم تحذيرا فإن ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادا وإن انتهوا إلى معصية فشاء أن يمن عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل وإن لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبرا ولا ألزموها كرها بل من عليهم بأن بصرهم وعرفهم وحذرهم وأمرهم ونهاهم لا جبلا لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة ولا جبرا لهم على ما نهاهم عنه ولله الحجة البالغة فلو شاء لهديكم أجمعين والسلام على من اتبع الهدى([10]).

لقائه مع الإمام السجاد عليه السلام :

أتى عليه السلام يوما الحسن البصري وهو يقص عند الحجر فقال أترضى يا حسن نفسك للموت قال لا قال فعملك للحساب قال لا قال فثم دار للعمل غير هذه الدار قال لا قال فلله في أرضه معاذ غير هذا البيت قال لا قال فلم تشغل الناس عن الطواف([11]).

وروي أن زين العابدين عليه السلام مر بالحسن البصري وهو يعظ الناس بمنى فوقف عليه السلام عليه ثم قال : امسك أسألك عن الحال التي أنت عليها مقيم ، أترضاها لنفسك فيما بينك وبين الله إذا نزل بك غدا ؟

قال : لا.

قال : أفتحدث نفسك بالتحول والانتقال عن الحال التي لا ترضاها لنفسك إلى الحال التي ترضاها ؟

فأطرق مليا ثم قال : إني أقول ذلك بلا حقيقة.

قال : أفترجو نبيا بعد محمد صلى الله عليه وآله يكون لك معه سابقة ؟

قال : لا.

قال : أفترجو دارا غير الدار التي أنت فيها ترد إليها فتعمل فيها ؟

قال : لا.

قال : أفرأيت أحدا به مسكة عقل رضي لنفسه من نفسه بهذا ؟ إنك على حال لا ترضاها ولا تحدث نفسك بالانتقال إلى حال ترضاها على حقيقة ، ولا ترجو نبيا بعد محمد ، ولا دار غير الدار التي أنت فيها فترد إليها فتعمل فيها ، وأنت تعظ الناس([12]).

لقائه مع الإمام الباقر عليه السلام :

روي عن أبي حمزة الثمالي قال : أتى الحسن البصري أبا جعفر عليه السلام فقال : جئتك لا سألك عن أشياء من كتاب الله .

فقال أبو جعفر : ألست فقيه أهل البصرة ؟

قال : قد يقال ذلك .

فقال له أبو جعفر عليه السلام : هل بالبصرة أحد تأخذ عنه ؟

قال : لا.

قال : فجميع أهل البصرة يأخذون عنك ؟

قال : نعم .

فقال أبو جعفر : سبحان الله لقد تقلدت عظيما من الأمر ، بلغني عنك أمر فما أدري أكذاك أنت ، أم يكذب عليك ؟

قال : ما هو ؟

قال : زعموا أنك تقول : إن الله خلق العباد ففوض إليهم أمورهم.

قال : فسكت الحسن.

فقال : رأيت من قال الله له في كتابه : إنك آمن ، هل عليه خوف بعد هذا القول منه .

فقال الحسن : لا.

فقال أبو جعفر عليه السلام : إني أعرض عليك آية وأنهي إليك خطابا ، ولا أحسبك إلا وقد فسرته على غير وجهه ، فإن كنت فعلت ذلك فقد هلكت وأهلكت.

فقال له : ما هو؟

قال : أرأيت حيث يقول : [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ]([13]) يا حسن بلغني أنك أفتيت الناس فقلت : هي مكة . فقال أبو جعفر عليه السلام : فهل يقطع على من حج مكة ، وهل يخاف أهل مكة ، وهل تذهب أموالهم ؟

قال : بلى قال : فمتى يكونون آمنين ؟ بل فينا ضرب الله الأمثال في القرآن، فنحن القرى التي بارك الله فيها ، وذلك قول الله U ، فمن أقر بفضلنا حيث أمرهم بأن يأتونا فقال : [وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا] أي جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى التي باركنا فيها ، قرى ظاهرة ،  والقرى الظاهرة الرسل ، والنقلة عنا إلى شيعتنا ، وفقهاء شيعتنا ، إلى شيعتنا ، وقوله تعالى : [وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ] فالسير مثل للعلم ، سير به ليالي وأياما ، مثل لما يسير من العلم في الليالي والأيام عنا إليهم ، في الحلال والحرام ، والفرائض والأحكام ، آمنين فيها إذا أخذوا منه ، آمنين من الشك والضلال ، والنقلة من الحرام إلى الحلال ، لأنهم أخذوا العلم ممن وجب لهم أخذهم إياه عنهم ، بالمعرفة، لأنهم أهل ميراث العلم من آدم إلى حيث انتهوا ، ذرية مصطفاة بعضها من بعض ، فلم ينته الاصطفاء إليكم ، بل إلينا انتهى ، ونحن تلك الذرية المصطفاة لا أنت ولا أشباهك يا حسن ، فلو قلت لك حين دعيت ما ليس لك ، وليس إليك يا جاهل أهل البصرة ! لم أقل فيك إلا ما علمته منك، وظهر لي عنك ، وإياك أن تقول بالتفويض ، فإن الله U لم يفوض الأمر إلى خلفه وهنا منه وضعفا ، ولا أجبرهم على معاصيه ظلما([14]).

