تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (11)

تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (11)

الاستدلال على تجسم الأعمال بعدم فناء المادة

من الأدلة التي ساقها القائلون بتجسم الأعمال هو الاستدلال من خلال عدم فناء المادة ، يقول الشيخ جعفر السبحاني : إن المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، المادة عبارة عن الطاقات المتراكمة ، وربما تتبدل المادة في ظروف خاصة إلى الطاقة ، فتكون الطاقة وجودا منبسطا للمادة ، كتبدل مادة الغذاء الذي يتناوله الإنسان إلى حركة ، وكتبدل وقود الحافلات إلى طاقة حركية . إن مفهوم حفظ الطاقة أحد المفاهيم الأساسية الذي يكون حاكما على كافة الظواهر الطبيعية بمعنى أن كافة التفاعلات والتحولات التي تحدث في عالم الطبيعة لا تخرج عن هذا الإطار العام ، وهو أن عموم الطاقة لا يتغير فيها أبدا . فالطاقة يمكن أن تتبدل إلى أنواع مختلفة وهذه الأنواع تشمل الطاقة الحركية ، الحرارية ، الكهربائية ، الكيميائية ، والنووية…الإنسان حينما يقوم بعمل ما – صالحا كان أم طالحا – فإن بعض ذخائره المادية تتحول إلى طاقة ، فإذا صلى مثلا ، فإنه في الواقع في جميع حالات ولحظات الصلاة ، يحول قسما من مادته إلى طاقة ، وهكذا إذا ارتكب عملا سيئا ، كما إذا قام بضرب إنسان بريء فإنه كذلك يصرف مقدارا من المادة ويحوله إلى طاقة ، وهكذا الكلام في سائر الأفعال التي يقوم بها ، سواء كانت تلك الأفعال عضويةً أو كان العمل فكريا أو نفسيا فتعود حقيقة العمل في الإنسان إلى تبدل المادة إلى طاقة . إذا عرفنا ذلك فنقول : إن تجسم الأعمال يبتني على القواعد التالية :

1 . حقيقة العمل هو تبديل المادة إلى طاقة .

2 . الطاقة الموجودة في العالم ثابتة لا تتغير .

3 . المادة والطاقة حقيقتهما واحدة .

4 . كما أن المادة تتبدل إلى طاقة ، فهكذا تتبدل الطاقة في ظروف خاصة إلى المادة . والنتيجة الطبيعية والمنطقية لتلك المقدمات المذكورة أن تبدل أعمال الإنسان وأفعاله (والتي تحولت إلى طاقة) تحت شروط خاصة في عالم الآخرة أمرٌ ممكن ، كما أن ذلك ممكن في هذا العالم ، بل يُعدّ من منظار العلم من حقائق عالم الطبيعة . وعلى هذا الأساس فإن مسألة (تجسم الأعمال) من المعارف الدقيقة والعميقة والتي لا يتسنى لكل أحد إدراكها ، ولكن هناك بعض المفكرين الكبار ومن خلال التأمل في حالات النفس الإنسانية والاعتماد على الأصول الفلسفية المسلمة ، والتأمل في آيات الذكر الحكيم ، قد اهتدوا إلى إدراك تلك النظرية الدقيقة ، كالفيلسوف الإسلامي الكبير صدر المتألهين ، ومن حسن الحظ أن العلم قد دعم هذه النظرية وساعد على إدراكها وهضمها . ومن الجدير بالذكر أن المسائل التي تتعلق بعالم الآخرة هي من الحقائق الغيبية التي لا يتسنى للإنسان المحصور في إطار المادة والماديات إدراكها وفهمها ، إلا إذا ارتبط ارتباطا وثيقا بعالم الغيب وشاهد حقائق ذلك العالم عن قرب ، وفي الحقيقة أن الذين يصلون إلى هذا المقام السامي لا يتجاوزون العدد اليسير جدا([1]).

