(26) ما صحة خبر عنوان البصري ؟
(26) ما صحة خبر عنوان البصري ؟
ج : إن خبر عنوان البصري الذي رواه عن الإمام الصادق عليه السلام يقتضي بيان ثلاث جهات رئيسية لكي يتضح مدى صحة الخبر ونسبته للإمام الصادق عليه السلام من عدم صحة ذلك ؟
الجهة الأولى : حقيقة عنوان البصري :
إن من الراجح أن يكون عنوان البصري شخصية حقيقة وليست وهمية لا وجود لها ، لأن مصادر التراجم والتصوف ذكرت وجود ولد له اسمه حاتم ، وكان من الصوفية على طريقة أبيه ، وممن ترجم له السلمي (ت:412هـ) في طبقات الصوفية : (حاتم بن عُنْوان ، ويقال : حاتم بن يوسف ، ويقال : حاتم بن عنوان بن يوسف الأصم . كنيته أبو عبد الرحمن وهو من قدماء مشايخ خراسان ، من أهل بلخ . صحب شقيق بن إبراهيم ، وكان أستاذ أحمد بن خضرويه . وهو مولى للمثنى بن يحيى المحاربي . وله ابن يقال له : (خشنام بن حاتم) مات (بواشجرد) ، عند رباط يقال له : (رأس سروند) ، على جبل فوق (واشجرد) سنة سبع وثلاثين ومائتين)([1]).
وترجم له الخطيب البغدادي (ت:463هـ) : (حاتم بن عنوان ، أبو عبد الرحمن الأصم : من أهل بلخ كان أحد من عرف بالزهد والتقلل ، واشتهر بالورع والتقشف ، وله كلام مدون في الزهد والحكم ، وأسند الحديث عن شقيق بن إبراهيم ، وشداد بن حكيم البلخيين ، وعبد الله بن المقدام ، ورجاء بن محمد الصغاني . روى عنه حمدان ابن ذي النون ، ومحمد بن فارس البلخيان ، ومحمد بن مكرم الصفار البغدادي ، وغيرهم)([2]).
وأيضا السمعاني (ت:562هـ) في (الأنساب) عده من الصوفية وأنه ابن عنوان : (ومن الصوفية أبو عبد الرحمن حاتم بن عنوان الأصم من أهل بلخ ، كان أحد من عرف بالزهد والتقلل واشتهر بالورع والتقشف ، وله كلام مدون في الزهد والحكم ، وأسند الحديث عن شقيق بن إبراهيم وشداد بن حكيم البلخيين وعبد الله بن المقدام ورجاء بن المقدام الصغاني)([3]).
وبعضهم تردد في اسم أبيه فقال هو حاتم بن يوسف بن عنوان . وسواء كان حاتم بن عنوان البصري أو ابن ابنه لا يتنافى مع السن المذكور لعنوان البصري من أنه كان في سن أربع وتسعين عاما.
وقد يُقال كيف أن يكون عنوان البصري مع ما بلغ به السن لم يُعرف في مصادر التاريخ والحديث ولم تترجم له مصنفات السير والرجال ؟
والجواب : إن هذا غير كافٍ في التشكيك بأصل وجود عنوان البصري لأن من الرواة من كان مجهول الحال فلم يوثق ولم يضعف لجهالة حاله لأن المصادر لم تذكر عنه شيئا يفيد التوثيق أو التضعيف ، ومن الرواة من كان مجهول الصفة لم تنقل المصادر شيئا عن أحواله ، ومن الرواة من كان مجهول العين لم يُعرف إلا بخبر واحد ولم تنقل عنه شيئا مصادر التاريخ وغيرها إلا ذلك الخبر حتى أن بعض الرواة كان يُعرف ويُسمى على اسم خبره ؛ فلم يكن بالشيء العزيز أن يُعرف أحد الرواة بخبر واحد ولا يُعرف عنه غير ذلك.