وعن سدير الصيرفي قال : قلت لأبي جعفر : حديث بلغني عن الحسن البصري فإن كان حقا فإنا لله وإنا إليه راجعون ، قال : وما هو ؟ قلت : بلغني أن الحسن البصري كان يقول : لو غلا دماغه من حر الشمس ما استظل بحائط صيرفي ، ولو تفرث كبده عطشا لم يستسق من دار صيرفي ماءً ، وهو عملي وتجارتي وفيه نبت لحمي ودمي ، ومنه حجي وعمرتي ، فجلس ثم قال : كذب الحسن خذ سواء وأعط سواء ، فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك وانهض إلى الصلاة ، أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة([15]).

وعن عبد الله سليمان قال سمعت أبا جعفر عليه السلام وعنده رجل من أهل البصرة يقال له عثمان الأعمى وهو يقول أن الحسن البصري يزعم أن الذين يكتمون العلم يؤذى ريح بطونهم أهل النار فقال أبو جعفر عليه السلام فهلك إذا مؤمن آل فرعون وما زال العلم مكتوما منذ بعث الله نوحا عليه السلام فليذهب الحسن ــ يعني البصري ــ يمينا وشمالا فوالله ما يوجد العلم إلا هيهنا([16]).

وروي عن علي بن محمد بن قتيبه قال سُئل أبو محمد الفضل بن شاذان عن الزهاد الثمانية فقال : الربيع بن خيثم ، وهرم بن حيان ، وأويس القرني ، وعامر بن عبد قيس ، فكانوا مع علي عليه السلام ومن أصحابه وكانوا زهادا أتقياء ، وأما أبو مسلم فإنه كان فاجرا مرائيا وكان صاحب معاوية ، وهو الذي كان يحث الناس على قتال علي عليه السلام وقال لعلي عليه السلام : أدفع إلينا المهاجرين والأنصار حتى نقتلهم بعثمان ، فأبى علي عليه السلام ذلك ، فقال أبو مسلم : الآن طاب الضراب ، وإنما كان وضع فخا ومصيدة ، وأما مسروق ، فإنه كان عشارا لمعاوية ، ومات في عمله ذلك بموضع أسفل من واسط على دجلة يقال له الرصافة وقبره هناك ، والحسن كان يلقي كل أهل فرقة بما يهوون ، ويتصنع للرئاسة ، وكان رئيس القدرية ، وأويس القرني مفضل عليهم كلهم([17]).

وذكر النجاشي في رجاله عند ترجمة الفضل بن شاذان أنه له كتاب الرد على الحسن البصري في التفضيل([18]).

إن سيرة الحسن البصري تدل على أنه لم يكن من أتباع أهل البيت عليهم السلام بل على العكس من ذلك كما يظهر من ذم الأئمة له.

مالك بن دينار

إن مالك بن دينار (ت:123هـ) لم يكن من أتباع أهل البيت عليهم السلام ويدل عليه أمران :

الأول : أنه روى في مناقب الخليفة الثاني كما في المستدرك على الصحيحين حيث روي عن مالك بن دينار قال : سمع صوت بجبل تبالة حين قتل عمر بن الخطاب : ليبك على الإسلام من كان باكيا فقد أوشكوا هلكى وما قدم العهد وأدبرت الدنيا وأدبر  خيرها وقد ملها من كان يوقن بالوعد . فنظروا فلم يروا شيئا([19]).

والثاني : هو أنه كان ضمن رواة العامة ووقع في سلسلة رواتهم كما روى الطبراني : عن مالك بن دينار عن الأحنف بن قيس قال : قال لي عمر بن الخطاب :  يا أحنف  من كثر ضحكه قلت هيبته  من مزح استخف به  ومن أكثر من شيء عرف به ومن كثر كلامه كثر سقطه ومن كثر سقطه قل حياؤه ومن قل حياؤه قل ورعه ومن قل ورعه مات قلبه([20]).

إن هذا الكلام هو من كلام أمير المؤمنين عليه السلام نسبه ابن دينار للخليفة الثاني ، كما كان الحسن البصري يحدث بكلام أمير المؤمنين ولا ينسبه إليه ، وتقدم ذكر ذلك عند الحديث عن سيرة البصري وأحواله ، ولربما عدم نسبة مالك بن دينار لأمير المؤمنين عليه السلام بسبب خوفه من الحكام كما صرح بذلك الحسن البصري ، أو أنه نسبه للخليفة الثاني تزلفا إليه أو إلى ولاته.

