(27) هل رابعة العدوية تستحق الإجلال والإكبار كما هو شأن العرفاء في النظر لها ؟
(27) هل رابعة العدوية تستحق الإجلال والإكبار كما هو شأن العرفاء في النظر لها ؟
ج : رابعة العدوية من أوائل الصوفية في القرن الثاني الهجري نُقل عنها كلام وأشعار لا تخلو من إشكال ومؤاخذات ونسبوا لها كراماتٍ ومن خوارق الأمور ما لا يصدقُ بها إلا من غلب على عقله التصوف.فحري بالمسلم ناهيك عما إذا كان من أتبات أهل البيت عليهم السلام أن لا يشغل نفسه بشخصية كهذه ونحوها من الصوفية ويجعلها من مصادر المعرفة والإلهام.
من أشعارها التي هي محل نظر وإشكال :
إنّي جعلتك في الفؤاد محدّثي * وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس * وحبيب قلبي في الفؤاد جليسي([1]).
ومن من كلماتها التي لا تخلو من نقد أن الحسن البصري سألها : هل تتزوجين ؟ فأجابته : الزواج ضروري لمن له الخيار ؛ أما أنا فلا خيار لي في نفسي ؛ إني لربي ، وفي ظل أوامره ، ولا قيمة لشخصي . فقال الحسن : فكيف بلغت هذه الدرجة ؟ قالت : بفنائي بالكلية([2]).
ومن كراماتها التي تناقلتها مصنفات عرفاء الصوفية ما نقله فريد العطار : (توفي حدود:607هـ) : (لما كانت رابعة بسبيل الحج رأت الكعبة قادمة نحوها عبر الصحراء . فقالت رابعة : لا أريد الكعبة ، بل رب الكعبة، أما الكعبة فماذا أفعل بها ؟ ولم تشأ أن تنظر إليها)([3]).
وكان إبراهيم بن أدهم قد أمضى أربعين سنة ليبلغ الكعبة ، لأنه كان في كل خطوة يصلي ركعتين ، وكان يقول : غيري يسلك هذه الطريق على قدميه ، أما أنا فأسلكها على رأسي . وبعد أربعين سنة بلغها ، فلم يجدها في مكانها ، فقال نائحا : وا أسفاه ، أصرت أعمى حتى لا أرى الكعبة ؟ فسمع صوتا يقول : يا إبراهيم ، لست أعمى ، لكن الكعبة قد ذهبت للقاء رابعة . فتأثر إبراهيم ، ثم رأى الكعبة قد عادت إلى مكانها ، وأبصر رابعة تتقدم مستندة إلى عصا : أي رابعة – هكذا قال لها – ما أجل عملك ! وما الضجة التي تحدثينها في الدنيا ! الكل يقولون : ذهبت الكعبة للقاء رابعة . فأجابته رابعة : يا إبراهيم ، وأية ضجة تحدثها أنت في الدنيا بأن أمضيت أربعين سنة حتى بلغت هذا المكان ، لأن الكل يقولون : إبراهيم يتوقف كل خطوة ليصلي ركعتين . فقال إبراهيم : نعم ، قد أمضيت أربعين سنة في اختراق هذه الصحراء . فأجابت رابعة : يا إبراهيم ، أنت جئت بالصلاة ، وأنا جئت بالفقر . وبكت طويلا ، وبعد أن زارت الكعبة عادت إلى البصرة([4]).
ويروى أن خادمة رابعة كانت تهيئ طعاما بالزيت لسيدتها ، فلم يكن عندها بصل ، فقالت لها : سأسأل جارتنا وأعود . فقالت رابعة : منذ أربعين سنة وقد عاهدت اللّه على ألا أسأل أحدا شيئا غيره ، فإذا لم يكن ثمة بصل فلا ضير . وفي الحال تبدّى طائر يحمل بصلا قشّره وقطّعه قطعا وألقى به في المقلاة ، فلم تأكل رابعة من هذا الطعام ، واكتفت بالخبز ، ثم قالت : يجب على المرء ألا يغتر بحيل الشيطان([5]).
ويروى أيضا : أن رابعة صعدت جبلا ، فأقبلت حولها كل الغزلان الموجودة ؛ وبقيت آمنة كل الأمان ، وفجأة جاء الحسن البصري ، ففرت كل الغزلان ، فقال لها : يا رابعة ، لماذا فرت كل الغزلان مني ، ولم تفر منك أنت ؟ فسألته : ماذا أكلت اليوم يا حسن ؟ قال : أكلت طعاما طهي بقطعة زيت . فقالت رابعة : يا من تأكل من دهنها ، كيف تريد ألا تفر منك([6]).