ويقول الشيخ مكارم الشيرازي في تقرير إشكالين على تجسم الأعمال وردهما : الإشكال الأول الذي يرد على مسألة رؤية وحضور الأعمال – كما يتضح من بعض كلمات المرحوم الطبرسي في مجمع البيان – هو أن العمل من جنس (العرض) لا (الجوهر) فلا يحمل خواص المادة ولا هو مادة بنفسه لذا فهو ينعدم بعد حدوثه . والإشكال الثاني : هو أن العمل يمحى ويزول بعد وجوده ، لذا فإننا لا نجد آثاراً من أحاديثنا وأفعالنا الماضية إلا ما أحدثت تغييرا في بعض المواد الموجودة كتحول الحصى والخشب والجص إلى بيت معين ، وهذا ليس بتجسم وإنما هو تحول ناشئ من العمل (تأمل).ولكن إذا أخذنا النكتتين أدناه بنظر الاعتبار فسوف تتضح الإجابة عن الشبهتين السالفتين وكذلك تتضح مسألة تجسم الأعمال :النكتة الأولى : لقد ثبت اليوم أن المادة لا تفنى ، وحتى الأعمال فإنها تتحول إلى صور مختلفة . فإن تحدثنا فستنتقل أصواتنا على شكل أمواج صوتية إلى الفضاء المحيط بنا وتصطدم بالأجسام التي تعترضها من جدران وأبنية وأجسام أخرى وتتحول إلى طاقة أخرى ، ومن الممكن أن يتغير شكل هذه الطاقة مرات عديدة ولكنها لن تفنى ، وما حركات أيدينا وأرجلنا إلا نوعٌ من الطاقة وهذه الطاقة (الميكانيكية) لا تفنى أبدا وإنما تتحول إلى طاقة حرارية أو طاقة أخرى. والخلاصة : ليست المادة لا تفنى فقط بل وحتى طاقتها ثابتة ولا تفنى أيضا بل تتحول من شكل إلى آخر . النكتة الثانية : وقد تم إثباتها بشكل قاطع من خلال بحوث العلماء وتجاربهم وهي : إن هناك علاقة قريبة بين المادة والطاقة ، أي أن المادة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، فالمادة عبارة عن طاقة مخزونة أما الطاقة فهي مادة غير مخزونة (حرة) ، لذا يمكن أن تتحول أحداهما إلى الأخرى تحت شروط معينة ، فالطاقة الذرية هي تحول المادة إلى طاقة ، وبتعبير آخر أن الطاقة الذرية : هي انشطار نواة الذرة وتحرير طاقتها الكامنة ، ولقد أثبت العلماء أنّ الطاقة الحرارية للشمس تحصل نتيجة الانفجارات الذرية فيها ، ولهذا السبب تفقد مقدارا كبيرا من وزنها كل أربع وعشرين ساعة ولو أن هذا النقصان ضئيل قياسا بوزن وحجم الشمس . بلا شك وكما أن المادة قابلة للتحول إلى طاقة كذلك الطاقة فإنها قابلة للتحول إلى مادة ، أي إذا تراكمت الطاقة المنتشرة فإنها تأخذ حالة الجسم المادي . وعلى هذا الأساس لا يوجد أي مانع من عدم فناء ومحو أعمالنا وأقوالنا التي هي طاقات مختلفة وإرجاعها مرة أخرى بأمر اللَّه على صورة جسم … إن العالم الفرنسي (لافوازيه) استطاع بعد جهود حثيثة أن يكتشف أصل بقاء المادة وأثبت أن مواد العالم لا تفنى أبدا بل تتحول من شكل إلى آخر . ولم يمر طويلا إلا واكتشف (پيركوري وزوجته) ولأول مرة العلاقة بين الطاقة والمادة من خلال تجاربه على المواد النشطة إشعاعيا (وهي أجسام تتكون من ذرات غير ثابتة وتتحول بعض أجزائها تدريجيا إلى طاقة) وبهذا الاكتشاف تبدل قانون بقاء المادة إلى قانون بقاء (المادة – الطاقة) . وبهذا تزلزل أصل بقاء المادة وحل محله أصل بقاء مجموعة (المادة – الطاقة) ، وأخذت عملية تحول المادة إلى طاقة عن طريق انشطار الذرة بعدا علميا واسع النطاق . ومن خلال هذا تبيّن أن هناك علاقة قريبة بين انشطار المادة والطاقة ، ويمكن أن تتحول إحداهما إلى الأخرى ، وبعبارة أخرى أن المادة والطاقة شكلان لحقيقة واحدة([2]).

وملخص ما استدلوا به هو : الإنسان حينما يقوم بعمل ما تتحول ذخائره المادية إلى طاقة ، أي يتحول عمله إلى صورة في الواقع.

ورد ما استدلوا به على التجسم في أمرين :

الأول : إن ما استدلوا به من عدم فناء المادة والطاقة بحسب قوانين الفيزياء ثابت في الجواهر (الذوات) لا في العوارض مما لا جوهر له ، وهذا لا ينفعهم فيما استدلوا به إذ بقاء (المادة) و (الطاقة) لا يدل على ما ذهبوا إليه بقوانين الفيزياء التي تقول : إن المادة تتحول إلى طاقة ، والطاقة إلى مادة لأن تلك القوانين تثبت المادة الذات الموجودة في الخارج لا في الأعراض التي لا وجود لها في الخارج . بل إن تحول المادة وعدم فنائها هو أثر الطاقة الموجودة في المادة بشكل طارئ من خلال اقتضاء الحركة الإرادية ذلك ، وليس هو المادة الطاقة نفسها . وبعبارة مختصرة ما استدلوا به بقوانين الفيزياء أجنبي عن مدعاهم ولا صلة له بما استدلوا .

ولم يدفعوا بما برهنوا عليه الإشكال الذي ذكره الشيخ الطبرسي  بالرغم من محاولة الإجابة عنه وسيأتي الكلام عنه مفصلا إن شاء الله تعالى عند الكلام في انقلاب العرض إلى جوهر تحت عنوان : (انقلاب العرض إلى جوهر).

ويمكن أن يُقال : عدم إمكان دفع الإشكال بما ذكروه لا يعني ذلك امتناع انقلاب العرض إلى الجوهر بما يتناسب وعالم الحساب الإلهي والنشأة الأخرى والله أعلم بحقائق الأمور . بل حتى لو فرض انقلاب العرض إلى الجوهر لا يدل على أن الجزاء في ذات العمل لأن المدعى لم يقتصر على التجسم وإنما لما له من حقيقة الجزاء واستبطان الثواب والعقاب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) الفكر الخالد،ج2،ص352.

[2] ) نفحات القرآن،ج6،ص89.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.