وأيضا روى الطبراني : عن مالك بن دينار عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : أتيت ليلة أسري بي على سماء الدنيا  فإذا فيها رجال تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : يا جبريل من هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء خطباء أمتك([21]).

ولا بأس بنقل شيء من منامات مالك بن دينار كما هي عادة الصوفية الاعتماد على المنامات :

روي عن علي بن مسلم حدثنا سيار حدثنا جعفر قال سمعت مالك بن دينار يقول رأى رجل في المنام كأن مناديا ينادي أخبروا الناس أن عامر بن عبد الله يلقى الله تعالى يوم يلقاه ووجهه مثل القمر ليلة البدر([22]).

وعن بنت ابراهيم الأزدية قالت حدثتني أمي قالت قال مالك بن دينار : رأيت مسلم بن يسار فسلمت عليه فلم يرد علي السلام فقلت لم لا ترد علي السلام قال أنا ميت فكيف أرد السلام فقلت ماذا لقيت يوم الموت قال قد لقيت أهوالا وزلازل عظاما شدادا قلت وماذا كان بعد ذلك قال وما تراه يكون من الكريم قبل منا الحسنات وعفا لنا عن السيئات وضمن عنا التبعات قالت فكان مالك يحدث بهذا وهو يبكي ويشهق ثم يغشى عليه فلبث بعد ذلك أياما مريضا ثم مات في مرضه فكنا نرى أن قلبه انصدع([23]).

ومن أقواله المخالفة لأحكام الدين : لا يبلغ الرجل منزلة الصديقين حتى يترك زوجته كأنها أرملة ويأوي إلى مزابل الكلاب([24]).

فرقد السبخي

إن فرقد السبخي (ت:131هـ) وقع في عداد رواة العامة وهذا يدل على أنه لم يكن من أتباع أهل البيت عليهم السلام، مضافا إلى ذلك وقع في سلسلة ما روى عن أبي بكر وأبي هريرة ، وأنس بن مالك ، أما أخباره عن أبي بكر فقد روي عنه جملة من الأخبار أكتفي بخبرين منها على سبيل المثال : روى الترمذي : عن فرقد السبخي عن مرة الطيب عن أبي بكر : عن النبي صلى الله عليه وآله قال لا يدخل الجنة خب ولا منان ولا بخيل([25]).

والخبر الثاني : عن فرقد السبخي عن مرة الطيب عن أبي بكر  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا يدخل الجنة سيء الملكة فقال رجل يا رسول الله أليس أخبرتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأيتاما قال بلى فأكرموهم كرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون قالوا فما ينفعنا في الدنيا يا رسول الله قال فرس صالح ترتبطه تقاتل عليه في سبيل الله ومملوكك يكفيك فإذا صلى فهو أخوك فإذا صلى فهو أخوك([26]).

ومما رواه عن أبي هريرة : عن فرقد عن يزيد بن عبد الله بن الشخير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله قال : أكذب الناس أو من أكذب الناس الصواغون والصباغون([27]).

وفي روايته عن أنس بن مالك يقول الذهبي : قيل إنه روى عن أنس بن مالك([28]).

ولكن السبخي وإن كان من رواة العامة إلا أنه غير مقبول الحديث عند أغلبهم يقول المزي : قال البخاري : في حديثه مناكير . وقال الترمذي : تكلم فيه يحيى بن سعيد وروى عنه الناس وقال النسائي : ليس بثقة . وقال يعقوب بن شيبة : رجل صالح ، ضعيف الحديث جدا . وقال أَبو حاتم  : ليس بقوي في الحديث. وقال أبو أحمد بن عدي : كان يعد من صالحي أهل البصرة . وليس هو كثير الحديث([29]).

ومن حكاياته ولقائه مع الحسن البصري : دعي الحسن البصري إلى طعام فنظر إلى فرقد السبخي وعليه جبة صوف فقال : يا فرقد لو شهدت الموقف لخرقت ثيابك مما ترى من عفو الله U([30]).

أبو هاشم الكوفي

إن أبا هاشم الكوفي (ت:150هـ أو152هـ) : لا يوجد ما يدل على تشيعه بل على العكس تماما كما يقول عنه صاحب (طرائق الحقائق) : كان أمويا وجبريا في الظاهر وباطنيا ودهريا في الباطن وكان مراده من وضع هذا المذهب أن يثير الاضطراب في الإسلام([31]).

ويقول فيه حبيب الله الخوئي نقلا عن حديقة الشيعة للمقدس الأردبيلي: وكان غرض هذا الملعون من وضع مذهب التصوف هدم مذهب الإسلام([32]).