ولكن عدم معرفته بشيء ما وراء الخبر كما أنه غير كافٍ في تكذيب الخبر وأصل وجود الراوي فهو أيضاً غير كافٍ بالقطع بصحة الخبر والقطع بإثبات وجود الراوي.
الجهة الثانية : مصدر الخبر وسنده :
إن الخبر من حيث السند فهو مرسل لا سند له ، وأقدم من رواه هو الشيخ أبو الفضل الطبرسي ــ المتوفى في أوائل القرن السابع الهجري ــ سبط مؤلف تفسير : (مجمع البيان) رواه في : (مشكاة الأنوار) مرسلا عن عنوان البصري وهذا نص ما جاء فيه : (عن عنوان البصري وكان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع وتسعون سنة قال : كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين ، فلما حضر جعفر الصادق عليه السلام المدينة اختلفت إليه وأحببت أن آخذ عنه كما أخذت من مالك ، فقال لي يوما : إني رجل مطلوب ومع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل والنهار فلا تشغلني عن وردي فخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه ، فاغتممت من ذلك وخرجت من عنده ، وقلت في نفسي : لو تفرس في خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه والأخذ عنه ، فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلمت عليه ، ثم رجعت من القبر إلى الروضة وصليت فيها ركعتين ، وقلت : أسألك يا الله يا الله أن تعطف علي قلب جعفر ، وترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم . ورجعت إلى داري مغتما حزينا ولم أختلف إلى مالك بن أنس لما اشرب قلبي من حب جعفر ، فما خرجت من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري ، فلما ضاق صدري تنعلت وترديت وقصدت جعفرا وكان بعد ما صليت العصر فلما حضرت باب داره استأذنت عليه ، فخرج خادم له فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : السلام على الشريف ، فقال : هو قائم في مصلاه ، فجلست بحذاء بابه ، فما لبثت إلا يسيرا ، إذ خرج خادم له قال : ادخل على بركة الله ، فدخلت وسلمت عليه ، فرد علي السلام وقال : اجلس غفر الله لك ، فجلست فأطرق مليا ثم رفع رأسه وقال : أبو من ؟ قلت : أبو عبد الله ، قال : ثبت الله كنيتك ووفقك لمرضاته ، (يا أبا عبد الله ما مسألتك ؟) قلت في نفسي : لو لم يكن لي من زيارته والتسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيرا . ثم أطرق مليا ثم رفع رأسه فقال : يا أبا عبد الله ، ما حاجتك ؟ قلت : سألت الله أن يعطف قلبك علي ويرزقني من علمك ، وأرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته ، فقال : يا أبا عبد الله ، ليس العلم بالتعلم إنما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أولا من نفسك حقيقة العبودية ، واطلب العلم باستعماله واستفهم الله يفهمك . قلت : يا شريف ، فقال : قل يا أبا عبد الله ، قلت : يا أبا عبد الله ، ما حقيقة العبودية ؟ قال : ثلاثة أشياء : أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله إليه ملكا لأن العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله تعالى به ، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره الله تعالى به ونهاه عنه ، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منها إلى المراء والمباهاة مع الناس ، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هان عليه الدنيا وإبليس والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب عند الناس عزا وعلوا ، ولا يدع أيامه باطلا ، فهذا أول درجة المتقين ، قال الله تعالى : [تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ]([4]). قلت : يا أبا عبد الله أوصني ، فقال : أوصيك بتسعة أشياء ، فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله عز وجل والله أسأل أن يوفقك لاستعماله : ثلاثة منها في رياضة النفس ، وثلاثة منها في الحلم ، وثلاثة منها في العلم فاحفظها وإياك والتهاون بها ، قال عنوان : ففرغت قلبي له . فقال : أما اللواتي في الرياضة : فإياك أن تأكل مالا تشتهيه فإنه يورث الحماقة والبله ، ولا تأكل إلا عند الجوع وإذا أكلت فكل حلالا وسم الله ، واذكر حديث الرسول صلى الله عليه وآله : (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه ، فإن كان لابد فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه) . أما اللواتي في الحلم : فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشرا ، فقل : إن قلت عشرا لم تسمع واحدة ، ومن شتمك فقل : إن كنت صادقا فيما تقول فالله أسأل أن يغفرها لي ، وإن كنت كاذبا فيما تقول فالله أسأل أن يغفرها لك ، ومن وعدك بالجفاء فعده بالنصيحة والدعاء . وأما اللواتي في العلم : فاسأل العلماء ما جهلت ، وإياك أن تسألهم تعنتا وتجربة ، وإياك أن تعمل برأيك شيئا ، وخذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا ، واهرب من الفتيا هربك من الأسد ، ولا تجعل رقبتك للناس جسرا ، قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك ، ولا تفسد علي وردي فإني امرؤ ضنين بنفسي والسلام)([5]).
