تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (9)
تجسم الأعمال ما بين الحقيقة والخيال (9)
تجسم الأعمال والظهور اللغوي
إن الذين ذهبوا إلى تجسم الأعمال ادعوا الاحتكام إلى اللغة من خلال التمسك بظواهر النصوص . ولكن في الواقع هم لم يتمسكوا بالظهور ولم يحتكموا إلى اللغة ، وإنما أسقطوا الفكرة على الجمود الحرفي في النصوص ، حيث الأخذ بحرفية اللفظ ينسجم مع تجسم الأعمال ، وإليك بيان ذلك في ثلاث نقاط :
النقطة الأولى : إن الذين ادعوا الأخذ بالظواهر من خلال الجمود على اللفظ لم يطبقوا ذلك الجمود الحرفي في الكثير من الآيات مثل :
[يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ]([1]). إذ لم يحملوا اللفظ فيها على الحرفية ، وإنما قالوا : أن (اليد) كناية عن القدرة ، كما يقول القائل : (إن المنطقة الفلانية في يدي) ، أو كما يُقال : (أمر فلان فوق أمر فلان) أي هو أعلى أمرا وأنفذ حكما كناية عن أنها تحت سيطرته ونفوذه ، أو مثل : (ظهرتُ على أعدائي) الذي يعني الغلبة عليهم ، فهم خرجوا عن الحرفية لمعنى سابق ما كان لهم الالتزام به فلم يحملوا اليد هنا على معناها الحقيقي ، لأن ذلك من صفة الأجسام والله تعالى منزه عن ذلك . وفي تلك الآيات التي قالوا فيها بحرفية النص واستدلوا من خلالها على التجسيم أيضا قالوا بذلك لمعنى سابق تبنوه ــ أي تجسم الأعمال ــ ومن ثم أسقطوه على النص الديني فلم تكن حقيقة الأمر في الاحتكام إلى اللغة كما قالوا.
ومثل قوله تعالى : [وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ]([2]). فلم يحملوا الفوقية على العلو والارتفاع المكاني ، وإنما على الغلبة والتصرف والفعال لما يريد.
وأيضا قوله تعالى : [الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى]([3]). لم يقولوا الاستواء بمعنى الجلوس لأن الجلوس من صفة الأجسام والله تعالى منزه عن كل ذلك ، وأقروا أن المراد من الاستواء هو الاحتواء كما يُقال : استوى فلان على مال فلان وعلى جميع ملكه أي احتوى عليه.
النقطة الثانية : إن بسبب كثرة الاستعمال القرآني للأسلوب البلاغي مثل الكناية والمجاز .. لا يمكن الجمود على حرفية النص في الآيات التي استدلوا بها على تجسم الأعمال ، وحينئذٍ لا يمكن عد الجمود على اللفظ من الاحتكام إلى اللغة بل اللغة تقتضي خلافه لأن الفهم المتبادر من اللفظ ومداليل اللغة على خلافه.
النقطة الثالثة : الأخذ بظواهر النصوص هو المعنى المتعين لغويا وعقلائيا أيضا هذا في حال عدم وجود قرينة صارفة عن الظهور . ولكن مع وجود القرينة المتصلة أو المنفصلة يتعين المعنى في خلاف ظهوره وحينها يكون الظهور وما تقتضيه القرينة . بل قد يكون الجمود على حرفية النص خلاف الظاهر والمراد من النص ، مثل قول الله تعالى لإبليس : [وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ]([4]) حيث لا يمكن الأخذ بظاهر النص والقول بأن الله تعالى أمر إبليس بهذا من غير فهم السياق القرآني الذي هو قرينة صارفة عن الأمر ودال على أن الله تعالى جعل إمكان فعل ذلك لإبليس.
وآية أخرى أيضا في هذا المجال من باب المثال لا الاستقصاء لأن الآيات كثيرة في هذا الجانب : [أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ][يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ]([5]).
إن المعنى الظاهر الذي يدل عليه السياق : أي فليأتوا بهم في ذلك اليوم الذي تظهر فيه الأهوال والشدائد ، ولا يمكن القول بوجود ثمة ساق يُكشف عنها يوم القيامة.
روي في تفسير القمي عند الآية المباركة : (يوم يكشف عن الأمور التي خفيت)([6]).
النقطة الرابعة : إن المخاطبين بالقرآن الكريم لم يفهموا من الآيات التي تتحدث عن الأعمال والجزاء أن الجزاء هو في نفس تجسم العمل ، وإنما فهموا منها أن الجزاء أمر اعتباري لم يتجسد في ذات العمل وهذا العرف العام المخاطب بالقرآن الكريم هو قرينة على المعنى المراد ، وقد سار على هذا المعنى المتبادر المسلمون كافة جيلا بعد جيل ، ولم يُعرف معنى تجسم الأعمال إلا في فئة تتداول الفلسفات والمعتقدات الدخيلة على الإسلام ، ومما يؤسف له أن هؤلاء غرروا الكثير بهذا الفهم ممن لا شأن له بهذه الاتجاهات بسبب تأويلهم للآيات وصرفها نحو مرادهم.
النقطة الخامسة : إن المسلمين جميعا جيلا بعد جيل بما فيهم الجيل الذي نزل فيه القرآن ، والمفسرون من كافة المسلمين لم يفهموا المعنى الذي جاء به بعض الفلاسفة والعرفاء . وهذا بحد ذاته يدل على أن الموافق لظاهر القرآن ما فهمه المسلمون والمفسرون من كافة المذاهب أن الجزاء هو أمر اعتباري بيد الله عز وجل ، وما جاء به بعض الفلاسفة والعرفاء ثم شاع هذا المعنى مؤخرا في أوساطهم من أن الجزاء يتجسم في ذات العمل هو مخالف لظواهر النصوص الدينية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ) سورة الفتح :10.
[2] ) سورة الأنعام : 18 .
[3] ) سورة طه :5.
[4] ) سورة الإسراء :64.
[5] ) سورة القلم :41ـ42.
[6] ) تفسير القمي،ج2،ص383.