وقد ورد الطعن عليه في الأخبار يقول الشيخ عباس القمي : عن قرب الإسناد للشيخ الأقدم علي بن بابويه القمي عن سعد بن عبد اللّه عن محمد بن عبد الجبار عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال : سئل أبو عبد اللّه ، يعني جعفر الصادق عليه السلام عن حال أبي هاشم الكوفي فقال عليه السلام : إنه كان فاسد العقيدة جدا وهو الذي ابتدع مذهبا يقال له التصوف وجعله مفرا لعقيدته الخبيثة ، ورواه بسند آخر عنه عليه السلام وفيه : وجعله مفرا لنفسه الخبيثة وأكثر الملاحدة وجنة لعقائدهم الباطلة([33]).

 سفيان الثوري

إن سفيان الثوري (ت:155هـ) كان تلميذ أبي هاشم الكوفي وقد نقل عبد الرحمن الجامي قول الثوري فيه : ما علمت معنى الصوفي حتى رأيت أبا هاشم الصوفي([34]).

وأيضا قال الثوري فيه : لولا أبو هاشم الصوفي ما عرفت دقيق الرياء([35]).

وكان سفيان الثوري من أبرز صوفية العامة حتى جعل أبو زرعة الطعن فيه من علامة الرافضة : (إذا رأيت الكوفي يطعن على سفيان الثوري وزائدة فلا تشك أنه رافضي)([36]).

والشيعة تركوه لأنه كان يبغض التحدث بفضائل أمير المؤمنين عليه السلام كما روى الذهبي : (عن سفيان ، قال : تركتني الروافض ، وأنا أبغض أن أذكر فضائل علي)([37]).

وكان يقول لو أدركت عليا ما خرجت معه كما روى أحمد بن محمد الخلال (ت:311هـ) عن يحيى بن آدم ، يقول : سمعت سفيان الثوري ، يقول : لو أدركت عليا ما خرجت معه ، قال : فذكرته للحسن بن صالح ، فقال : قل له يحكي هذا عنك ؟ فقال سفيان : ناد به عني على المنار([38]).

وفي خبر آخر رواه الخلال أيضا ما كان يحب لو أنه خروج مع أمير المؤمنين عليه السلام : عن إبراهيم ابن أخت سكن الزيات قال : سمعت سفيان بن سعيد يقول : ما أحب أني كنت شهدت مع علي ، قال : فحدثت به الحسن بن صالح عنه ، فقال الحسن : قل لسفيان : يروى هذا الحديث عنك ؟ فقدمت الكوفة ، فقلت لسفيان : يا أبا عبد الله ، إني حدثت الحسن بن صالح بقولك في هذا ، فقال : قل لسفيان : يروى هذا عنك ؟ قال : قال سفيان : نعم ، لينادى به على المنار ، أو على الصومعة([39]).

وكان سفيان الثوري يفضل الشيخين على أمير المؤمنين عليه السلام كما روى ابن جرير الطبري قول أبي نعيم فيه : كان سفيان الثوري، يقدم الشيخين ، فقال له الرجل : جزاك الله عن السنة خيرا ومضى ، فقال أبو نعيم : أنظروا إلى هذا ابن الرعناء والله ليوم من علي أكثر من ملا الأرض مثلها وأنه لمولاهما([40]).

وما كان يرتضي أن يزيد حب أمير المؤمنين عليه السلام على حب الشيخين كما روي عن المسيب بن واضح ، قال سمعت عبد الوهاب الحلبي يقول سألت سفيان الثوري ونحن نطوف بالبيت عن الرجل يحب أبا بكر و عمر ، إلا أنه يجد لعلي من الحب ما لا يجد لهما ، قال : هذا رجل به داء ينبغي أن يسقى دواء([41]).

وكان يكفر من يسب أبا بكر كما روى الذهبي : عن هارون ابن زياد المصيصي ، سمعت الفريابي ، سمعت سفيان ورجل يسأله عن من يشتم أبا بكر ؟ فقال : كافر بالله العظيم . قال : نصلي عليه ؟ قال : لا ، ولا كرامة . قال : فزاحمه الناس حتى حالوا بيني وبينه ، فقلت للذي قريبا منه : ما قال ؟ قلنا : هو يقول : لا إله إلا الله ، ما نصنع به ؟ قال : لا تمسوه بأيديكم ، ارفعوه بالخشب حتى تواروه في قبره([42]).

وروى حديثا في فضل عمر بن العاص كما رواه أبو نعيم : حدثنا سفيان الثوري عن إسحاق بن يحيى ابن طلحة ، عن عمه موسى بن طلحة عن طلحة بن عبد الله أنه سمعه يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول في عمر بن العاص (إنه لرشيد)([43]).

ويقول ابن جرير الطبري في سفيان الثوري : كان في شرطة هشام بن عبد الملك وهو ممن شهد قتل زيد بن علي عليه السلام فلا يخلو من أن يكون ممن قتله أو خذله([44]).

وقال العلامة المجلسي : الكذابون المتصنعون الذين كانوا في أعصار الأئمة عليهم السلام وكانوا يصدون الناس عن الرجوع إليهم كالحسن البصري وسفيان الثوري وأبي حنيفة وأضرابهم([45]).