والشيخ البهائي (ت:1031هـ) نقله في الكشكول بقوله : (من خط س([6]) عن عنوان البصري وكان شيخا قد أتى عليه أربع وتسعون سنة..)([7])
والحر العاملي في الوسائل يقول وجدت الخبر بخط الشهيد الأول (ت:786هـ) : (وجدت بخط الشهيد محمد بن مكي قدس سره حديثا طويلا عن عنوان البصري ، عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام…)([8]).
والعلامة المجلسي في البحار نقله عن خط الشيخ البهائي عن خط الشهيد الأول حيث يقول : (وجدت بخط شيخنا البهائي قدس الله روحه ما هذا لفظه : قال الشيخ شمس الدين محمد بن مكي : نقلت من خط الشيخ أحمد الفراهاني رحمه الله ، عن عنوان البصري وكان شيخا كبيرا قد أتى عليه أربع وتسعون سنة…)([9]).
الجهة الثالثة : مضمون الخبر :
إن أغلب ما جاء في الخبر عن الإمام الصادق عليه السلام من حيث المضمون يوافق النصوص الدينية ولا يخالف الدين ، ولذا كان العلماء ينقلون مضامينه ويستشهدون بفقراته في مصنفاتهم ، ولكن توجد بعض الفقرات تثير الشكوك في نسبة الخبر للإمام عليه السلام وتوجب التوقف في إسناد الخبر للإمام بشكل قطعي وإن كان هذه الإثارات التي توجب التوقف لا تخلو من رد وكلام وإليك بيان بعضها مع الإشارة لما فيها :
(فخذ عن مالك واختلف إليه كما كنت تختلف إليه) إن الأئمة في حديثهم ووصاياهم يرجعون الناس إليهم في أخذ الدين ولا يرجعون إلى غيرهم من أصحاب المذاهب والفرق بل توجد أحاديث تحذر وتذم من يأخذ من غيرهم . وبعبارة أخرى : هذه الفقرة التي تأمر بالرجوع إلى مالك تتعارض مع سيرة الأئمة عليهم السلام وحديثهم
(وصيتي لمريدي الطريق إلى الله عز وجل) هذه من الفقرات التي أثارت التأمل في الخبر حيث تشبه استعمالات الصوفية.
والخلاصة : لا يمكن القطع واليقين بنسبة الخبر للإمام الصادق عليه السلام ، ولا يوجد في الخبر ما يفيد الجزم بوضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) طبقات الصوفية،ص91.
[2] ) تاريخ بغداد،ج8،ص236.
[3] ) الأنساب،ج1،ص181.
[4] ) سورة القصص:83.
[5] ) مشكاة الأنوار،ص562.
[6] ) يبدو أن الشيخ البهائي يشير بالسين المهملة إلى الشهيد الأول وبالشين المعجمة للشهيد الثاني.
[7] ) الكشكول،ج2،ص165.
[8] ) وسائل الشيعة،ج27،ص127.
[9] ) بحار الأنوار،ج1،ص224.