ويحكى : أن الحسن البصري رأى رابعة جالسة على شاطئ الفرات ، فألقى على الماء سجادته ، ووقف عليها ، وقال : يا رابعة ، تعالي نصلي ركعتين على الماء . فقالت : سيدي ، أهي أمور هذه الدنيا ما تريد أن تظهره لأهل الآخرة ؟ أظهر لنا شيئا لا يستطيع جمهور الناس أن يفعلوه . قالت هذا وألقت سجادتها في الهواء ، وصعدت عليها وصاحت : تعال يا حسن ، نحن هنا في مكان آمن وأبعد عن عيون الناس . وقالت تعزية للحسن : سيدي ، ما فعلت أنت يستطيع السمك أن يفعله ، وما فعلت أنا يستطيع الذباب أن يفعله ، المهم أن نبلغ درجة أعلى من هاتين الدرجتين اللتين بلغناهما([7]).
ويروى أن الحسن البصري قال : بقيت ليلة ويوما عند رابعة نتحدث عن الطريق الروحي ، وأسرار الحق بحرارة بلغت حدا نسينا معه أنني رجل وأنها امرأة ، فلما انتهينا من هذه المناقشة ، شعرت بأنني لم أكن إلا فقيرا ، بينما هي غنية بالإخلاص([8]).
وذهب الحسن البصري وبعض أصحابه إلى رابعة ، وكان الوقت ليلا ، فاحتاجوا إلى مصباح ، فلم يجدوا ، هنالك وضعت رابعة أطراف أصابعها في فمها ، ثم أخرجتها ، فظل يشع منها حتى مطلع الفجر نور كأنه نور مصباح([9]).
ويحكى : أن رابعة صامت سبع ليال وسبعة أيام متوالية دون أن تتناول شيئا ، ولا تنام الليل ، منقطعة إلى الصلاة ، وفي الليلة الثامنة قالت لها نفسها الأمارة بالسوء ، وهي تنوح : يا رابعة ، إلى متى تعذبينني هكذا دونما هوادة ؟ وخلال هذا الحديث النفسي سمع صوت قرع على الباب ، ففتحت رابعة ، فكان رجل أحضر لها طعاما في كأس . فأخذته رابعة ، ووضعته في البيت ؛ فلما تركته لإشعال المصباح أتى قط وأكل كل ما في الكأس . فلما عادت رابعة ، ورأت ما حدث قالت : سأبحث عن ماء أفطر به . فلما ذهبت للحصول على ماء انطفأ المصباح فعادت ورفعت الجرة للشرب ، لكنها سقطت من يديها وانكسرت . فزفرت رابعة زفرة كاد البيت أن يحترق منها ، وصرخت : إلهي ، ماذا أردت بهذه المسكينة ؟ فسمعت صوتا يقول : يا رابعة ، إذا شئت أعطيناك الدنيا بأسرها ؛ لكن يجب من أجل هذا أن ننزع الحب الذي في قلبك لنا ، لأن حبنا وحب الدنيا لا يجتمعان معا . فقالت رابعة : لما سمعت أني أخاطب على هذا النحو ، نزعت من قلبي كل تعلق بأمور الدنيا ، وصرفت نظري عن كل الدنيويات ، وها أنذا قد أمضيت ثلاثين عاما لم أصل فيها دون أن أقول : هذه الصلاة لعلها تكون آخر صلواتي ، ولم أمل من تكرار هذا القول : إلهي ، أغرقني في حبك حتى لا يشغلني شيء عنك([10]).
ويروى : أن الحسن البصري قال : عند صلاة الظهر ذهبت إلى رابعة ؛ وكانت قد وضعت قدرا فيه لحم ، فلما بدأنا الحديث عن المعرفة ، قالت : لا حديث خير من هذا ؛ والأفضل أن أستمر فيه على أن أطهي اللحم . ولم تنفخ في النار تحت القدر ، فلما فرغنا من صلاة العشاء ، أحضرت رابعة ماء وخبزا جافا ، ثم أفرغت ما في القدر ، فوجد أن اللحم الذي كان فيه قد طهي بقدرة اللّه ، فأكلنا من هذا ، وكان له طعم لم نتذوق مثله قط([11]).
ومن علامات عدم استقامتها وتصوفها هو بعدها عن أئمة الهدى صلوات الله وسلامه عليهم إذ أنها عاصرت ثلاثة من الأئمة المعصومين : الإمام السجاد والإمام الباقر والإمام الصادق عليهم السلام ومع ذلك لم تُعرف بصلتها لهم والاستضاءة بنورهم عليهم السلام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) جواهر التصوف،ص138.
[2] ) تذكرة الأولياء،ص856.
[3] ) تذكرة الأولياء،ص852.
[4] ) تذكرة الأولياء،ص852.
[5] ) تذكرة الأولياء،ص855.
[6] ) تذكرة الأولياء،ص855.
[7] ) تذكرة الأولياء،ص855.
[8] ) تذكرة الأولياء،ص855.
[9] ) تذكرة الأولياء،ص856.
[10] ) تذكرة الأولياء،ص859.
[11] ) تذكرة الأولياء،ص862.