والعلامة الحلي يقول فيه : سفيان الثوري : ليس من أصحابنا([46]).

ويقول ابن تيمية أن الثوري ترك الجهر بالبسملة لأنه كان من شعار الرافضة : (إن المعروف في العراق أن الجهر بالبسملة كان من شعار الرافضة وأن القنوت في الفجر كان من شعار القدرية حتى إن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة لأنه كان عندهم من شعار الرافضة)([47]).

والثوري له جرأة وتطاول على الإمام الصادق عليه السلام ــ مما يؤيد كونه من العامة مضافا للشواهد التي تقدمت ــ روي في ذلك عدة روايات أذكر شطرا منها :

دخل سفيان الثوري على الإمام الصادق عليه السلام فرأى عليه ثياب بيض كأنها غرقئ البيض([48]) فقال له : إن هذا اللباس ليس من لباسك ، فقال له : اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا إن أنت مت على السنة والحق ولم تمت على بدعة أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في زمان مقفر جدب فأما إذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها ومؤمنوها لا منافقوها ومسلموها لا كفارها فما أنكرت يا ثوري فوالله إنني لمع ما ترى ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته([49]).

ومر سفيان الثوري في المسجد الحرام فرأى أبا عبد الله عليه السلام وعليه ثياب كثيرة القيمة حسان فقال : والله لآتينه ولأوبخنه فدنا منه ، فقال : يا ابن رسول الله ما لبس رسول الله صلى الله عليه وآله مثل هذا اللباس ولا علي عليه السلام ولا أحد من آبائك فقال له أبو عبد الله عليه السلام : كان رسول الله صلى الله عليه وآله في زمان قتر مقتر وكان يأخذ لقتره واقتداره وإن الدنيا بعد ذلك أرخت عزاليها فأحق أهلها بها أبرارها ثم تلا [قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ]([50]) ونحن أحق من أخذ منها ما أعطاه الله غير أني يا ثوري ما ترى علي من ثوب إنما ألبسه للناس ثم اجتذب يد سفيان فجرها إليه ثم رفع الثوب الأعلى وأخرج ثوبا تحت ذلك على جلده غليظا فقال : هذا ألبسه لنفسي وما رأيته للناس ، ثم جذب ثوبا على سفيان أعلاه غليظ خشن وداخل ذلك ثوب لين فقال : لبست هذا الأعلى للناس ولبست هذا لنفسك تسرها([51]).

وعن عبد الحميد بن سعيد : دخل سفيان الثوري على الإمام الصادق عليه السلام : فقال أصلحك الله بلغني انك صنعت أشياء خالفت فيها النبي صلى الله عليه وآله قال وما هي قال بلغني أنك أحرمت من الجحفة وأحرم رسول الله صلى الله عليه وآله من الشجرة وبلغني انك لم تستلم الحجر في طواف الفريضة وقد استلمه رسول الله صلى الله عليه وآله وبلغني أنك تركت المنحر ونحرت في دارك قال قد فعلت . قال فقال وما دعاك إلى ذلك قال فقال إن رسول الله صلى الله عليه وآله وقت الجحفة للمريض والضعيف فكنت قريب العهد بالمرض فأحببت أن اخذ برخص الله وأما استلام الحجر فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يفرج له وأنا لا يفرج لي وأما تركي المنحر ونحري في داري فإن رسول الله صلى الله عليه وآله قال مكة كلها منحر فحيث نحرت أجزأك([52]).

ومن أقوال سفيان الثوري : عليكم بدين العجائز([53]).

إن كل ما تقدم كان في سيرة أوائل الصوفية واثبات أنهم من العامة من خلال عدة شواهد ، فإذا ثبت أنهم من العامة يتضح أن التصوف نشأ في أوساط العامة ولا  محيص إلا أن نقول إنه عامي المنشأ .

حديثان يدلان على أن التصوف نشأ عند المخالفين

ومضافا إلى ذلك توجد روايات عن الأئمة عليهم السلام تدل على أن أصل التصوف نشأ عند العامة كالحديث الذي يشير إلى أن أبا هاشم الكوفي هو الذي أنشأ التصوف ــ وعليه يكون أصله كان فيهم بعد ما ثبت أن أبا هاشم من العامة كما تقدم سابقا ــ فقد روى المحدث النوري & في أبي هاشم بالأسانيد عن أبي جعفر الصدوق محمد ، عن والده أبي الحسن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه ، عن سعد بن عبد الله، عن محمد بن عبد الجبار ، عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال :  سئل أبو عبد الله ــ يعني جعفر الصادق عليه السلام ــ عن حال أبي هاشم الكوفي فقال عليه السلام  : إنه كان فاسد العقيدة جدا ، وهو الذي ابتدع مذهبا يقال له : التصوف ، وجعله مفرا لعقيدته الخبيثة . ورواه بسند آخر عنه عليه السلام  ، وفيه : وجعله مفرا لنفسه الخبيثة ، وأكثر الملاحدة ، وجنة لعقائدهم الباطلة([54]).

وأيضا كالحديث الذي يدل بدلالة على أن أصل الصوفية هم من المخالفين إذ ورد فيه (والصوفية كلهم من مخالفينا) وإليك الخبر كاملا : نقل الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضي الله عنه عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب أنه قال : كنت مع الهادي علي بن محمد ‘ في مسجد النبي صلى الله عليه وآله فأتاه جماعة من أصحابه منهم أبو هاشم الجعفري كان رجلا بليغا وكانت له منزلة عنده عليه السلام ثم دخل المسجد جماعة من الصوفية وجلسوا في ناحية مستديرا وأخذوا بالتهليل فقال عليه السلام لا تلتفتوا إلى هؤلاء الخداعين فإنهم خلفاء الشيطان ومخربوا قواعد الدين يتزهدون لراحة الأجسام ويتهجدون لصيد الأنعام يتجوعون عمرا حتى يديخوا للإيكاف حمرا([55]) لا يهللون إلا لغرور الناس ولا يقللون الغذاء إلا لملأ العساس([56]) واختلاس قلوب الدفناس([57]) ، يكلمون الناس بإملائهم في الحب ويطرحون بإذلالهم في الجب([58]) أورادهم الرقص والتصدية([59]) ، وأذكارهم الترنم والتغنية فلا يتبعهم إلا السفهاء ولا يعتقدهم إلا الحمقى  فمن ذهب إلى زيارة أحدهم حيا وميتا فكأنما ذهب إلى زيارة الشيطان وعبادة الأوثان([60]) ومن أعان أحدا منهم فكأنما أعان يزيد ومعاوية وأبا سفيان  فقال له رجل من أصحابه وإن كان معترفا بحقوقكم ؟ قال فنظر إليه شبه المغضب وقال دع ذا عنك من اعترف بحقوقنا لم يذهب في عقوقنا أما تدري أنهم أخس طوايف الصوفية والصوفية كلهم مخالفونا وطريقتهم مغايرة لطريقتنا وإن هم إلا نصارى أو مجوس هذه الأمة أولئك الذين يجهدون في إطفاء نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون([61]).

 القشيري يقر بأن التصوف نشأ عند خواص العامة

إن صوفية العامة يقرون بأن أصل التصوف نشأ فيهم ، وإليك على سبيل المثال ما ذكره عبد الكريم القشيري (ت:465هـ) في رسالته المشهورة : (انفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع اللّه تعالى ، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف ، واشتهر هذا الاسم بهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة)([62]).

 

صنفان نسبا التصوف إلى التشيع

إن الذين يرون أصل التصوف يعود إلى التشيع يمكن تصنيفهم إلى صنفين رئيسيين :

الأول : هم صوفية الشيعة والمتأثرون بهم من الشيعة ينسبون جذور التصوف إلى التشيع إضفاءً للشرعية عليه ، وتخفيفا لوطأة النقاد عليهم من الشيعة ، كما ذهب لذلك حيدر الآملي في كتابه (نص النصوص) الذي تقدم الكلام فيه سابقا([63]) ، والسيد محمد حسين الطهراني في كتبه ، وغيرهما ممن ينتهجون المنهج الصوفي ، الذي تجسد في فكر ابن عربي من بعد عصره ، كما أن صوفية العامة ينسبون أصل التصوف إليهم وينفون أصوله عن الشيعة ؛ كما تقدم قول القشيري : انفرد خواص أهل السنة المراعون أنفاسهم مع اللّه تعالى ، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوف ، واشتهر هذا الاسم بهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة([64]).

الثاني : هم أعداء التشيع من المؤلفين والباحثين وتجدهم في كتبهم يجترون الشواهد اجترار العمى ، وكأنهم لا يبصرون حينما يستدلون ويستشهدون على زعمهم ، وقد تأثر قسم منهم بابن تيمية الذي نسب التصوف إلى التشيع بقوله : إن أول من عُرف بالصوفي هو أبو هاشم الشيعي الكوفي (ت:150هـ) بالشام بعد أن انتقل إليها ، وكان معاصرا لسفيان الثوري (ت:155هـ).وكان معاصرا لجعفر الصادق وينسب إلى الشيعة الأوائل ، ويسميه الشيعة مخترع الصوفية([65]).

وبعضهم نسب إلى ابن تيمية تكملةً لكلامه المتقدم  في أبي هاشم : وهو الذي بنى زاوية في مدينة الرملة بفلسطين وكان أبو هاشم حلوليا دهريا يقول بالحلول والاتحاد .

وقد تقدم الكلام في أبي هاشم وثبت أنه من المخالفين ووجوده في الكوفة لا يدل على تشيعه ، بل يمكن القول إن شدة خلافه للتشيع أضطره للخروج من الكوفة إلى الشام حتى توفي فيها ، مضافا إلى ذلك لم يكن هو أول الصوفية وإنما تقدم على زمانه الحسن البصري ومالك بن دينار وفرقد السبخي.

وبعضهم نسب التصوف إلى التشيع اشتباها ، وسبب اللبس الذي حصل لديهم يعود إلى أربعة أسباب أساسية :

السبب الأول : من انساق وصدق مزاعم الصوفية التي تقول إن أصل طريقة التصوف ترجع إلى أمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام كما ذُكر ذلك في بعض مصادر وطبقات الصوفية الأساسية ، وهذه هي طريقة المبتدعين ينسبون طرقهم ومختلقاتهم إلى ركن وثيق ليطمئن إليهم .

السبب الثاني : قد اشتبه بعضهم في أول من سمي صوفيا ، وقالوا أول من سمي هو جابر بن حيان ولكونه شيعيا نسبوا التصوف للتشيع ، مع أن المدار لم يكن على أول من سمي بهذه التسمية ، وإنما على من بدأ باعتقاد التصوف وإذاعته ، وقد تقدم أن أول من بدأ بإظهار أفكاره ــ والتي ينعتها ابن عربي بالأسرار ــ هو الحسن البصري الذي تقدم زمانا على جابر بن حيان ، وأيضا تقدم في خبر الإمام الصادق عليه السلام المروي عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أن أبا هاشم هو الذي ابتدع التصوف وكما جاء في نص الخبر المتقدم الذكر في أبي هاشم :(وهو الذي ابتدع مذهبا يقال له التصوف) وهذا أبو هاشم أيضا متقدما زمانا على جابر بن حيان ؛ فلا يعبأ بأول من سمي صوفيا ونسبت التصوف إليه ، هذا فيما قبلنا أن أول من سمي بهذه التسمية هو جابر بن حيان،ولا يمكن القبول بذلك بعد ظهور هذه التسمية في الأحاديث منذ زمن أبي هاشم الكوفي وقول الإمام فيه (ابتدع مذهبا يقال له التصوف).

السبب الثالث : إن بعض من اشتبه ونسب أصل التصوف للتشيع لأنه لحظ الصوفية المتأخرين الذين لم يثبت تشيعهم بالمعنى الأعم ، مثل سفيان الثوري الذي يراه بعضهم من فرق الزيدية ، وبعضهم يراه من العامة ، وهذا القول الثاني هو الصحيح لما تقدم من الاستدلال عليه ، وحتى لو ثبت أن سفيان من الزيدية لم يكن هو من الصوفية الأوائل ، وإنما كان تلميذا عند أبي هاشم الكوفي وسبقه في التصوف الحسن البصري ومالك بن دينار وفرقد السبخي.

السبب الرابع : ذهب بعض المستشرقين الباحثين في التصوف الإسلامي إلى أن أول من سمي بالصوفي هو عبد الكريم المعروف بـ (عبدك الصوفي) ولكونه نسب عبد الكريم إلى التشيع قلدوا هذا المستشرق في قوله ، وقالوا : إن أصل التصوف كان شيعيا ! في حين إن هذا عبد الكريم (ت:210) لم يكن من أوائل الصوفية الذين جذروا للتصوف كالحسن البصري وغيره ممن تقدم ذكره ، فلا تصل النوبة على كونه من الشيعة أو من المخالفين حيث لم يكن مدار التصوف على من ظهر بعد الصوفية الأوائل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) رسالة الفناء في المشاهدة،ص5.

[2] ) نص النصوص،ص223.

[3] ) المسترشد،ص156.

[4] ) انظر كتاب العرفان لمرتضى مطهري،ص51.

[5] ) الاحتجاج،ج1،ص251.

[6] ) الاحتجاج،ج1،ص250.

[7] ) رسائل ابن العربي،ص5.

[8] ) مكاري الحمار .

[9] ) الخرائج والجرائح،ج2،ص63.

[10] ) تحف العقول،ص231.

[11] ) أمالي السيد المرتضى،ص113.

[12] ) الاحتجاج،ج2،ص43.

[13] ) سورة سبأ : 18 .

[14] ) الاحتجاج،ج2،ص62.

[15] ) الكافي،ج5،ص114.

[16] ) أصول الكافي،ج1،ص51.

[17] ) اختيار معرفة الرجال،ص353.

[18] ) رجال النجاشي،ص307.

[19] ) المستدرك على الصحيحين،حديث:(4499).

[20] ) المعجم الأوسط،حديث:(2349).

[21] ) المعجم الأوسطـ،حديث (2942).

[22] ) حلية الأولياء،ج2،ص74.

[23] ) حلية الأولياء،ج2،ص234.

[24] ) حلية الأولياء،ج2،ص285.

[25] ) سنن الترمذي،حديث (1963).

[26] ) مسند أحمد،مسند أبي بكر،حديث : (76) .

[27] ) مسند أحمد،حديث : (7907).

[28] ) تاريخ الإسلام،ج8،ص201 .

[29] ) تهذيب الكمال،ج23،ص167.

[30] ) تاريخ الإسلام،ج8،ص201.

[31] ) طرائق الحقائق،ج1،ص101.

[32] ) منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة،ج13،ص140.

[33] ) سفينة البحار،ج5،ص198.

[34] ) نفحات الأنس،ص67.

[35] ) نفحات الأنس،ص66.

[36] ) طبقات الحنابلة،ج1،ص200.

[37] ) سير أعلام النبلاء،ج7،ص253.

[38] ) السنة،ج1،ص138.

[39] ) السنة،ج1،ص138.

[40] ) المسترشد في إمامة أمير المؤمنين،ص285.

[41] ) حلية الأولياء،7،ص22.

[42] ) سير أعلام النبلاء،ج7،ص253.

[43] ) حلية الأولياء،ج7،ص91.

[44] ) المسترشد في إمامة أمير المؤمنين،ص184.

[45] ) مرآة العقول،ج10،ص119.

[46] ) خلاصة الأقوال،ج1،ص468 وأيضا التستري في قاموس الرجال ج ٥،ص143.

[47] ) منهاج السنة،ج4،ص151.

[48] ) الغرقئ : قشر البيض الذي تحت القيض . لسان العرب،ج1،ص119.والمراد هو توصيف الثياب البيضاء الرقيقية.

[49] ) الكافي،ج5،ص65.

[50] ) سورة الأعراف : 32 .

[51] ) الكافي،ج6،ص443.

[52] ) الأصول الستة عشر،ص167.

[53] ) بحار الأنوار،ج66،ص136.

[54] ) خاتمة المستدرك،ج3ص285نقلا عن حديقة الشيعة.

[55] ) داخ يديخ ديخا وديخه هو : ذلله . لسان العرب،ج3،ص16.

الإكاف والأكاف من المراكب شبه الرحال والأقتاب وزعم يعقوب أن همزته بدل من واو وكاف ووكاف والجمع آكفة وأكف كإزار وآزرة وأزر غيره أكاف الحمار وإكافه ووكافُه ووُكافه والجمع أكف وقيل في جمعه وكف وأنشد في الأكاف لراجز إن لنا أحمرة عجافا يأكلن كل ليلة أكافا أي يأكلن ثمن أكاف أي يباع أكاف ويُطعه بثمنه ومثله نطعمها إذا شتت أولادها أي ثمن أولادها ومنه المثل تجوع الحرة ولا تأكل ثدييها أي أجرة ثدييها وآكف الدابة وضع عليها الإكاف كأوكفها أي شد عليها الإكاف .لسان العرب،ج9،ص8.

ويقول أبو الفيض الزبيدي : الإِكاف . قال شيخنا : ظاهره أن الإكاف يكون للإبل ويأتي له في أكف أنه خاص بالحُمُر وهو الذي في أكثر الدواوين كما سيأتي هناك وبالتحريك أكثر في الاستعمال . وفي النهاية في حديث عائشة لا تمنع المرأة نفسها من زوجها وإن كانت على ظهر قتب .القتب للجمل كالإكاف لغيره . ومعناه الحث لهن على مطاوعة أزواجهن وأنه لا يسعهن الامتناع في هذه الحال فكيف في غيرها . وقيل : إن نساء العرب كن إذا أردن الولادة جلسن على قتب ويقلن إنه أسلس لخروج الولد فأرادت تلك الحالة . قال أبو عبيد : كنا نرى أن المعنى : وهي تسير على ظهر البعير فجاء التفسير بعد ذلك القتب للبعير كما في المصباح والمحكم.والإكاف للحمير . وفي الخلاصة أنه عام في الحمير والبغال والإبل.تاج العروس،ج2،ص303.

[56] ) العُسُّ : القدح الضخم .العين،ج1،ص74.

[57] ) الدِّفْنِسُ : الأحمق الدنيء وفي بعض الأصول : البذي كالدفناس . تاج العروس،ج8،ص288.

[58] ) كناية عن إيقاعهم في الضلال .

[59] ) التصدية : التصفيق والصوت . لسان العرب،ج3،ص245.

[60] ) الوثن : الصنم ، والجمع وثن . الصحاح في اللغة،ج6،ص2212.

[61] ) الاثنا عشرية،ص37،نقلا عن حديقة الشيعة.

[62] ) الرسالة القشيرية،ص17.

[63] ) انظر كلام السيد حيدر الآملي الذي مطلعه (اعلم أنه قد صح وثبت بحكم النقل عند مشايخ الصوفية والخواص من أهل الله …) تحت عنوان : (الحسن البصري) .

[64] ) الرسالة القشيرية،ص17.

[65] ) الموسوعة الصوفية،ص14.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.